مقالاتمقالات مختارة

عقبات أمام علاقة سليمة بين العرب والأتراك

بقلم أماني سنوار – مدونات الجزيرة

حتى وقت قريب كان أطفال المدارس وطلاب الدراسات الإنسانية الأتراك، يقرؤون في كتبهم المدرسية والجامعية، أن العرب خانوا الدولة العثمانية وطعنوا إخوتهم الأتراك في الظهر خلال الحرب العالمية الأولى، وأن خيانة العرب هي السبب الرئيس لخسارة تركيا الحرب أمام دول الحلفاء.

هذه الفرضية التي تحوّلت مع السنين إلى قناعة راسخة لدى شرائح واسعة من الأتراك، هي مجرد فرع من مسار التغريب الجارف الذي أرسى له مؤسس الجمهورية التركية وحزبه الحاكم، في محاولة لبتّ تركيا عن تاريخها القديم، وفصل امتداداتها الأخوية والدينية مع دول الجوار، واحتكار هويتها بالعنصر القومي.

وبإمكان أي متابع أن يلحظ النزعة القومية التي يتمتع بها الأتراك، وتنعكس على طريقة ممارستهم للسياسة والرياضة والفن والدراما، وتعاطيهم المتوجس مع اللغات والثقافات الأجنبية، وظهورها في الأمثال الشعبية التي يقول أحد أشهرها “لا صديق للتركي سوى التركي” وهو مثل يرد في الشعر والأدب بصيغ مختلفة، إلى جانب عشرات المقولات التي تحمل مضامين عرقية تجاه العرب والكرد واليهود والزنوج.

ومع تفاقم أزمة اللجوء السوري وامتداد تداعياتها نحو الداخل التركي الذي يستضيف من السوريين قرابة 3 مليون، عادت مثل هذه المقولات إلى الواجهة، لكن هذه المرة بطريقة غير عفوية أو بريئة، حيث غذّتها العديد من التيارات السياسية والاجتماعية في الداخل، في انعكاس لتوجهات هذه التيارات الرافضة للسوريين، أو في محاولة للضغط على الحكومة والتحريض عليها من بوابة استضافتها للاجئين.

وأصبح من الطبيعي خلال العامين الماضيين، أن تُطالع “مانشيت” أو مقالاً في إحدى الصحف واسعة الانتشار، يقول إن العرب الذين طعنونا في الظهر قبل 100 عام يصولون ويجولون في تركيا دون حسيب أو رقيب، وأن إردوغان فتح الأبواب للسوريين متجاهلاً خيانتهم للدولة التركية وخيانتهم لبلدهم وهروبهم منه.. وقد أصبحت هذه الدعاية من أبرز الأسلحة التي يُشهرها معارضو الحكومة من الرافضين للوجود السوري، وتلاقي وقعاً كبيراً لدى شرائح متنوعة من الناس لا سيما البسطاء.

وقد تنبّه حزب العدالة والتنمية مؤخراً لخطورة ذلك على النسيج الاجتماعي والاستقرار الداخلي، فخرج تصريح لافت للرئيس إردوغان يرد فيه بشكل صريح على تلك الدعايات ويقول فيه أنه قد “حان الوقت لمحاربة الكذبة التي تقول أن العرب طعنوا الأتراك من الخلف، وأنه لا يجب اتهام العرب بالخيانة بسبب أخطاء البعض خلال الحرب العالمية الأولى”.. ولأن هذه الكلمات صدَرت من الرئيس إردوغان صاحب الكاريزما والصوت المسموع فهو يُشير إلى أنّ لهذا التصريح ما بعده.

خلال العقد الأخير حققت تركيا إلى جانب الانفتاح السياسي على العالم العربي مزيداً من الانفتاح الاجتماعي والثقافي، فأصبحنا نشاهد إقبالاً من قبل الطلاب الأتراك، لا سيما المحافظين، على تعلم اللغة العربية والاختلاط بالمعاهد والجامعات في كل من سوريا (قبل الثورة) ومصر والأردن بغرض الدراسة، إلى جانب الانفتاح على الكتب العربية المترجمة، وحب الاطلاع على المطبخ العربي القريب من نظيره التركي، وتسجيل حالات من الزواج المختلط ازدادت خلال السنوات الخمس الأخيرة.

لكن جميع هذه المبادرات كانت أقرب للفردية وتنمو في بيئة غير مهيّئة، لا سيما بسبب الخلفية التاريخية المشوّهة التي تشرّبها الشعبين عن بعضهما بفعل لعنة السياسة، والتوجيه المُسيء في المناهج والدراما والحركة الثقافية لدى العرب والأتراك على السواء.

فالمناهج والدراما في دول الشام كانت تصف العثمانيين بقوة الاحتلال، وتختصر 5 عقود من الازدهار والنهضة بآخر 5 عقود قاسية عاشها العرب والأتراك أواخر الحكم العثماني، لم يذكروا لنا على سبيل المثال موقف عبد الحميد الثاني في رفض بيع فلسطين للحركة الصهيونية، لكنهم ذكروا بإسهاب إعدامات “جمال باشا السفاح” للقوميين العرب، ومحاولات التَتريك الحثيثة التي قادها خصوم العثمانيين من داخل الدولة.

وقد جاءت الأزمة السورية لتضفي المزيد من تعقيداتها على المشهد، وتصعّب من مهمة الأتراك الداعين للانفتاح على العالم العربي، وتُشغلهم في نقاشات جانبية مع المعارضة التي جعلت من الأزمة السورية نافذة لضرب المجتمع والحكومة في آن. كما أن التغيير السياسي كما هو معلوم أيسر وأسرع من الاجتماعي حيث من الصعب التحلل عن الموروث التاريخي المتراكم بين ليلة وضحاها.

فعلى سبيل المثال، الدراما التركية، لا سيما التاريخية التي تزدهر بشكل لافت هذه الأيام وتسلب عقول المشاهدين، نجد بأنها حققت اختراقات هامة على صعيد مواجهة القومية المتشددة؛ فأصبحت تبعث برسائل إيجابية فيما يتعلق بعلاقة الأتراك مع شعوب الإقليم من بوشناق وألبان وتركمان وأكراد، لكنها في الوقت نفسه تبعث برسائل خجولة حول العلاقة مع العرب.

وعلى الرغم من كوني لا أتابع الدراما بصورة حثيثة لكنني لاحظت هذا الأمر في عدة مسلسلات ازدهرت مؤخراً وكانت تروي أحداثاً تاريخية قبل وبعد الحرب العالمية الأولى، بعضها ذكر العرب بصورة سلبية فيما تجاهلهم البعض الآخر.

ويبقى أن التطورات الأخيرة في الإقليم أعادت التأكيد على شراكة التاريخ والمصير المتقاطع بين العرب والأتراك، وظللت على العديد من المحطات المشرقة في علاقة الشعبين وتضامنهما الذي نرى اليوم أوضح مظاهره في المواقف التركية تجاه أزمات غزة وسوريا وقطر، مما يجعل من تصريح إردوغان حول محاربة الأكاذيب التاريخية ضرورة ملحة لا بدّ أن تأخذ صداها في العمل المشترك ما بين العرب والأتراك في مبادرات الأحزاب والجاليات العربية في تركيا، وفي المؤتمرات الشعبية والأكاديمية المشتركة، وعبر الإعلام والفنون والدراما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى