إذا كان علماء المغرب الرسميون قد واجهوا بضراوة الإلحاد الوافد مع المد الماركسي الشيوعي، فإن المتتبع يجد أن إنتاجات علماء العصر الحالي لصد عدوان الإلحاد الوافد مع الموجة العلمانية الليبرالية تكاد تكون منعدمة.
فبالرغم من أن علماء المغرب -عقب الاستقلال- لم يخلفوا -حسب علمي- مؤلفات علمية خاصة بموضوع الإلحاد، وبغض النظر أيضا عن موقف النظام الذي كان يستعين بالعلماء لمحاربة المد الماركسي، إلا أننا نجد أن العلماء في تلك المرحلة قد قاموا بالواجب المتعين في حقهم، وأولوا موضوع الإلحاد عناية مركزة، واجتمعوا له من كل أنحاء المغرب وخرجوا بتوصيات بشأنه، بخلاف بالوزارة الوصية على الشأن الديني في عهد الوزير أحمد التوفيق التي لم تخصص لموجات الإلحاد المنظمة والمدعومة من طرف دول كبرى، والآخذة في التمدد والانتشار يوما بعد آخر، لا توصيات ولا منشورات ولا كتب ولا مؤتمرات تحذر منه ومن خطر الاغترار به.
فمن خلال توصيات (رابطة علماء المغرب) ومنشورات مجلات “دعوة الحق” و”البينة” و”الإيمان” و”الإحياء” وغيرها، يتبين لنا البون الشاسع بين مؤسسة العلماء بالأمس وما باتت عليه اليوم في إطار ما يسمى بهيكلة الحق الديني.
فخلال المؤتمرات العشر التي نظمتها رابطة علماء المغرب بين 1960 سنة التأسيس و1987، لم يخل مؤتمر من التحذير من المد الإلحادي وخطره ووجوب التصدي له، وفيما يلي نورد مقتطفات مما جاء في تلك المؤتمرات:
– ستعمل الرابطة لخدمة الأهداف التالية: “..تجديد القيم الإسلامية بإحياء السنة وإماتة البدعة ومحاربة اللادينيين والإلحاد والزندقة والانحلال الأخلاقي والاجتماعي”. (المؤتمر الأول، بلاغ ميلاد الرابطة).
– مصادرة المؤلفات الداعية إلى الإلحاد سواء في ذلك ما ألف في الداخل أو ما تم استيراده من الخارج، وكذا المجلات والنشرات والأشرطة السينمائية الإلحادية. (مواقف وآراء رابطة علماء المغرب ص:504).
– مساندة الحركات والمؤسسات الإسلامية وإنشاء صحافة إسلامية لتدعو إلى التمسك بالدين وتشرح شعائره وتقاوم الإلحاد والمبادئ الهدامة. (المؤتمر الثالث فاتح محرم 1388هـ/31 مارس 1968).
– بما أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، فيجب على الدولة أن تحمي مبادئه، وأن تكون الحريات العامة خاضعة لروح الدين الإسلامي، وأن لا يسمح لبعض المواطنين الأجانب باسم الحرية أن ينتهكوا الحرمات الدينية، ويشجعوا الإلحاد فيبثوا الأفكار الهدامة بين المواطنين. (المؤتمر الرابع فاتح 4-5 دجنبر 1971).
– زعزعة العقيدة الدينية عند الطفل المغربي وتشكيكه في وجود الله وجعله يعتقد بأن الدين هو (أفيون الشعوب) مع أن القانون المغربي والقوانين الدولية تمنع وتعاقب على كل محاولة لإفساد عقيدة الأطفال الذين هم دون سن الرشد. (توصيات المؤتمر الخامس 4-5-6 أبريل 1975).
– جعل الأطفال المغاربة يعتقدون أن الدين هو (أساس التخلف) وأداة للتخدير ووسيلة للاستغلال والاستبداد وعنصرا هاما من عناصر جمود الفكر وتقييده، وأن الفكر الديني الإسلامي كالفكر الديني المسيحي وقَفَ ضد الفلسفة والعلم، وعلى العموم ضد حرية الفكر ونشاط العقل، وأنه يتحمل تبعات شقاء الإنسان وضياعه وتعرضه للاستغلال وتهييئه لقبوله والرضى به وكلنا نذكر تلك القولة المشهورة التي أطلقها ماركس صارخة مدوية (الدين أفيون الشعوب). (توصيات المؤتمر الخامس 4-5-6 أبريل 1975).
– تزييف ما يعطى من هذا التاريخ للتلاميذ وتفسيره تفسيرا ماديا طبق النظرة الماركسية، وهكذا تدخل معارك الجهاد في سبيل الله لنشر الإسلام والفتوح الإسلامية كلها في نطاق استراتيجية عسكرية موجهة ضد الدول المسيحية أي للتوسع والسيطرة والاستغلال المادي للشعوب. (توصيات المؤتمر الخامس 4-5-6 أبريل 1975).
– حماية الناشئة المسلمة في المؤسسات التعليمية على مختلف مستوياتها من الملاحدة المسخرين لهدم العقيدة الإسلامية أو تشويهها وذلك بإصلاح المناهج التعليمية الحالية لكونها تستجيب لأهدافهم.
– مصادرة المؤلفات الداعية إلى الإلحاد سواء في ذلك ما ألف من الداخل أو ما تم استيراده من الخارج، وكذا المجلات والنشرات والأشرطة السينمائية. (توصيات المؤتمر السادس 17-18 جمادى الأولى 1397هـ/ 7-8 ماي 1977).
وفي هذا الصدد كتب العلامة المختار السوسي رحمه الله في مقاله (بين الجمود والجحود-2، دعوة الحق؛ العدد:6): “الذي يجول الإلحاد في قلبه يصير أمام القوة زنديقا: مسلما في ظاهره ملحدا في باطنه، وهذا هو السر حتى لا تتأسس دعوة الإسلام على القوة، بل على الإقناع بالحجج والبراهين المستحوذة على الأفئدة..
وهذا العصر الذي نحن فيه آخر تلك العصور المتقدمة، فقد أطلقت فيه الحرية، وصار الإنسان يعتنق كل ما شاء، وزخرت فيه دواعي الإلحاد والتهتك، وانطوى فيه ما كنت تعرفه في تلك العصور، فلم يبق في أيدي أصحاب الغيرة إلا التبشير والإنذار، وتتبع أساليب القرآن في ذلك، وإرخاء العنان في المحاورة والمناظرة، ومحاولة أسر القلوب بما يظهر في كل وقت من أسرار الطبيعة ومن المكتشفات والمخترعات الدالة على وجود الله تعالى، وعلى كونه واحدا في تصرفاته كلها”.اهـ.
وجاء في افتتاحية للمجلة ذاتها تحت عنوان (واجب الشباب المسلم-1-، دعوة الحق العدد63): “أما الحضارة الغربية والأسس الخلقية المادية التي خلفها المستعمرون الغربيون بعد مغادرتهم البلاد الإسلامية فهؤلاء المتفرنجون لا يعضُّون عليها بالنواجد فحسب، بل شمروا عن ساقهم لجعل شعوبهم الساذجة أيضا أكثر ميلا إلى الأخذ بها وأكثر انغماسا في ورطاتها من ذي قبل..
وقد بلغ الإلحاد من أذهانهم وعروقهم مبلغه واشربوا في قلوبهم العلمانية وبدأوا ينتهزون كل فرصة لإفساد الجيل الحاضر وتعكير صفو أخلاقه والانحراف به كليا عن الإسلام وتعاليمه، بل وتشجيعه على الاستهزاء بالله ورسوله والاستهزاء بالعقائد الإسلامية من البعث والنشور والجنة والنار والثواب والعقاب. ونشطوا في إشاعة الإباحية والفجور -الذي انغمسوا فيه هم أنفسهم إلى آذانهم- تحت إشرافهم باسم الإصلاح والحرية والتقدم وتنوير الرأي العام”اهـ.
وقد تميز علماء المغرب خلال تلك الفترة بفقه عميق للأولويات، ووعي كبير بخطورة المرحلة وما يتهدد المغرب من أخطار، وعملوا -رغم ما كانوا يواجهونه من حملات اتهام وتخوين- على توحيد الجهود، ووحدة الصف، ونبذ الفرقة والاختلاف.
ويكفي أن أسوق مقطعين من خطاب الأمين العام لرابطة علماء المغرب العلامة عبد الله كنون لنتبين ذلك.
الأول ألقاه في المؤتمر الثالث للرابطة بتاريخ فاتح محرم 1388هـ/31 مارس 1968، جاء فيه:
(إن الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكا يجب أن يكون محور تفكيرنا، لأنه أصبح مهددا في قواعده وأصوله، أما المذاهب والنزاعات فيجب ألا تشغلنا عن مهمتنا الحقيقية والأولى في المنافحة عن الفكرة الدينية من أساسها، ومواجهة موجة الإلحاد، وتعطيل أحكام الشرع، وشيوع الفساد، ولنعلنها هدنة في جميع مسائل الخلاف، حتى لا تبقى جهودنا موزعة بين الانتصار لهذا الرأي أو ذاك الفرع، والإيمان نفسه وشعائره التي لا يتحقق إلا بها معرض للضياع والاضمحلال). (مواقف وآراء رابطة علماء المغرب ص:162).
والثاني جاء في المؤتمر الخامس 4-5-6 أبريل 1975:
(الناس يلومون العلماء ويحملونهم المسؤولية في هذا الوضع، ولم العلماء؟ وهم لا حول لهم ولا طول وليس بيدهم من الإمكانيات شيء مما بيد دعاة الإلحاد وموردي المذاهب المادية الذين تغدق عليهم المساعدات من كل جهة).
(المصدر: هوية بريس)