مقالاتمقالات مختارة

علماء نشرة الأخبار!

بقلم أحمد بن عبد المحسن العساف

فيما مضى، وصِم بعض علماء المسلمين بأنّهم علماء حيض ونفاس، لا يعنيهم شيء أكثر من الفتوى في بعض العبادات، وطرق شؤون الأسرة والمرأة، ويغضّون الطّرف عمَّا سواها؛ ولو كان من الكبائر العظام الغلاظ! فالنّفس والنّفائس وبقيّة المقاصد أقلُّ شأنًا عندهم من النّفاس!
وأمّا الآن، فقد اختفى أغلب فقهاء الحيض والنّفاس، وأصبح أكثر “علماء” الواجهة، أشبه بمن يقرأ نشرة أخبار مملّة، تعدُّ في غرف رسميّة، ولا تقول إلاَّ ما يرضي الحاكم؛ وإن كان خطؤه أوضح من سهيل، وصوابه أبعد من زحل، ولذا هبطوا من علياء العلم، إلى حضيض الأجراء، وتشاركوا الزّور والعار مع “خبراء” البهتان، و”مافيا” القمع، أو زادوا عليهم؛ وياله من نكوص!
ويعود هذا الحال المزري لأسباب من ضمنها هشاشة التّكوين العلمي في جانبيه القلبي والتّربوي، والعقلي والمعرفي، والانجراف نحو الدّنيا، ومباهجها، وأضوائها، ومناصبها، فضلًا عن ضعف التّواصي بالحقِّ والصّبر، وترك إنكار المنكر، واختراق طبقة العلماء، وتحويل العلم إلى وظيفة، تخضع للنّظام التّنفيذي وأهوائه.
ومن الأسباب، القضاء على استقلاليّة العلماء؛ بخنق الأوقاف والسَّيطرة عليها؛ حتى غدا العالم رهينة لراتب الحكومات وترتيباتها. ومن العلل المهمّة، جفول النَّاس والعامّة عن نصرة طلبة العلم، فلو صدق أحدهم في بيانه وفتواه، ثم زج به في سجون مظلمة، لما وجد مؤيدًا ولا معينًا لا له ولا لعائلته.
ونتج عن ذلك، أنّنا لا نجد لعلماء أهل السّنة والجماعة الرّسميين شأنًا يذكر، ولا للمستقلين منهم حراكًا يوازي شعبيتهم، وقلّما يتحدَّث أحد من “علماء” الأمّة عن أمرٍ ذي بال، أو حول مآسيها، وهي كثيرة، متواترة، حاضرة، ماثلة أمام الشّاشات؛ لكنَّهم نشيطون وفصحاء، حين تكون “غيرتهم” لأجل أصنام بوذا، وقتلى الآخر، ومبالغات المذابح!
وبالتّالي لم يأبه لهم أحد من أقطاب السِّياسة في بلدانهم فضلًا عن خارجها، وزاد ضعفهم من هوانهم وتناقص أثرهم، وصاروا كالمنبّت الذي لم يبق ظهرًا، ولم يقطع أرضًا، ونادرًا ما نسمع عن زيارة سياسي لعالم مسلم كبير، أو لهيئة إسلاميّة بارزة، أو العكس، إلّا إن كانت زيارة شرفيّة، أو من باب المجاملة الصّفراء؛ مثل فطور البيت الأبيض الرمضاني!
بينما يتّربع “البابا” على عرش الفاتيكان مثل القيصر المطاع، حتى غدا مزاراً لكبار الزُّعماء، كما يحظى حاخامات اليهود بتبجيلٍ فخم، ويتزايد تأثير “أنبا” الأقباط، وتبرز مشاركات “غبطة” البطريرك الرَّاعي، وتتوالى نشاطات القاصد الرَّسولي في البلدان التي يعمل بها.
وتتعاظم قوة ملالي الشّيعة، من مراجع وآيات، وحجج وثقات ووكلاء، ويتكاثر تداخل رهبان بوذا مع الشَّأن العام حتى لو منعوا نظامًا، وتؤخذ توصيات كهنة الهندوس وآراؤهم بعين الاهتمام، ولهؤلاء جميعًا مكانة وحضور، سواءً في بلدانهم ومن أهل دينهم، أو من غيرهم، زائرين كانوا أو مستقبلين، وعادة رجل الدّولة، أنّه يبحث عن المصلحة، ولا يضيع وقته مع قوم لا فائدة ترجى من ورائهم!
ومع أنَّ أرباب التَّوجهات الفكريّة المعادية للدّين، يقفون نظريًا من الأديان على مسافة واحدة، إلّا أنَّهم يصابون بالقشعريرة، ويظهرون بخشوع حقيقي أو مصطنع، أمام رموز الأديان والمذاهب والملل، ولو كانوا يعبدون الأوثان، أو يفوهون بخلاف المنطق، بينما لا يجد علماء أهل السّنة والجماعة منهم إلّا البغض والإبعاد، أو التأفّف وخشن القول، ويزيدون للخاضع منهم شيئًا غير قليل من التّحقير والازدراء!
ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، فقد رفض الشّيخ د. محمَّد دراز مشيخة الأزهر إلا إن منح الاستقلاليّة التّامة، وقاوم الشّيخ عبد العزيز البدري الشّيوعية في أوج حكم عبد الكريم قاسم، وكاتب الشّيخ عبد العزيز بن باز طغاة الأرض ناصحًا وشافعًا، ووضع الشّيخ محمَّد الخضر حسين ورقة استقالته من منصب شيخ الأزهر في جيبه؛ كي يبرزها إن طلب منه مايابأه، وفضَّل الشّيخ د. محمَّد حميد الله ترك بلاده حيدرآباد؛ كي لا يحمل جنسيّة الاحتلال الهندي.
ومع مجمل ضعف الأمة تجاه علمائها، إلّا أنَّها منحت الصّادقين منهم كثيرًا من التّوقير وهم أحياء، وحسن الثّناء بعد الرّحيل، حتى صلّت الجموع على جنازة أبي الأعلى المودودي حاضرًا في خمس مدن عالميّة، وتوارث المسلمون علم أشياخهم جيلًا إثر جيل، وعسى أن ترتقي هذه التّصرفات الوفيّة، إلى فعل أنفع وأعظم، كي يرتفع الموقِّعون عن ربِّ العالمين، ويخنس النَّاطقون باسم الشّياطين.

(المصدر: موقع صيد الفوائد)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى