مقالاتمقالات مختارة

على هامش موسم “نوبل”.. أين المسلمون المعاصرون من علوم العمران؟!

على هامش موسم “نوبل”.. أين المسلمون المعاصرون من علوم العمران؟!

بقلم أحمد التلاوي

نمر هذه الآونة بموسم توزيع جوائز “نوبل” في مجالات العلوم المختلفة؛ الطب والفيزياء والاقتصاد وغيرها.

وفي حقيقة الأمر؛ فإنه في كل موسم سنوي لتوزيع هذه الجوائز التي تُعتبر أهم شهادة اعتراف دولية بكفاءة وقدرة الحاصلين عليها؛ فإن هناك الكثير من الشجون التي تثيرها في كل عام عن حال المسلمين في الميدان الأشمل الذي تعبر عنه هذه الجوائز، وهو ميدان السباق الحضاري، وهو للأسف ميدان لا يمكن بحال أن يزعم قائلٌ بأننا كمسلمين، شعوباً وأمة، متواجدين فيه بأية صورة.

فلو إننا ابتعدنا قليلاً عن مجالَيْ “نوبل” للآداب والسلام، واللذان تطغى عليهما اعتبارات السياسة أكثر من اعتبارات الكفاءة في غالب الحال؛ فإننا سوف نقف أمام مفارقة محزنة.

وتتعلق هذه المفارقة بأن المجالات التي تُمْنَح فيها جوائز “نوبل” في مجالات العلوم الطبيعية والإنسانية – علم “الاقتصاد” يُصنَّف ضمن العلوم الإنسانية، والتي منها الإدارة والاجتماع – والتي هي من صميم أدوات الإنسانية في تعمير الأرض، وتحقيق سُنَّة التسخير؛ هذه العلوم؛ المسلمون المعاصرون هم من أبعد ما يكون عن الإضافة الحقيقية والإبداع وتقديم الجديد فيها، الذي يبدِّل الصورة، ويساهم في تحسين حياة الإنسان على الأرض.

المسلمون المعاصرون هم من أبعد ما يكون عن الإضافة الحقيقية والإبداع وتقديم الجديد في مجالي العلوم الطبيعية والإنسانية، اللذان يبدِّلان الصورة، ويساهمان في تحسين حياة الإنسان على الأرض

يأتي ذلك بالرغم من ارتباط هذه الأمور بصميم تكاليف الإنسان، وفلسفة أداء الأمانة كما وردت في القرآن الكريم، واستعرضناها في موضع سابق من الحديث.

فمن بين الأمور المهمة التي حددها القرآن الكريم بوضوح في شأن خلق اللهِ عز وجل للإنسان؛ لماذا خلقه وأنزله إلى الأرض؛ قضية استخلاف بني آدم في الأرض، واستعمار الله سبحانه وتعالى لهم عليها.

يقول تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سُورة “هود” – من الآية 61]، ويقول تعالى أيضًا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سُورة “البقرة” – من الآية 30].

والاستخلاف في القرآن الكريم متعدد المعاني؛ حيث إنه بجانب المعنى العام المتعارف عليه؛ فإنه قد يرتبط بسُنَّة التمكين ، فيقول الله سبحانه في موضع آخر من القرآن الكريم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ} [سُورة “النور” – من الآية 55]، فهنا نجد تشابهًا كبيرًا بين معنى الاستخلاف ومعنى التمكين الوارد في سُورة “الحَج” مثلاً؛ عندما يقول عز وجل: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41)}.

ففي الأصل؛ فإن مفهوم “التمكين” في القرآن الكريم، كما ورد في أكثر من آية تتقاطع مع آيات الاستخلاف والتسخير في الكثير من المعاني والألفاظ؛ لا يعني فقط المعنى الشائع المتعارف عليه لدى الحركة الإسلامية في عصرنا الحالي، والذي يتعلق بمسألة الحكم الإسلامي، وإنما هو مفهوم أشمل يتعلق بتمكُّن الإنسان من مفردات حياته على الأرض، واستغلال ثرواتها وكل ما فيها لتحقيق منافع له.

إن مفهوم “التمكين” في القرآن الكريم، كما ورد في أكثر من آية هو مفهوم شامل، يتعلق بتمكُّن الإنسان من مفردات حياته على الأرض، واستغلال ثرواتها وكل ما فيها لتحقيق منافع له

في هذا الإطار، احتاج الإنسان إلى الكثير من الأمور التطبيقية التي تحقق سُنن الله عز وجل في هذه الاتجاهات؛ أي في إنفاذ رسالة الاستخلاف واستعمار الأرض بالمفهوم الإيجابي لمصطلح الاستعمار، وليس بالمفهوم السلبي الذي عُبِّئ به فيما يهص موجات الغزو الأوروبي لعالمنا الإسلامي قبل قرون عدة.

وهنا يظهر لنا ما أطلق عليه عبد الرحمن بن خلدون مسمَّى “العمران”، وعُرِفَ في عصرنا الحديث بمفهوم علم الاجتماع والذي يشمل الاجتماع الإنساني والاجتماع السياسي.

ولكن قبل النظر في هذا الأمر؛ فإنه تنبغي الإشارة إلى أمر يوضح أهمية هذا الموضع من الحديث؛ حيث إن ذلك كله مرتبط بأساس حكمة وغرض رب العزة سبحانه من خلق الإنسان، وهو عبادة الله عز وجل، وإقامة عقيدة التوحيد.

واسترسالاً مع سياق الحديث الأساسي؛ فإن هذه الأمور جميعها ترتبط بأكثر من سُنَّة تكلَّم عنها القرآن الكريم بوضوح، مثل سُنَّة تسخير المخلوقات للإنسان، والتي هي بدورها تسهم في سُنَّة تمكين الإنسان بشكل عام من الأرض، وتساعده في الاستمرار في الحياة عليها إلى أن يأذن الله عز وجل.

وهذه السُّنَّة بدورها متصلة بسُنَّة الاستخلاف وسُنَّة تمكين الإنسان من الأرض بالمعنى العام للتمكين كما تقدَّم.

فلا يمكن للإنسان القيام بعبادة الله تعالى عبادةً صحيحة، وهو جائع أو غير آمن ، وهذه العلوم البحتة، الطبيعية والإنسانية، ومجالاتها التطبيقية؛ إنما هي من أهم ما يكون بالنسبة لمسألة الاستخلاف وعمارة الأرض.

وهنا؛ فإننا أمام مجموعة من العلوم والأنشطة البشرية التي لا يمكن معها إعمار الأرض، وتسخير مواردها للإنسان بالصورة التي تحقق الأهداف والسُّنَن السابقة، من دونها.

وكانت البداية في الزراعة، والتي ساعدت الإنسان على الاستقرار في مكان واحد، والكف عن الترحال والتخلي عن حياة البداوة الأولى، وتوفير الطعام بصورة أكثر وفرة وانتظامًا مما كان عليه قبل ذلك، وكانت النتيجة المنطقية لذلك، هو بدء الإنسان في إقامة المجتمعات المستقرة من خلال البناء العمراني بالمعنى المباشر، والذي بدأ ريفيًّا، قبل أن تتحول التجمعات الإنسانية الريفية إلى مدن ومجتمعات مدينية حضرية.

وهنا ظهرت أهمية الهندسة، وبالذات في المجال المعماري؛ حيث علم الهندسة هي أساس عملية تخطيط الأراضي الزراعية وعملية بناء البيوت وما اتصل بذلك من أنشطة بشرية إستراتيجية الطابع.

وبنفس المفهوم؛ لدينا علوم وأنشطة على أكبر قدر من الأهمية؛ فهناك الحساب الذي قاد – ضمن ما قاد إليه – إلى نتيجة عمرانية من أهم ما يكون، وهو مساعدة الناس على التعامل فيما بينهم، ولاسيما التعامل التجاري، وهو ما يحقق سُنَّة تكلم عنها القرآن الكريم أيضًا، وهي سُنَّة التعارف بين البشر، والتكامل فيما بينهم.

وعلى هذا النحو، نجد أهمية الطب، والذي يحمي أهم عمران خلقه الله تعالى، وهو الإنسان؛ حيث بني آدم هم حملة الأمانة، والمُكَلَّفين بإقامة الشريعة، وأداء عقيدة التوحيد على أكمل وجه.

والفيزياء والكيمياء كذلك، وكلاهما هي من بين المجالات التي تُمنَح لأجلها جوائز “نوبل”؛ هما أساس مهم للغاية في سُنَّة التسخير؛ حيث العِلْمان معنيان بدراسة خصائص المواد الطبيعية، وكيفية تطويعها أو حتى تغيير صفاتها بالصورة التي تحقق الاستغلال الأمثل لها، وهو أمر في الامتدادات والتشعبات الخاصة به؛ يتصل بأنشطة التعدين واستغلال مصادر الطاقة المختلفة.

وكذلك الاقتصاد والاجتماع والإدارة؛ لو تم بحثها بهذا المنطق من التفكير الذي ينظر للأمور نظرة تعيدها إلى أصولها وجذر الأهداف والغايات منها؛ لوجدنا أنها كلها علوم تساهم في تحقيق أمور تتضافر مع بعضها البعض لكي تحقق السُّنَن العلوية الأشمل، وهي الاستخلاف وما يتصل به من عمران.

وهذا المُدرَك كان حاضرًا ربما بشكل بديهي في عصور الازدهار الحضاري للأمة المسلمة؛ حيث إنه كان من نافلة القول التأكيد على فضل العلماء المسلمين على العالم بأسره، وسيكون من قبيل إهدار الوقت والكلمات الإشارة إلى أمر اعترف به علماء الغرب أنفسهم، وفي مكتباتهم؛ تجدهم يضعون في أعلى مكانة، كتب علماء المسلمين الذين لا يحصرهم العد، وبزغوا في كل المجالات، بل ووضعوا أسس علومًا ضخمة وشديدة الأهمية، مثل الجغرافيا والضوء والكيمياء والجبر، وغير ذلك.

لكن النقطة الأهم الواجب الإشارة إليها في طبيعة هذا المُدْرَك لدى المسلمين في الماضي، هو أنهم كانوا يعتبرون العلوم الطبيعية والتطبيقية، أو ما يُعرَف بالعلم المادي (لأنه متصل بالمادة بالمعنى الشامل، أي مهما كانت صورتها أو وسيلة قياسها، وحتى لو لم تكُن تدرَك بالحواس العادية) أو العلم الدنيوي كما يسميه بعض علماء المسلمين؛ كانوا يعتبرون هذه العلوم صنو أو شطر تعلُّم الدين.

كان المسلمون في الماضي يعتبرون العلوم الطبيعية والتطبيقية، أو ما يُعرَف بالعلم المادي  أو العلم الدنيوي صنو أو شطر تعلُّم الدين

فكان من الطبيعي أن تجد علماء المسلمين القدامى، في الأصل، فقهاء ومتخصين في الكثير من العلوم الشرعية الأخرى .

وكان هذا أمر مطلوب في كل من يتولى وظيفة عامة في الأصل؛ فابن خلدون كان قاضيًا؛ حيث كان القاضي في ذلك الحين ينبغي أن يكون على أعلى درجات التأهيل في أحكام الشريعة، والطبيب البيروني كان فقيهًا، واستعمل فقهه هذا في ترشيد تعامله مع الجسم البشري خلال دراسته للدورة الدموية وعلوم الطب البشري بشكل عام، وهكذا.

هذه الصورة لا أحد يعلم لماذا هي غير قائمة في عصرنا الراهن، بل إننا نجد بعض طرائق ومدارس التفكير التي تنسب نفسها لهذا المذهب أو ذاك، التي تحرِّم دراسة العلوم المادية أو الدنيوية بالكامل.

ونعلم جميعًا الجدل الغريب الذي ثار حول آية “الشعراء” الشهيرة، والتي فيها يقول الله تعالى على لسان نبيه إبراهيم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80)}، والتي حرَّموا بموجبها العلاج الطبي بالمطلق، في مغالطة منطقية تدل على أن أصحابها لا يعرفون أي شيء آخر أو يقرؤوا أي آية أخرى من القرآن الكريم، ولا يعلمون قاعدة عَقَدِية بديهية، وهي أن الإيمان بالأسباب، هو من الإيمان برب الأسباب.

وتجاوز هؤلاء مُدْرَكًا مهمًّا للغاية، وهو كل هذه العلوم، وقوانينها، وقوانين وقواعد العمل والتعامل بها؛ إنما هي في النهاية توظيف لقوانين وطبائع معينة خلقها الله تعالى في المادة، أية مادة، ووضعها في خلقه.

ولقد قادت مثل هذه المدارس من التفكير التي جرى فرض سيطرتها على نطاق واسع بالتعاون بين أطراف عديدة لا تريد للأمة أن تفهم دينها، لأنها لو فهمت دينها؛ سوف تنهض مرة أخرى، من أنظمة وحكومات مستبدة، وقوى استعمارية عالمية؛ قادت إلى الوضع الراهن؛ حيث لا نجد بين علماء “نوبل” أي عالم مسلم إلا فيما ندر، ويكون في الغالب قد حصل عليها نتيجة لعمله ونشاطه العلمي في بلد متقدم علميًّا مثل الولايات المتحدة.

وتبقى الإشارة في هذا الصدد، إلى أن “نوبل” لا تعني مجرد الجائزة التي يتم الحصول عليها، وإنما هذه الجائزة يتم الحصول عليها بناء على منجَز لا يتحقق إلا من خلال بنية علمية شاملة، وهذه البنية بدورها لا تقوم إلا على أساس شامل من البُنَى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تدعم ذلك.

ومن هنا؛ فإن الطريق إلى “نوبل” يعني ببساطة، الطريق إلى نهضة الأمة !

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى