عقيدة الإيمان التي دعا إليها جميع الأنبياء والمرسلين
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
اتفقت جميع الرسالات السماوية على أصول الإيمان على امتداد دعوات الرسل عليهم الصلاة والسلام ولم تختلف هذه الرسالات في تقرير أصول الإيمان قبل أن ينال منها التحريف والتبديل، لأنها تتحدث كلها عن مقررات ثابتة لا يقوم الإيمان إلا بها، فهي حقائق ثابتة لا تتطور ولا تتغير ولا يدخلها النسخ كما يدخل فروع الشرائع وقد جاءت النصوص القرآنية تؤكد هذه الحقيقة.
- قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
- وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزمر: 65-66].
- وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25].
ولقد وجه الله النداء العام لبني آدم محذراً إياهم الشيطان ومهالك الغواية، ومذكراً إياهم بأصل النشأة والمعاد فقال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ [الأعراف: 27-29].
وعقيدة الإيمان التي أمر الله بها الأنبياء والمرسلين ودعوا إليها مخلصين تشمل عناصر أساسية، تطهر القلب من بذور الشرك والوثنية، وتربطه بالله عقيدة صافية نقية وهي:
- ما يجب الإيمان به من جانب الله تعالى: إقراره بوجوده وخلقه وتدبيره وقضائه وقدره، وإفراداً له بالوحدانية والعبادة، ووصفاً له بصفات الكمال والجلال مع الإقرار الكامل بكل ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله (ﷺ).
- إن أول ما دعا إليه المسيح عليه السلام هو الإيمان بالربوبية ووحدانية الخالق، والإيمان برسالة الأنبياء والمرسلين، وكانت هذه الدعوة أول ما نطق به في المهد، قال تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ [مريم: 30]، وكان كل همه بعد ذلك أن يدعو الناس إلى طاعة الله وتقديم العبادة له دون سواه.
- كان يبين لقومه أن الله هو ربه وربُّهم، وأن الله هو رب الناس وملكهم وإلههم، وكان يذكر لهم أن الاعتراف بالربوبية والألوهية هو السبيل القويم الذي يؤدِّي إلى النَّجاة، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [الزخرف: 63-64].
- من المعجزات التي حققها الله على يد المسيح لإثبات رسالته وصدقه في الدعوة إلى الإيمان بالله وبيان قدرة الله وقوته معجزة إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك، وبيَّن المسيح بأنه يفعل ذلك بإذن الله تعالى، وسيأتي تفصيل ذلك في محلِّه بإذن الله تعالى، والدليل على أن عيسى كان يحمل في رسالته وجوب الإيمان بجميع الرسل والنبيين، دعوته إلى التصديق برسالة موسى كما كان يوجب التصديق برسالة محمد (ﷺ) خاتم النبيين، وهو ما جاء في قوله تعالى:﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 46].
أ ـ أصول الإيمان «الإيمان بالبعث والقيامة والجنَّة والنَّار»:
جاءت عقيدة البعث في رسالة المسيح كما جاءت في رسالات غيره من النبيين، فقد أعلن هذه العقيدة منذ كان في المهد صبياً، إذ قال: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 33].
إن هذه الآية الكريمة تبين أن الله يوجِد الإنسان عامَّة في هذه الحياة الدنيا بطريق التناسل والولادة، وأن المسيح خاصَّة وجد بطريق الولادة من غير ذَكر، وأن عناصر تكوينه هي عناصر تكوين كل الناس، وكان كلامه في المهد هو الحجَّة على براءة أمه مريم من البغاء، وأن الله كما أوجده في هذه الدنيا في جسمٍ بشريٍّ، فإنه سوف يميته كذلك كسائر البشر، وأنه سيبعث كذلك مثلهم، وأن مولده الخارق للعادة بقدرة الله تعالى، لا تعني خروجه مستقلاً عن القدر الذي قدَّره على البشرية جميعاً، وما جرى على فم عيسى في المهد في هذه الآية الكريمة هو إعلان لحقيقة البعث التي لا شكَّ فيها أنه قد آمن بها كل من سمع عيسى حينئذٍ من قوم مريم، ولا شكَّ أن هؤلاء نقلوا كلام المسيح الذي تفوَّه به في المهد إلى كل ما يلوذ بهم، وطبيعيٌّ أن لفظ البعث كان مفهوماً للمخاطبين، أو لبعضهم، فلا يخلو هذا البعض من أنه سمع شيئاً عن البعث ممَّن كان مؤمناً برسالة النبيين من قبل، كيحيى وزكريا.
وطبيعيٌّ أن تفسير المسيح عيسى ابن مريم كل ما يتعلق بعقيدة البعث بعد تكليفه بالرسالة، وبهذا شملت رسالته عقيدتي الجنة والنار، فمن آمن بالله واتبع رسوله وآمن برسالته دخل الجنة، وأما من كفر بذلك دخل النار، ولا شكَّ أن الإيمان بأن هناك جنَّة وهناك نار في دار الجزاء أصلٌ من أصول العقائد التي بعث النبيون لبيانها، حتى يعلم كل فردٍ من الناس ما سوف ينتظره من الحياة الاخرة، فلا يستطيع أن يدَّعي عدم علمه بذلك وقتئذٍ، وحتى يحذر
المؤمنون فيعبدون الله رغبة في ثوابه ورهبة من عقابه، ويخلصون في عبادته ولا يشركون بعبادة ربهم أحداً، والدليل على أن المسيح عيسى ابن مريم أدَّى ما عليه من تبليغ كل هذا قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: 72]
ولقد ذكر الله لنا في القرآن الكريم أن كلاً من التوراة والإنجيل جاء فيهما ذكر الجنة، كما جاء ذكرها فيما بعد في القرآن الكريم، وأنه جاء في هذه الكتب المنزلة أن الله تعالى وعد المقاتلين في سبيل الله جنَّة الخلد، وأنهم إذا فقدوا حياتهم في هذه الدنيا وأموالهم فإنهم سيحيون الحياة الحقيقية في الجنة، وسينالون فيها ما لا يعد ما كان لهم في الدنيا شيئاً مذكوراً.
وجاء هذا في قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111]
ولقد ذكَّر المسيح الناس قبيل وفاته بكل ما يتعلَّق بيوم القيامة والحساب والجنة والنار، وحذَّرهم من الخروج على طاعة الله وأكَّد لهم ما ذكره لهم طوال حياته معهم:﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 55-57].
إن هذه الآيات الكريمة التي خاطب الله بها عيسى رسوله ليس من حقِّ المسيح إخفاؤها عن قومه، فليس ما فيها خاص به وحده، بل إنَّ ما فيها يخصَّ المرسل إليهم جميعاً إذ أنها حملت بين ثناياها عقائد الاخرة والحساب والثواب والعقاب، وخشية الله ورحمته، ولهذا نحن على يقينٍ، كما قدمنا، أن المسيح تلا هذه الآيات باللغة التي كان يوحي الله بها إليه، إلى قومه بمجرد نزولها عليه.
ب ـ من جملة العقائد التي جاءت في رسالة المسيح: الإيمان بوجود الملائكة:
جاء على أن الملائكة مخلوقات خاصَّة لا تعصي الله، وإذا كلَّفها الله بأمرٍ نفذته من غير تردُّد، والإيمان بوجود الجنِّ، وأن العصاة منهم هم الشياطين، وأن الشياطين هي التي توسوس في صدور الناس.
أما ما جاء عن الملائكة في رسالة المسيح، فهو أنه هو نفسه كان البشرى التي بشّرت بها الملائكة أمَّه مريم، قال تعالى: ِ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [آل عمران: 45]، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 42].
وأما ما جاء من الشيطان في رسالة المسيح، فهو ما جاء من دعاء امرأة عمران أن يجنب الله ابنتها مريم وابن مريم من وسوسة الشيطان، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران: 36]
إن قصَّة امرأة عمران وولادتها وولادة المسيح عيسى ابن مريم بما شملته من ذكر الملائكة والشيطان دليل على إيمان المسيحية الحقَّة وعيسى عليه السلام بوجود الملائكة والشياطين وكونهم من خلق الله تعالى.
والإيمان بوجود الملائكة عقيدة واجبة، إذ لولاها لما آمن أحد بالوحي ولا آمن بملك الموت وبالوظائف المختلفة التي يكلَّف الملائكة بأدائها، ولَمَا آمن بقصَّة آدم وسجود الملائكة له.
وكذلك الإيمان بوجود الجنِّ والشياطين أمرٌ ضروريٌّ لكل موحِّدٍ مؤمنٍ بالله تعالى سار على هدايات الأنبياء والمرسلين، إذا آمن بما يقوم به الشيطان من تضليل ووسوسة كانت عنده فرصة للتزوُّد بالطاعات التي تقوِّي عزيمته وتمكِّنه من التغلُّب عليه، فإن المرء إذا عرف عدوه أخذ حذره منه، وكان دائماً على قدم من الاستعداد لمقاومته، والتخلُّص من مكائده وحيله وغواياته، والإيمان بوجود الشيطان واجب، ليكون المؤمن على علمٍ بقصَّة الخلق الأول، ونحن على يقينٍ أنه ما من نبيٍّ أو رسولٍ إلا قد عرَّف قومه بقصة آدم وزوجه وسجود الملائكة لادم، وعصيان إبليس وتوعده الله بإضلال الناس أجمعين إلا عباد الله المخلصين.
المصادر والمراجع:
- علي الصلابي، المسيح عيسى ابن مريم عليه السَّلام، ص 216-221.
- دراسات في التفسير الموضوعي للقران الكريم، د. زاهر بن عوض الألمعي، السعودية، ط2، 1422هـ، 2001م، ص 32.