علماء لا مفكرين .. ومفكرون لا علماء
بقلم راجي سلطاني
في الثقافة الإسلامية المعاصرة، هناك علم إسلامي وفي مقابله فكر إسلامي، وهما شيئان مختلفان، متقاربان غير متحدين، متشابهان غير متماثلين.
العلم الإسلامي هو النظر في المصادر العلمية الشرعية (القرآن والسنة والإجماع)، وحفظ هذه المصادر، وحفظ المسائل التي تُستفاد منها، ثم إعلامها للناس، وخصوصا إذا ما دعت الحاجة من استفتاء وقضاء ونحوه.
فالعلم الإسلامي في أصله نقل عن المصادر التشريعية وفهم وتفسير لها، ثم بعد ذلك يتعدى إلى الاستنباط من هذه المصادر للمسائل المستحدثة عن طريق الاجتهاد.
وقد فرّق العلماء قديماً وحديثاً بين العلماء الذين بلغوا مرتبة الاجتهاد، وهي أن يبلغوا مرتبة من العلم وفهمه إلى درجة تمكنهم من أن يستنبطوا بأنفسهم استنباطات لم يستنبطها سابقوهم، وأن يستدركوا عليهم، ويختلفوا معهم، ويصححوا لهم.
في مقابل فريق آخر من العلماء لم يصل لهذه المرتبة، ويبقى عمله محصوراً في الحفظ والنقل وتفسير هذا المنقول وشرحه.
وفرّق الشيخ محمد الغزالي بين أهل الفقه وأهل الحديث في كتابه الذي أحدث دوياً كبيراً، والذي أسماه (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث).
وأكد الشيخ الغزالي في كتابه على ذلك الفرق الكبير الذي يجب أن يتنبه له الجميع، وهو أن أهل الحديث هم الحفظة النقلة، وأهل الفقه هم المعنيون بفهم المحفوظ والمنقول والاستنباط منه والاجتهاد فيه.
وهذا الطرح الذي طرحه الشيخ الغزالي هو طرح منضبط ضابط، غير أنه لا يعني بالقطع أن كل أهل الحديث هم مجرد حفظة نقلة، فالتاريخ يحدثنا عن كثير من أهل الحديث الذين برعوا في الفقه والاستنباط والاجتهاد، وكان على رأس هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل، فبجانب أنه كان فقيهاً صاحب مذهب متبوع هو أحد المذاهب الأربعة المعتبرة، كان محدثاً صاحب مسند للحديث، هو أحد مصادر الحديث المعتبرة. وكذلك كان كثيرون غير الإمام أحمد ممن جمعوا بين الحديث والفقه.
في حديثنا هنا عن الفرق بين العلماء والمفكرين لا نقصد ذلك الفرق بين الحفّاظ والنقلة وبين الفقهاء، ولا بين الفقهاء الشارحين والمفسرين و بين الفقهاء المجتهدين.
ولكننا نقصد الفرق بين علماء الشريعة عموما وبين المفكرين الإسلاميين.
ومصطلح (مفكر إسلامي) مصطلح محدث، لم يكن في العصور السالفة من تاريخ الأمة الإسلامية، وتاريخ العلم والفكر فيها.
مع أن ذلك الفرق بين العلماء والمفكرين كان حادثاً منذ بدايات تاريخ هذه الأمة، أو بتعبير أكثر دقة: كان ذلك الفرق موجوداً وظاهرا بعد حركة الترجمة والنقل من الحضارات الأخرى (الفارسية واليونانية والهندية وغيرها).
مصطلح (مفكر إسلامي) مصطلح محدث، لم يكن في العصور السالفة من تاريخ الأمة الإسلامية، وتاريخ العلم والفكر فيها
فقد ظهر حينها _إلى جانب فريق علماء الشريعة من المحدّثين والفقهاء_ فريق الفلاسفة وأهل الكلام، وأمثال هؤلاء في عصرنا هم من نطلق عليهم مصطلح (مفكرون).
فبعد حركة الترجمة والنقل عن الحضارات الأخرى ظهر فريق من الناس أعملوا عقولهم في محاولة الوصول للحقائق والحكم على المسائل والقضايا، وخصوصا القضايا والمسائل الكلّية منها.
وانقسم ذلك الفريق إلى فريقين من هذه الناحية، فريق الفلاسفة الذي أطلق لعقله العنان بعيداً إلى حد كبير عن النصوص (القرآن والسنة)، واعتبر هذا الفريق أن العقل قادر وحده على الوصول لكافة الحقائق وكشف كافة الخفايا وإزالة كافة الالتباسات.
وفريق علماء الكلام، الذي أطلق لعقله العنان متقيداً بقيود الوحي، مستنداً إلى النصوص لتنير له دروب الفهم حتى يسير فيها العقل مهتدياً بالنور الإلهي. وعلم هذا الفريق حد العقل الذي لا يستطيع أن يتعداه، وبأنه لا بد له من هداية الوحي حتى يصل للحقائق، فإذا أُطلق له العنان كلياً بعيداً عن هذه الهداية الإلهية فليس له إلا الضلال مهما قرُب من الهداية، وليس له إلا البعد مهما ظن الوصول.
هذان الفريقان (الفلاسفة وعلماء الكلام) هم أسلاف ما نطلق عليهم الآن في تاريخنا الحديث مصطلح (مفكرون).
ولقد ظهر فريق آخر في تاريخ الأمة الأوّل غير فريقي الفلاسفة وعلماء الكلام، وكان رجال هذا الفريق أيضا هم ممن نستطيع أن نقول عنهم أنهم يمثلون مفكري الأمة الأوائل…
ويأتي على رأس هؤلاء ابن خلدون، ففي مقدمته تأصيل للفكر الإسلامي، حيث إعمال العقل والنظر في كافة المسائل (الأديان والوحي والنبوة والشريعة والتاريخ وفلسفته والاجتماع والعمران واللغة والأدب والشعر)، كل ذلك مع الاهتداء بهدي الوحي القرآني والنبوي، أو على الأقل مع عدم الاصطدام بهما أو الانتقاص منهما أو التطاول عليهما أو تجاوزهما.
وفي تاريخ الأمة الإسلامية كثيرون أمثال ابن خلدون وكثير من الكتب مثل مقدمته.
وفي عصرنا الحديث ظهر مصطلح (مفكرون) اشتقاقا من مصطلح (الفكر الإسلامي).
وظهر المفكرون الإسلاميون، وهم كما أشرنا آنفا: الذين أعملوا عقولهم في البحث والتقصي في القضايا والمسائل مع الاهتداء بهدي الوحي والشرع، ويكون هذا الاعتماد عند بعضهم اعتماداً مباشراً، وعند البعض اعتماداً غير مباشر، وكلما كان الاعتماد على النصوص (القرآنية والنبوية) اعتماداً غير مباشر كلما كان المنتَج فكراً أكثر من كونه علماً، وكلما كان المنتِج مفكراً أكثر من كونه عالماً.
وكلما كان الاعتماد على النصوص (القرآنية والنبوية) اعتماداً أكثر مباشرة كلما كان المنتَج علماً أكثر من كونه فكراً، وكلما كان المنتِج عالماً أكثر من كونه مفكراً.
المفكرون الإسلاميون في العصر الحديث هم ورثة الفلاسفة وعلماء الكلام وعلماء الاجتماع والعمران في العصور السابقة.
يعتمدون على العقول والنظر والمنطق من أجل الوصول للحقائق، مهتدين بهدي الله ونبيه، غير مقطوعي الصلة بهما.
المفكرون الإسلاميون في العصر الحديث هم ورثة الفلاسفة وعلماء الكلام وعلماء الاجتماع والعمران في العصور السابقة، يعتمدون على العقول والنظر والمنطق من أجل الوصول للحقائق، مهتدين بهدي الله ونبيه، غير مقطوعي الصلة بهما
ومع ما للفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي من أهمية بالغة في المشروع الإسلامي الحضاري الثقافي الكبير، إلا أنه لا بد لنا أن نجعل الفكر والفلسفة في مكانهما الذي لا بد أن لا يتعديانه.
فالفكر الإسلامي والفلسفة الإسلامية لا يكونان إلا بعد النص (الإلهي والنبوي).
فغرض الفلسفة والفكر الوصول للحقيقة والصواب، وأول المصادر التي يجب أن نبحث فيها عن الحقيقية والصواب (القرآن والسنة).
فنهرع إليهما عند كل مسألة، فإما أن نجد المسألة برمتها فيهما، واضحة المعالم مقطوعاً بالحكم فيها، وهنا نكون في غنى عن العناء في البحث والاستقصاء. وإما أن نجد إشارات وإضاءات، وعلى أثر هذه الإشارات وفي ضوء هذه الإضاءات يكون سير العقول في البحث حتى الاهتداء.
العلم بالنصوص ومدلولاتها مقدم على الفكر وأبحاثه.
ويجب أن نحذر من أن نكون من أهل الرأي الذين قال فيهم عمر بن الخطاب (إياكم وأهل الرأي أعداء السنن، أعيتهم أن يعوها وتفلتت منهم أن يرووها، فبادروها بالرأي).
الفكر يأتي بعد العلم بالنصوص، وفي ضوئها وهدايتها، فإذا كان كذلك كان فكراً إسلامياً يسد مسداً عظيماً ويحمي ثغرة كبيرة، أما إذا انفرد وحده بعيداً عن هذه الهداية فهو الخسران المبين والضلال العظيم، والسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً
الفكر يأتي بعد العلم بالنصوص، وفي ضوئها وهدايتها، فإذا كان كذلك كان فكراً إسلامياً يسد مسداً عظيماً ويحمي ثغرة كبيرة، أما إذا انفرد وحده بعيداً عن هذه الهداية فهو الخسران المبين والضلال العظيم، والسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
العلم عند الله عند رسوله
والرأي يأتي بعد ذا معقولُهُ
من كان ذا رأي ليجعل رأيَه
من بعد (قال اللهُ قال رسولُهُ)
(المصدر: موقع بصائر)