علي عزت بيجوفتش.. الفكر في ظلال الحرب
علي عزت بيجوفيتش مفكر وفيلسوف إسلامي وزعيم سياسي بوسني، ناضل من أجل استقلال البوسنة واختير رئيسا لجمهورية البوسنة والهرسك بعد استقلالها عام 1992، وكان أول رئيس للمجلس الرئاسي في البلاد عام 1995 بعد انتهاء حقبة حرب الاستقلال وما شهدته من تطهير عرقي مارسه الصرب على المسلمين.
النشأة والتكوين
ولد علي عزت بيجوفيتش يوم 8 أغسطس/آب عام 1925 في شاباتس بالبوسنة، لأسرة عريقة في الإسلام يمتد وجودها في البوسنة إلى أيام حكم الدولة العثمانية لمنطقة البلقان، وتلقى تعليمه في مدارس العاصمة سراييفو وحصل فيها على الشهادة الثانوية عام 1943. بعدها التحق بجامعة سراييفو حيث نال شهادة البكالوريوس في الحقوق 1950، ثم الدكتوراه 1962. وحصل على شهادة في المحاماة عام 1962، وشهادة عليا في الاقتصاد 1964.
أتقن عدة لغات أجنبية، بينها الألمانية والفرنسية والإنجليزية والعربية. ويعتبر العربية وسيلته للاتصال بالقرآن الكريم والاطلاع على التيارات الإسلامية وتجاربها الفكرية.
المناصب التى تولاها
عمل بيجوفيتش مستشاراً قانونياً لمدة 25 سنة، ثم تفرغ للبحث والكتابة والعمل السياسي. وشغل منصب رئيس “جمهورية البوسنة والهرسك الاشتراكية” في الفترة من ديسمبر/كانون الأول 1990 إلى 3 مارس/آذار 1992، ومنصب رئيس “جمهورية البوسنة والهرسك” من 3 مارس/آذار 1992 إلى 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1996، وترأس المجلس الرئاسي للبوسنة والهرسك مرتين بعد نهاية الحرب.
الحياة السياسية
اصطدم بيجوفيتش بالسلطة في وقت مبكر بسبب اهتماماته الفكرية الإسلامية المغايرة للمواقف الشيوعية الحاكمة في يوغسلافيا التي كانت البوسنة جزءا منها آنذاك، حيث انضم في شبابه إلى منظمة الشبان المسلمين التي تأسست في سراييفو على غرار جماعة الإخوان المسلمين بمصر، وحكم عليه عام 1946 بالسجن لمدة ثلاث سنوات، واشتهر في يوغسلافيا عندما ألف كتاب “البيان الإسلامي” الذي قـُدم بسببه للحاكمة في سراييفو عام 1983 مع 12 مثقفا بتهمة “الأصولية”، وحكم عليه بالسجن مرة أخرى لمدة 14 سنة، ثم أطلق سراحه أخيرا في نهاية 1988.
ساهم بيجوفيتش عام 1990 في تأسيس حزب العمل القومي الذي أصبح من أكبر الأحزاب في البوسنة، وأصبح رئيسا للحزب في مايو 1990، وفي فبراير 1991 دعا إلى استفتاء وطني بشأن استقلال البوسنة عن يوغسلافيا، وقد أيد 99,4% من المصوتين الاستقلال وبلغت نسبة المشاركة 67٪، وأعلن عزت بيجوفيتش استقلال البلاد في مارس 1992، واعترف العالم بالبوسنة في 22 مايو 1992 ونالت عضوية الأمم المتحدة.
أُعلِن بيجوفيتش رئيسا لجمهورية البوسنة والهرسك في 3 مارس 1992 وظل في هذا المنصب رسميا على الأقل حتى 5 أكتوبر 1996، لكن العالم الذي اعترف بالبوسنة لم يحم استقلالها خلافا لما توقعه بيجوفيتش، فقد اندلعت حرب تطهير عرقي على الفور في جميع أنحاء البلاد، وارتكبت القوات الصربية المدعومة من يوغسلافيا فظائع بحق السكان الأصليين من غير الصرب وخصوصا من المسلمين، حيث قتلت منهم مئات الآلاف وأقامت مقابر جماعية سرية واغتصبت آلاف البوسنيات المسلمات، وفي 1994 تدخل حلف الناتو في الصراع وشن غارات جوية ضد قوات صرب البوسنة، مما أجبرها لاحقا على الانسحاب من العاصمة سراييفو في سبتمبر عام 1995.
انتهت الحرب بعد التوقيع على اتفاقية دايتون للسلام في الولايات المتحدة يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1995، وبموجب الاتفاقية وضعت ترتيبات انتقالية جديدة قضت بانتخاب مجلس رئاسي، يتناوب عليه زعماء من المسلمين والكروات والصرب.
ظل عزت بيجوفيتش في صدارة المشهد السياسي حيث كان أول من شغل رئاسة هذا المجلس في الفترة من 15 أكتوبر 1996 وحتى 13 أكتوبر 1998، كما قاد المجلس مرة أخرى في الفترة من 14 فبراير 2000 إلى 14 أكتوبر من ذات العام.
المنطلقات الفكرية
يرى بيجوفيتش أن تركيبة الإنسان مرتبطة تمام الارتباط بثنائية الإنسان والطبيعة، أى باختلاف الواحد عن الآخر رغم تفاعلهما، وهذه الثنائية هي نقطة انطلاقه والركيزة الأساسية لنظامه الفلسفي ومن خلالها يُقدَم الإسلام إلى الغرب.
فالإسلام ينطلق من ثنائية الخالق والمخلوق والإنسان والمادة، والثنائية على عكس الواحدية تتفق مع إنسانية الإنسان، فهي مصدر تركيبته وهي التي تفصله عن عالم الطبيعة والمادة. ثم يبين بيجوفيتش أن الرؤية الإسلامية للكون تنطلق من هذه الثنائية التي تتبدى في كل جوانب الإسلام بما في ذلك أركانه الخمسة.
وهو يرى أن من المستحيل تطبيق الإسلام انطلاقا من مستوى واحدي، فثنائية المادي والروحي تقع في صميمه، فالصلاة -وهي نشاط روحي- لا يمكن أداؤها أداءً صحيحا إلا من خلال إجراءات علمية بضبط الوقت والاتجاه في المكان.
المؤلفات
ألف بيجوفيتش العديد من الكتب ذات الطابع الفكري والسياسي منطلقا من رؤيته وفهمه لعالمية رسالة الإسلام وتعاليمه، ودعا في أطروحاته ونظرياته إلى التسامح والتعايش بين مختلف الأديان والأعراق.
ومن أبرز مصنفاته: “البيان الإسلامي”، و”عوائق النهضة الإسلامية”، و”الإسلام بين الشرق والغرب”، وتوج عمله في التأليف نهاية 1999 بنشر مذكراته “هروبي إلى الحرية” التي سجل فيها ملاحظاته داخل السجن خلال 1983-1988.
جولة فى أهم مؤلفات بيجوفتش
1- كتاب الإسلام بين الشرق والغرب
يعتبر كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب” موسوعة فلسفية فكرية كاملة؛ فهو يتناول أهم القضايا الفلسفية والفكرية المعاصرة التي تشغل العالم حتى الآن، فالكتاب وفقاً لبيجوفتش يحاول أن يجيب عن سؤال ما هو موقف الإسلام من الصدام الأيدلوجي الذى يصيب العالم وهل للإسلام دور فى تشكيل هذا العالم الحاضر؟
ويقول في هذا: “لكي نفهم العالم فهمًا صحيحًا لا بد أن نعرف المصادر الحقيقية للأفكار التي تحكم هذا العالم وأن نعرف معانيها”.
2- كتاب الإعلان الإسلامي
يتناول ظاهرة التخلف بين الشعوب الإسلامية، وطبيعة المشروع أو النظام الإسلامي وأبعاده وعناصره.. فيعرض لإشكاليات النظام الإسلامي، وأن الإسلام ليس مجرد دين، وعلاقة الإسلام بالنصرانية واليهودية، ورأيه في الرأسمالية والاشتراكية.
وبسبب هذا الكتاب حوكم بيجوفيتش وزج به في السجن، وقد أعيدت المحاكمة وسقطت التهم التي وجهت إليه، وظل الكتاب ومبادئه متداولاً بين المسلمين في البوسنة والهرسك.
يشكل هذا الكتاب جزءا من مشروع بيجوفيتش للنهضة في العالم الإسلامي.. ويوجه الكاتب فيه الخطاب إلى المسلمين، الذين يدركون حقيقة انتمائهم للإسلام، والذين تحدثهم قلوبهم حديثا صريحا واضحا، عن طبيعة ولائهم للإسلام.
في الفصل الأول: يحاول المؤلف تشخيص ظاهرة تخلف الشعوب الإسلامية، وفي الفصل الثاني: يتناول طبيعة المشروع الإسلامي، أو النظام الإسلامي الذي يدعو إليه ويوضح أبعاده وعناصره، وفي الفصل الثالث: يعالج المشكلات الأساسية التي تواجه النظام الإسلامي.
3- كتاب “هروبي إلى الحرية: أوراق السجن (1983-1988)”.
يتناول هذا الكتاب مجموعة كتابات بيجوفيتش في سجن فوتشا بين عامي 1983 و1988، وهي عبارة عن أفكار وخواطر متفرقة، عبر فيها عن طموحات المسلمين البوشناق وباقي العرقيات في البوسنة، (خاصة مع الخصوصية المميزة لدولة كالبوسنة والهرسك وربما كل دول البلقان، والتي يرتبط فيها العرق بالدين بشكل وثيق)، وجمع فيها خلاصة توجهاته وحشداً هائلاً من التأملات والاعتقادات في شتى المواضيع السياسية والفكرية والفلسفية التي ميزت فكره المتفرد والمختلف.
يضم الكتاب فصلا كاملا أضاف فيه بيجوفيتش ملاحظات وهوامش لكتابه السابق “الإسلام بين الشرق والغرب” ومن الخطأ الاطلاع على كتاب “هروبي إلى الحرية” قبل ذلك الكتاب.
4- كتاب عوائق النهضة الإسلامية
عبارة عن مجموعة من المقالات المتفرقة للرئيس بيجوفيتش، يتحدث فيها عن النهضة الإسلامية والعوائق وعوامل البناء الصحيح، ويحتوي الكتاب على إحدى عشرة مقالة هي: ما سبب تخلف المسلمين، المرأة المسلمة زوجة وأما، تأملات بمناسبة الذكرى الألف والأربعمائة لنزول القرآن الكريم، المسلمون وإسرائيل، الإسلام والمعاصرة، هل نربي المسلمين أم الجبناء، نحو الثورة الإسلامية، كيف نقرأ القرآن، تأملات في الهجرة النبوية، رسول الله محمد، الإسلام وكفاح الشعوب.
الأوسمة والجوائز
في عام 1994 منحت السعودية بيجوفيتش جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، كما حصل على جائزة مولانا جلال الدين الرومي الدولية لخدمة الإسلام في تركيا، وجائزة الدفاع عن الديمقراطية الدولية من المركز الأمريكي للدفاع عن الديمقراطيات والحريات.
وفي 2001 اختير “الشخصية الإسلامية” لجائزة دبي الدولية للقرآن الكريم باعتباره من المفكرين الذين أسهموا في دعم الفكر الإسلامي، كما منحته دولة قطر قلادة الاستقلال.
وفي 19 أكتوبر/تشرين الأول عام 2007 افتتحت حكومة إقليم سراييفو متحفا يحمل اسم بيجوفيتش، وذلك في الذكرى الرابعة لوفاته.
الوفاة
توفي علي عزت بيجوفيتش يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول 2003 في مستشفى بسراييفو، حيث أدخل إليه في العاشر من ذات الشهر بعدما أغمي عليه فسقط أرضا، ما أسفر عن إصابته بكسور في أربعة من أضلاعه، ثم شيعه أكثر من مائتيْ ألف بوسني، ودفن في مقبرة الشهداء حيث قبور الجنود البوسنيين الذين قتلوا في الحرب البوسنية بين عاميْ 1992 و1995.
وفي 11 أغسطس/آب 2006 ألحق انفجار قنبلة أضرارا بقبره، ولم يُعرف ما إن كان الأمر يتعلق بلغم قديم أو نتيجة عملية مدبرة.
(المصدر: موقع اعتدال)