علمانيتهم وعلمانيتنا.. هل العقل الغربي علماني صرف؟
بقلم أحمد القاسمي
تعود نشأة العلمانية إلى التنازع بين الدين والسياسة في المجتمعات المسيحية أساسا. فقد ظلت السلطة فيها حتى نهاية القرن الثامن عشر ذات رأسين، رأس ديني وثان مدني. ولا بدّ من الحفر في التاريخ البعيد لنفهم طبيعة هذه العلاقة المركّبة. فقد انتشرت المسيحية أوّل أمرها في بلاد الرومان. وتمّ ذلك بحماية إمبراطورية. ولكن ما إن استقرّ لها الأمر وبسطت سلطانها وأضحت ديانة رسميّة واستبطنها المؤمنون فتسللت قيمها إلى لاوعيهم حتى تحولت إلى طرف ينازع الحُكم الإمبراطوري النفوذَ ويطمح إلى سحب البساط من تحت قدميه. وأخذ كلّ طرف يسحب المباركة الدينية إلى جانبه فنشأت نظريتان متصادمتان هما نظرية العناية الإلهية التي كرّسها أباطرة طغاة من أمثال كاليغولا ونيرون. وكانت تدفع إلى الاعتقاد بأنّ الله يمنح الحاكم رعايته وأن من يقاوم سلطته يجدّف ويحاول إعاقة هذه العناية المقدسة.
وهذا ما مثّل أرضية لنشأة الحكم التيوقراطي. ونظرية الحق الإلهي. وكان مدارها على أن القانون الإلهي أقوى من أي قانون بشري وأن الكنيسة الكيانُ الوحيد المخول له تجسيد هذا الحق، وأن البابا ممثل الرّب على الأرض.
وانطلاقا من هذه النظرية أمكن للكنيسة أن تستحوذ على قدر معتبر من هذه السلطة ثنائية الرأس. ولم يكن نفوذها دائما في خدمة القيم الدينية النبيلة. فكثيرا ما كان مدخلا لكثير من الجور والفساد. وتتخذ دائرة المعارف البريطانية في مادة البابا الإسكندر السادس من عائلة “بورجيا” أنموذجا لاحتكار السلطة الدينية والزيغ بها عن قيمها. فتذكر أنه وصل إلى البابوية عبر الارتشاء واتخذ له عديد العشيقات على خلاف ما يفرض الدين المسيحي، وأنجب منهن الأبناء خارج أطر الزواج وجمع الثروات الطائلة وجعل مركزه الديني بابًا لحياة البذخ والمجون.
وامتد هذا الصراع إلى كامل أوروبا ولكنّ الرأسين ظلاّ يتعايشان، مرغمين، فيتقاسمان النفوذ والمصالح ويتحالفان ضد بقية طبقات المجتمع أو يُخضع أحدهما الآخر كلّما سمحت موازين القوى، حتى كان عصر التنوير وظهر فلاسفة حاولوا حسم هذه العلاقة الملتبسة بينهما.
1 ـ العلمانية والدين:
يوضح الفيلسوف الألماني أرنست كاسيرير في أثره “فلسفة التنوير، ترجمة إبراهيم أبو هشهش، ص 164، بداية الإصلاح الديني في أوروبا عصر النهضة” فيؤكد أن العلمانية ليست الإلحاد أو اللادينية. فيقول: “كان فولتير يكرر في رسائله دائما ومن دون كلل، صيحته النضالية القديمة: اسحقوا الشائنة وعندما كان فولتير يضيف محترزا أن كفاحه ليس موجها ضد الإيمان وإنما ضد الخرافات وليس ضد الدين وإنما ضد الكنيسة”.
ولم يظهر العداء للدين إلا في مرحلة متأخرة. فــ”الجيل التالي الذي يرى في فولتير قائده الفكري لا يتمسك بهذا التفريق، إذ مضت الحركة الموسوعية الفرنسية قدما في حربها المفتوحة ضد الدين وضد ادعائه السلطة العليا وامتلاك الحقيقة. وكانت تتهم الدين بأنه لم يكن كابحا بشكل دائم للتقدم الفكري فحسب، بل أظهر أيضا إخفاقا في أن يكون أساسا لأخلاق حقيقية ونظام حياتي اجتماعي سياسي عادل”.
وإجمالا عملت الأجيال اللاحقة على حسم هذه العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة. فحوّلت ممتلكات الكنيسة إلى الدولة. وجرّدت نظام الحكم من القداسة التي يعتمدها الحاكم لتبرير استبداده واستئثاره بالموارد والممتلكات وجعلت القيم والمؤسسات بمنأى عن سلطة الكنيسة خاضعة للقانون المدني ووجهت البوصلة إلى حسن المعاش في الأرض قبل الوهم بحسن المعاد في السماء. وألحت على بناء المشترك في الحياة المعاصرة على المادي والعقلاني وترك الروحي للخاص وعلى فهم قيم التضامن ضمن بعدها الإنساني بعيدا عن الدين.
كان هذا على مستوى المقاربات النظرية. ولكن هل تحقّق فعلا الفصل التام بين الدين والسياسة على المستوى العملي في الدولة الأوروبية الحديثة؟
تظلّ الإجابة معقدة ولا شك أنها تحتاج إلى دراسات معمقة في أنساق التفكير وفي فهم الخلفيات التي ينهض عليها العقل الغربي. ولكن ذلك لا يمنعنا من عرض سريع لنماذج كان الدين يتماس فيها مع السياسة في مناطق مختلفة من أوروبا أو العالم الغربي وفي أحقاب متباعدة من التاريخ الحديث.
2 ـ توظيف الدين خدمة للتوسع الاستعماري
لما كان العقل الأوروبي يؤسس لمدنيته في القارة العجوز ويحدّ من تدخل الكنيسة في الشأن العامّ، كان يوظف الدين في السياسة في مستعمراته فيتبنى سياسات إسلامية تخدم أهدافه للسيطرة على الشعوب المستعمرة وترويضها. فقد كانت ألمانيا المتحالفة مع الدولة العثمانية تروّج لنصرتها للإسلام ولصورة إمبراطورها المدافع عن المسلمين حتى أشير إليه بالحاج فيلهلم الثاني. وجزم البعض باعتناقه للدين الإسلامي. وضمن عملها على كسب الرأي العام الإسلامي في إطار منافستها الاستعمارية مع فرنسا وبريطانيا جعلت تروج لوجهها الإسلامي عند أسراه. فتجمعهم في محتشد خاص قرب برلين وتشيد لهم مسجدا داخله تمّ تدشينه في موكب رسمي تلقى فيه كلمة باسم الإمبراطور الألماني ويحضره السفير العثماني. ويدعى إليه الشيخ الزيتوني “محمد الخضر حسين” ليخطب مثمنا هذا الإنجاز قائلا: “إن هذا المبنى رغم أنه لا يحتل إلا مساحة محدودة من التراب الألماني، فإن له ـ في قلوبنا ـ ضعف مساحته”.
وعلى منوالها نسجت بريطانيا فخلقت “إسلاما” مواليا لها، وحركت مشاعر مستعمراتها الدينية لخدمة مصالحها. ولما أسس السلطان عبد الحميد الجامعة الإسلامية لتقوية الصفوف في مواجهة ما يحيق بخلافته من الأخطار الخارجية انتهجت فرنسا العلمانية بدورها سياسة إسلامية. فأشرفت على قوافل الحج وبنت جامع نوجون للمجنّدين من بلدان إسلامية قرب باريس، وأطنبت في الدعاية له ونشرت صوره في البطاقات البريدية. ولم يكن هذا الجامع غير صورة جميلة يراد منها بعدها التأثيري. فسريعا ما أغلق لتداعي بنيانه.
لما كان العقل الأوروبي يؤسس لمدنيته في القارة العجوز ويحدّ من تدخل الكنيسة في الشأن العامّ، كان يوظف الدين في السياسة في مستعمراته فيتبنى سياسات إسلامية تخدم أهدافه للسيطرة على الشعوب المستعمرة وترويضها.
وفي الآن نفسه استثمر هذا العقل حماسة رجال الدين المسيحيين. فعاود السياسيون التحالف معهم. ووجدوا في الاستشراق المتطلّع لمعرفة روح الثقافة الشرقية والإسلامية ضالتهم. فحوّلوا بعض المستشرقين إلى مبشّرين ينشرون الديانة المسيحية بمباركة رسمية يتم فيها التنسيق بين القنصليات والسفارات وقوات الجيش، وفي الآن نفسه كان هؤلاء المستشرقون يهيؤون الأرضية المناسبة للتوسع الإمبريالي الغربي مع تزايد حاجة المجتمعات الصناعية الناشئة إلى المواد الأولية والأسواق.
3 ـ المسيحية مكونا من مكونات الحياة السياسية الأوروبية
لم يفض الصراع بين الكنيسة والسلطات السياسية في أوروبا نفسها إلى الفصل بين الدين والسياسة دائما. فمن نتائجه أنه ظهرت بدايةً من القرن التاسع عشر “ديمقراطية مسيحية” تعمل على الجمع بين المبادئ المسيحية والقيم الديمقراطية مستندة إلى التعاليم الاجتماعية الكاثوليكية منتهجة سياسة محافظة في القضايا الثقافية.
ولعلّ حالة البؤس التي كانت تعانيها الطبقات الأوروبية الدنيا وقتئذ كانت مدخل المسيحية للساحة السياسية من جديد بعنوان “العمل الكاثوليكي الشعبي” وبهدف “النهوض بالأخلاق المسيحية الأصيلة من جديد”. فظهر الحزب الشعبي الإيطالي سنة 1919 ثم تلته أحزاب مسيحية ديمقراطية في معظم دول أوروبا.
ويعدّ الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني أهمها اليوم. فقد ظهر في أربعينات القرن الماضي وعقد مؤتمره التأسيسي سنة 1950 في برلين تحت شعار “تجميع كافة القوى المسيحية الألمانية في اتحاد واحد” ضمن رؤية سياسية تنشد الديمقراطية والفيدرالية وتستند إلى القيم المسيحية وإلى “الفهم المسيحي للإنسان المسؤول أمام الله”. وتحالف مع الاتحاد الاجتماعي المسيحي البافاري.
وظل يقود ألمانيا حتى أيامنا هذه. فمن قادته الذين تولوا منصب مستشار ألمانيا كونراد أديناور ولودفيغ إيرهات وكورت غيورغ كيزينغر وهلموت كول وأنجيلا ميركل. ورغم طابع الحزب المسيحي ظلت أبواب الانخراط فيه مفتوحة أمام كل من يحترم كرامة الإنسان والحريات العامة من كل الشرائح والديانات. ولكن من الأمانة أن نذكر أن سياسته كثيرا ما كانت موضوعا للنقد لكونها تتناقض كلياً مع “هويته المسيحية” وتتعامل انتقائيا معها وفق المتحمسين للديانة المسيحية وكثيرا ما طالبه خصومه بالتخلي عن صفة “المسيحية” في اسمه، لأنها لا تزيد عن دعاية توظف الدين واجهة لاستقطاب الناخبين المحافظين.
4 ـ “عودة المسيح” في السياسات الإسرائيلية والسياسات الأمريكية
تمثل علاقة العقل الغربي بالديانة اليهودية واجهة أخرى تتداعى فيها وجاهة القول بالفصل التام بين الدين والسياسة. فإنشاء دولة إسرائيل الذي خطط له يهود أوروبا أساسا يستند إلى نبوءات أنبياء إسرائيل بـ”أن يجعلهم الله مباركين وسط الأمم المتعددة، فيمنحهم أرض كنعان ويجعل الأرض المقدسة تحت سلطتهم في آخر الزمان” ومن نبوءات التلمود في كتاب الزوهار ورد أن الكنعانيين سيمنعون اليهود من دخول المكان المقدس الذي يأوي الهيكل. ولكنهم سينتهون خدما ينشئون دولة إسرائيل بأيديهم.
ولهذه النبوءات اليوم تأثيرها العميق على سياسيي إسرائيل الذين باتوا يضبطون أهدافهم الإستراتيجية في ضوئها عن قناعة بأنهم يمهدون بذلك “لمجيء المسيح المخلّص” أو استجابة لتطلعات الناخب اليهودي. وهذا ما جعل من إسرائيل، دولة دينية بالأساس، ينص دستورها على يهوديتها وتؤكده سياساتها الخاضعة للجماعات الدينية وتزكيه أوروبا العلمانية ولا ترى فيه ضيرا.
السياسة لم تغسل يديها من الدين بل ظلت تعمل على توظيفه، والعقل الغربي نفسه ليس عقلا عقلانيا صرفا، فالموروث الديني يظل مكوّنا مهما من مكوناته لحضوره في اللاوعي الجماعي أو لتحالفات بين رجال السياسة ورجال الدين تتبادل المصالح والمكاسب على نحو غير معلن.
ولا تؤثر فكرة ظهور المسيح في السياسة الإسرائيلية فحسب. فالإنجيليون بدورهم، يعتقدون في حدث “الولادة الثانية” عندما ينزل المسيح إلى الأرض لينشئ مملكة الله. ولا يكون ذلك إلا بعد قيام دولة إسرائيل أو”إعادة بناء أورشليم”. وهكذا تتقاطع معتقداتهم بشكل ما مع أهداف الحركة الصهيونية. فيناصرون إسرائيل تسريعا لهذه العودة. ولأنهم يمثلون خزّانا انتخابيا معتبرا يقدر بحوالي ربع الناخبين باتت خلفياتهم الدينية أهم عامل موجه للسياسات الأمريكية الخارجية.
وضمن هذا الأفق نفهم اعتماد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على مجموعة من المبشرين الإنجيليين، ورفعه للإنجيل بعد مقتل جورج فلويد أمام كنيسة القديس “يوحنا” في واشنطن وحماسته لدولة إسرائيل وإمعانه في التقرب إليها ونقله لسفارة بلاده إلى القدس واعترافه بالمستعمرات في الضفة الغربية وبضم الجولان متحديا القانون الدولي.
4 ـ العقل العربي ودرس التاريخ
يجدر بنا في نهاية هذه الورقة وفي ضوء ما ذكرنا أن نلقي نظرة تأمل على الصراع المحتدم اليوم في البلدان الإسلامية، خاصة منها التي تتمتع بقدر من حرية التعبير، بين دعاة إقحام الدين في كل مفاصل الحياة السياسية وفي تدبير الشأن العام ودعاة فصله عنها فصلا تاما. فالكثير من المواقف المتشنجة تبنى دون روية وفكر. فنفوّت على أنفسنا تأمل دروس التاريخ والاستفادة من خبرات الأمم وإضاعة الوقت في تجارب تنتهي “إلى أن النار تحرق لامسها”.
فحسبنا أن نعرض أمثلة تبرز أن الوثوق المبالغ فيه وعدم الانفتاح على الآخر المختلف والتحاور معه لا يخدم الفكر ولا السياسة ولا يبني الحضارات.
وضمن هذا الأفق لا بدّ للعقل العربي أن يفهم أن العلمانية مثّلت خطوة أوروبا الحاسمة التي وضعتها على طريق العقلانية والتطوّر. ولكن عليه أن يفهم
أيضا أنها لم تكن دائما بذلك الصفاء الذي نعتقد. فالسياسة لم تغسل يديها من الدين بل ظلت تعمل على توظيفه، والعقل الغربي نفسه ليس عقلا عقلانيا صرفا، فالموروث الديني يظل مكوّنا مهما من مكوناته لحضوره في اللاوعي الجماعي أو لتحالفات بين رجال السياسة ورجال الدين تتبادل المصالح والمكاسب على نحو غير معلن.
(المصدر: عربي21)