مقالاتمقالات المنتدى

على هامشِ مجلسِ العلماءِ في السليمانية

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحِيم

 

على هامشِ مجلسِ العلماءِ في السليمانية

 

بقلم الشيخ العلامة الصادق بن عبد الرحمن الغرياني 

 

جمعٌ عُلمائِيٌّ رفيعٌ؛ انعقدَ احتفاءً وتكريمًا لشيخنا الحبيبِ، الشيخ محمد عوامَة حفظه الله، بمناسبةِ انتهائِه مِن شرحِ وتدريسِ كتابِ (تدريب الرَّاوِي) في علومِ الحديث، قضَى فيه مع طلابِه سبعَ سنواتٍ، وعَقدَ الشيخُ في هذا الجمعِ الحاشدِ من العلماءِ مع طلابهِ مجلسَهم الأخير لسماعِ الكتابِ، بقراءةِ وشرحِ آخِرِ ورقةٍ منه، ثم ذكرَ إسنادَه إلى مؤلِّفَيْ الكتابِ؛ الإمامِ السّيُوطِي والإمامِ النّووِي، وأجازَ طلابَه بذلكَ، بحضورِ ورعايةِ الرئيسِ التركيِّ رجب طيب أردوغان، الذي كانَ بالمجلسِ.

وأُعْلنَ أيضًا في هذا المجلسِ، عن انتهاءِ الشيخِ من عملِهِ العلمِيّ التصحيحِيّ التوثيقِي، لـ(جَامِع الإمامِ الترْمِذِيّ)، وأنه أُسنِدَ إليه تحقيقُ كتابِ (شرح الزرقانِيّ على المواهبِ اللّدُنِيَّة).

وقد أقيمَ هذا المجلسُ العلميّ بمسجدِ السّليمانية، الذي أسسَه الخليفةُ العثماني سليمانُ القانوني، قبلَ خمسِمائةِ عام، وكان قدْ أَلحَقَ به دارًا للحديثِ، ومدارسَ أخرى، لحقَها في العصورِ المتأخرةِ الخرابُ، وقد أحْياها الآنَ الرئيسُ التركيّ، وأسندَ مشيختَها إلى الشيخِ محمد عوامَة حفظَه الله.

فجزَى اللهُ الرئيسَ التركيّ خيرًا على ذلكَ، وعلى استضافتِهِ العلماءَ الذين رفعهم الله درجات، وحمايتِهم من ملاحقةِ الظّلَمةِ في بُلدانِهم وغيرِ بُلدانِهم، وفَتْحِ بابِه لهم واستقبالِهم، وعلى رعايتِهِ لأعمالِهم العلميةِ، وعلى رأسِها المجهوداتُ الحديثيةُ المتميزةُ لصاحبِ القدمِ الراسخِ في هذا الشأنِ؛ فضيلة الشيخ محمد عوامة.

وسأذكرُ كيفَ يكونُ العمل متميزًا.
هناكَ أعمالٌ علميةٌ للعلماء تستمرُّ حيةً لا تموتُ، تَحْمل في ذاتها تَجَدُّدَها، فلا يُستغنَى عنها بما يَجِدُّ عليها من أعمالٍ ومؤلفاتٍ، ولا بما أتاحتهُ الثورةُ المعلوماتية الهائلةُ عبر وسائلِ التقنيةِ الحديثة.

وهناك أعمالٌ علميةٌ أخرى تعيشُ وقتًا من الزمانِ، ثم تختفِي ويُستغنَى عنها.
فمثلًا؛ مَن قامَ بعملٍ علميّ في تحقيق كتاب قبل أربعينَ عامًا، ومَلأ حواشيَه بالمباحثِ المطَوّلةِ في فنون العلومِ، أخْبَار وأشْعار وآثَار ورِوايَات وتخْريجات حَديثِيّة، ومَا إلى ذلكَ.
هذا العملُ وإن كان دخيلًا على التحقيق العلمي، فإنه في وقتِهِ قبل أربعينَ عامًا كانَ محلَّ قَبولٍ واستحسانٍ عند الناس، لأنه تجميعٌ معلوماتيٌّ ومعرفيٌّ، يُشعر القارئَ بأنه يستفيدُ منه، لتجميعِهِ في مكانٍ واحدٍ، لكنه الآنَ لم يَعُد كذلك، فقد استغنى عنه القارئُ بقدرتِهِ على إحضارِ أفضلَ وأوسعَ منه عبْرَ وسائلِ التقنيةِ، بما هو أسرعُ وأيسرُ.

وعلى الجانبِ الآخرِ مثلا؛ التصحيحاتُ لألفاظِ الحديثِ الشريفِ، التي قامَ بها فضيلةُ الشيخ محمد عوامة مِن خلال تحقيقِه لسننِ أبي داود، ولجامعِ الترمذي، لا يجدُها القارئُ في مكانٍ آخر، ولا تسعفُهُ بها وسائلُ التقنية بما وفرتْهُ من معلوماتٍ، فمثلُ هذا العملِ متجددٌ لا يُستغنَى عنه.

وقُل مثلَ ذلك في جانب التأليفِ، فكتابُ (أثر الحديثِ الشريف في اختلافِ الفقهاء) الذي ألفهُ الشيخ قبل أربعينَ عامًا تقريبًا، لا يزالُ على رأسِ المصادرِ في بابه، ولا يستغنَى عنه.

فالفرقُ بين ما يثبتُ من الأعمال العلمية ويتجَددُ، وبين ما لا يثبُتُ ويُستغنَى عنه مع الأيام، كالفرقِ بين الأصليّ والمقلَّدِ في الصناعاتِ.

والذي جَرَى في هذا المجلسِ من إسنادِ العلمِ وختمِ الكتبِ، هو مِن العمل القديمِ، الذي مضتْ به سنّةُ العلماءِ والخلفاءِ في المساجد.

لكن الشّيء الوحيد الذي افتقَدَه مجلسُ مَن أخذَ اللهُ عليهم الميثاقَ؛ هو دورُ المسجدِ والعلماءِ في الجهاد، فقد غابَ عن المجلس مُصابُ مقدساتِ ديارِ الإسلامِ التي تُدَنّس، ومُصاب أهلِ غزةَ وأكنافِ بيتِ المقدسِ العُزّل، الذينَ يُقصَفُون داخلَ بيوتِهم على مدَى أشهرٍ عديدةٍ متواصلةٍ، والإصاباتُ فيهم بينَ قتلَى وجرحَى كلَّ يومٍ بالمئاتِ، على مَرأى ومَسمع مِن العالَم، وكأنهم ليسُوا بشرًا!!

وأقلُّ مصابِهم على مدَى هذه الأشهر الطويلة الخوفُ الدائمُ، الذي لا يجدونَ معه مكانًا آمنًا، مع التجويعِ والتهجيرِ.

وإنْ تعجَبْ فعجبٌ أن يَغفُل العلماءُ في كلماتهم عن كلّ ذلك، ولا يتعرّضوا له في مجلسِهم العلمي، ونسبةٌ كبيرةٌ منهم أنفسهم مسَّهُم التهْجير، جرَّعَهُم الصهاينةُ عن طريقٍ حكام بلدانِهم مِن نفسِ الكأسِ التي يتجرعُها أهلُ فلسطين!

فمتى نُدركُ أنّ ما يجري في غزةَ وأكنافِها، وما في بلادِ العربِ الأخرى، هو معركةٌ واحدةٌ مع عدوّ واحدٍ، وإن اختلفتْ جبهاتُها؟!

كان المنتظَرُ من العلماءِ في خُطبِهم – ولَو مِن بابِ الدفاعِ عن النفسِ – تحميلَ حكامِ المسلمين مسؤولياتِهم، وبخاصةٍ أنه كان معَهم في المجلسِ الرئيسُ التركيّ، أحدُ كبارِ حكامِ المسلمين، ومِن أحفادِ فاتح القسطنطينية، السلطان محمد الفاتح، ناصرُ المسلمينَ في وقتِه.

كان المنتظرُ أنْ يقولوا للرئيسِ التركيّ، ولغيره من حكامِ المسلمين:
النجدةَ النجدةَ لمقدساتِ ديارِكم!
وأنّ الحرب على غزة حربٌ تَحالفَ فيها اليهود والنصارَى، على قلةٍ مسلمةٍ مستضعَفَةٍ؛ لإبادتِهم ومحوِهِم مِن الوُجود.

نساءُ غزةَ وأطفالُ غزة تُنتَهك حرماتُهم، ويُعَرّيهم العدوُ من ثيابهم، وتقطعُ أوصالُهم، ينتظرونُ نخوةَ معتصمٍ يحمِي أعراضَهم.

يستصرِخونَ بكم… يستصرخونَ بالعلماءِ أنْ يبينُوا… ويستصرخونَ بالحكامِ أنْ ينتصرُوا، فاللهُ تباركَ وتعالى يقول: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ)، والعهدُ والميثاقُ مع العدوِّ الوفاءُ به مشروطٌ بقولِ الله تعالى: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ)، فإذا اعتَدَوْا على المسلمينَ وقاتَلُوهم نُقضتْ عهودُهم، فلا عهدَ ولا ميثاقَ!

كانَ المنتظرُ في هذا الجمعِ المباركِ أن يقولَ العلماءُ لحكامِ المسلِمين:
لديكُم أوراقٌ كثيرةٌ للضغطِ على أمريكا، لوقفِ عدوانِها على غزةَ وتجويعِها، لم تستخدِمُوها، وإن لم تستخدمُوها الآنَ فمتَى تستخدمونها؟!

وإذا لم يبينِ العلماءُ للحكامِ الآن، ويجلدُوهُم بسياطِ التخويفِ والترهيبِ مِن عذابِ الله، القائلِ: (إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا)، فمتَى يبينُ العلماء؟!

كلُّ ما أقولُه في هذا الشأنِ لا يتناسبُ مع حجمِ المصيبة والمأساةِ!
إنها حربُ إبادةٍ وتطهيرٍ عِرقيٍّ، لا تُبقِي ولا تَذَر!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى