عزلة الإمام الغزالي وقصة التحول الكبير
بقلم د. علي الصلابي
بلغ الإمام الغزالي في أيامه قمة المجد، وأتته الدنيا خاضعة ذليلة، أتته بالمال والشهرة، وذيوع الاسم، كما أتته بالجاه ونفوذ الكلمة، واستمتع بذلك كله، ومع ذلك لم ينقطع عن طلب العلم، فطالع العلوم الدقيقة والكتب المصنفة فيها. مما كان له كبير الأثر في التحول الكبير الذي غير مجرى حياته، فيما بعد.
لنترك للإمام الغزالي حجة الإسلام الحديث، فهو خير من يشرح لنا قصته في هذا التحول: ابتدأت بمطالعة الكتب مثل (قوت القلوب) لأبي طالب المكي رحمه الله، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد..، فعلمتُ يقيناً: أنهم أرباب الأحوال لا أصحاب الأقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعليم، بل بالذوق والسلوك، وكان قد ظهر عندي: أنه لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى، وكفِّ النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله: قطع علاقة القلب عن الدنيا، بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال، والهرب من الشواغل والعلائق.
ثم لاحظت أحوالي: فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من جميع الجوانب، ولاحظت أعمالي، وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الاخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير صالحة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه، وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني أشفيت على النار؛ إن لم أشتغل بتلافي الأحوال، فلم أزل أفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد، ومفارقة تلك الأحوال يوماً، وأحل العزم يوماً، وأقدم فيه رجلاً، وأؤخِّر عنه أخرى، لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة، إلا وتحمل عليها جنود الشهوة جملة فتفترها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني سلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل الرحيل، فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، فإن لم تستعد الآن للآخرة، فمتى تستعد؟! وإن لم تقطع هذه العوائق فمتى تقطع؟!، فعند ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على الهرب والفرار، ثم يعود الشيطان، ويقول: هذه الحال عارضة، إياك أن تطاوعها، فإنها سريعة الزوال، فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيض، والأمن المسلم الصافي عن منازعة الخصوم، ربما التفتت إليك نفسك، ولا يتيسر لك المعاودة.
فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الاخرة، قريباً من ستة أشهر، أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمئة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار؛ إذ قفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً للقلوب المختلفة إليَّ، فكان لساني لا ينطق بكلمة واحدة، ولا أستطيعها البتة..، ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر، الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأولاد والأصحاب.
وغادر الغزالي بغداد في شهر ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وأربعمئة، فحج وتوجه إلى الشام، فأقام بها عشر سنين، قضى بعضها في بيت المقدس، وكان غالب وقته فيها عزلة وخلوة، ورياضة ومجاهدة للنفس، واشتغالاً بتزكيتها، وتصفية القلب لذكر الله تعالى، وكان يعتكف في منارة مسجد دمشق طول النهار. ويصف معاصره عبد الغافر انقلابه هذا، فيقول: وسلك طريق الزهد والتأله، وترك الحشمة، وطرح ما نال من الدرجة للاشتغال بأسباب التقوى وزاد الاخرة، فخرج عما كان فيه.. وأخذ في مجاهدة النفس وتغيير الأخلاق، وتحسين الشمائل..، فانقلب شيطان الرعونة، وطلب الرياسة والجاه، والتخلق بالأخلاق الذميمة إلى سكون النفس، وكرم الأخلاق، والفراغ عن الرسوم والترتيبات، وتزيا بزي الصالحين، وقصر الأمل..، والاستعداد للرحيل إلى الدار الباقية، وأخذ في التصانيف المشهورة مثل: إحياء علوم الدين، والكتب المختصرة منه، مثل: الأربعين، وغيرها من الرسائل، التي من تأملها علم محل الرجل من فنون العلم.
ثم عاد بعد تلك العزلة التي استمرت عشر سنوات إلى بلده طوس، ليتابع عزلته سنة أخرى. وتحت إلحاح الولاة، وتكرار طلبهم بالخروج إلى الناس. خرج إلى نيسابور ليُدرّس بالمدرسة النظامية فيها، وكان ذلك في ذي القعدة عام 499 هـ، وقال في ذلك: ويسر الله الحركة إلى نيسابور للقيام بهذا المهم في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وأربعمئة، وبلغت مدة العزلة إحدى عشر سنة، ويشرح لنا الغزالي عودته إلى التعليم، وأنها كانت بأسلوب جديد، ونية جديدة، وهدف جديد يختلف كل الاختلاف عما كان عليه سابقاً، فيقول: وأنا أعلم أني وإن رجعت إلى نشر العلم، فما رجعت، فإن الرجوع عود إلى مكان. وكنت في الزمان أنشر العلم الذي به يكسب الجاه، وأدعو إليه بقولي وعملي، وكان ذلك قصدي ونيتي، وأما الآن فأدعو إلى العلم الذي به يترك الجاه، ويعرف به سقوط رتبة الجاه، هذا هو الآن نيتي وقصدي، وأمنيتي، يعلم الله ذلك مني، وأنا أبغي أن أصلح نفسي وغيري؟ ولكني أؤمن إيمان يقين ومشاهدة: أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وأني لم أتحرك لكنه حركني، وأني لم أعمل ولكنه استعملني، فأسأله: أن يصلحني أولاً، ثم يصلح بي، ويهديني، ثم يهدي بي، وأن يريني الحق حقاً، ويرزقني اتباعه، ويريني الباطل باطلاً، ويرزقني اجتنابه.
ولم تطل إقامته في نيسابور، وكانت المدة التي درسها في النِظامية فيها يَسيرة، ثم ترك ذلك، وعاد إلى بيته في طوس، واتخذ في جواره مدرسة للطلبة، وخانقاه للصوفية، ووزَّع أوقاته على وظائف: من ختم القران، ومجالسة ذوي القلوب، والقعود للتدريس حتى توفي بعد مقاساة لأنواع من القصد، والمناوأة من الخصوم، والسعي فيه إلى الملوك، وحفظ الله له عن نوش أيدي النكبات. وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث، ومجالسة أهله، ومطالعة الصحيحين، ولو عاش لسبق الكل في ذلك الفن بيسير من الأيام، وهذا توفيق من الله تعالى كبير للإمام الغزالي أن جعل خاتمته على الحديث والسنة، ونحسب: أنَّ الله تعالى وفقه لهذه النهاية بكرم، وفضل منه، ومنَّة. ولم يتفق له أن يروي، ولم يعقب إلا البنات، وكان له من الأسباب إرثاً وكسباً ما يقوم بكفايته، وقد عُرضت عليه أموال فما قبلها. ومما كان يعترض به عليه وقوع خلل من جهة النحو في أثناء كلامه، وروجع فيه فأنصف، واعترف: أنه ما مارسه، واكتفى بما كان يحتاج إليه في كلامه، مع أنه كان يُؤلّف الخُطب، ويشرح الكتب بالعبارة التي يعجز الأدباء والفصحاء عن أمثالها.
أ ـ المرحلة الأولى (465 هـ 478 هـ): أي قبل وفاة شيخه أبي المعالي الجويني:
1 ـ التعليقة في فروع المذهب، وهي التي أخذها منه قطاع الطرق، ثم ردوها إليه.
2 ـ المنخول في أصول الفقه.
ب ـ المرحلة الثانية (478 ـ 488 هـ) :
1 ـ البسيط في فروع المذهب.
2 ـ الوسيط (ملخص من البسيط).
3 ـ الوجيز.
4 ـ خلاصة المختصر ونقاوة المعتصر، أو الخلاصة في الفقه الشافعي.
5 ـ المنتحل في علم الجدل (في المناظرة والخلاف).
6 ـ ماخذ الخلاف.
7 ـ تحصين الماخذ (في علم الخلاف).
8 ـ المبادئ والغايات (في أصول الفقه).
9 ـ شفاء الغليل (في القياس والتعليل).
10 ـ فتوى لابن تاشفين (من جملة فتاوى الغزالي).
11 ـ الفتوى اليزيدية (في حكم من كفَّر يزيد بن معاوية).
12 ـ مقاصد الفلاسفة (بيان مبادئ الفلسفة).
13 ـ تهافت الفلاسفة.
14 ـ معيار العلم.
15 ـ معيار العقول.
16 ـ محك النظر في المنطق. ويذكر الذهبي: أنه ألفه بدمشق.
17 ـ ميزان العقل.
18 ـ المستظهري، وهو رد على الباطنية.
19 ـ حجة الحق، وذلك بيان إفساد مذهب الباطنية.
20 ـ قواصم الباطنية، يرد فيه على شبههم.
21 ـ الاقتصاد في الاعتقاد.
22 ـ الرسالة القدسية في العقائد.
23 ـ المعارف العقلية والأسرار الإلهية.
ج ـ المرحلة الثالثة (488 ـ 499 هـ): وكتب هذه المرحلة كثيرة؛ أهمها:
1 ـ إحياء علوم الدين.
د ـ المرحلة الرابعة ـ الثانية من التعليم (499 ـ 503 هـ): وأهم كتب هذه المرحلة:
1 ـ المنقذ من الضلال.
2 ـ المستصفى في علم الأصول.
هـ ـ السنوات الأخيرة (503 ـ 505 هـ):
1 ـ منهاج العابدين في الزهد والأخلاق والعبادات.
2 ـ إلجام العوام عن علم الكلام. وهو آخر كتبه التي ألفها (505 هـ)، وقبيل موته بأيام. جرى على مذهب السلف، ونسب ما دونه من المذاهب إلى البدعة.
——————————————————————————————————————-
مراجع:
- علي محمد الصلابيّ، الإمام الغزالي وجهوده في حركة الإصلاح والتجديد، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2006م.
- أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، دار الكتب الحديثة، مصر، ص 139 ـ 143 -159.
- شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، مؤسسة بيروت للنشر، ط 10، 1994، 19/325.
- صالح الشامي، الإمام الغزالي حجة الإسلام ومجدد المئة الخامسة، دار القلم، دمشق، ط1، 1413هـ – 1993م، ص 23- 25 -26.
- عبد الرحمن دمشقية، أبو حامد الغزالي والتصوف، دار طيبة للنشر، 1986، ص. ص 35 ـ 40.
(المصدر: مدونات الجزيرة)