عزائم العظماء
بقلم أ. محمد إلهامي
وتعظم في عين الصغير صغارها .. وتصغر في عين العظيم العظائم
هكذا قال المتنبي..
“لا أرى مغادرة هذه البلاد مهما لقيت من الأذى، وأرجو أن يصبرني االله عليه، ولست بأفضل ممن نُشروا بالمناشير، ومُشطوا بأمشاط الحديد، ومع أنني آخذ نفسي بالعزيمة، وأنصح بها كل قادر، ولا اعتبار عندي بما يقال أو يُكْتَب بالإكراه، لا أنكر على من أخذ نفسه بالرخصة… وأضرع إلى االله أن يثبتني على الحق دائما، ويعينني على نفسي وشيطاني”.
وهكذا قال الشيخ سفر الحوالي..
هكذا قاله في كتابه الأخير “المسلمون والحضارة الغربية” الذي طاشت له عقول آل سعود فاعتقلوا الشيخ وأولاده وإخوته، وبهذا الكتاب اتخذ الشيخ لنفسه موضعاً في سلسلة العظماء الآخذين بالعزيمة، فقال في كتابه هذا ما لا يجرؤ أغلب الناس أن يتفوه به من مأمنه خوفاً من بطش نظام السعودية، لم يمنعه من هذا أنه في الشيخوخة وأنه في المرض وأنه بين أيدي الطغاة المجرمين الذين لا يتورعون عن البطش بالساكتين فكيف يفعلون بالمتكلمين الذين يُسمعونهم ما يكرهون؟!
وبمثل هذا العزم تأتي العزائم، فإن ثمن السيادة هجر الوسادة، وقد قال المتنبي:
لولا المشقة ساد الناس كلهمُ … الجودُ يُفقر والإقدام قتَّال
وتلك السلسلة الذهبية من الصادعين بالحق في وجه الطغاة، الطامحين لمنزلة سيد الشهداء، إنما هي سلسلة طويلة موغلة في أيام تاريخنا، انتظم فيها من نُشِروا بالمناشير وقُرِّضوا بالمقاريض وألقوا في الأخدود وافترستهم السياط ووسائل التعذيب حتى تبقى كلمة الله واضحة ساطعة كما نزلت من السماء، وتلك مهمة العلماء العدول الذين يحملون الأمانة حقاً، فينفون عن هذا العلم ما يُدخله فيه عُبَّاد السلاطين وأتباع الشهوات وأهل الضلالات.
ولأنها مكانة سامقة فلا يحوزها إلا الأفذاذ النادرون، أولئك الذين ذاقوا مشقة تحصيل العلم أولاً، ومشقة فهم الواقع ثانياً، ثم مشقة مصادمة الجبارين ثالثاً.. فأما عامة المنتسبين إلى العلم فإما ارتضوا من هذا بمشقة أو مشقتيْن فسكتوا وتحايلوا وتجنبوا المشقة الثالثة التي هي ثمرة كل ما فات، وإما جعلوا علمهم في خدمة دنيا غيرهم، فحطُّوا بهذا من شأن أنفسهم ومن شأن العلم الذي حملوه، حتى قال فيهم أبو الحسن الجرجاني قصيدته السائرة الباهرة التي منها:
يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما … رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهمُ هان عندهم … ومن أكْرَمَتْه عزة النفس أُكْرِما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما … بدا طمعٌ، صيَّرْتُه لي سُلَّما
ولم أبتذل في خدمة العلم مُهْجَتي … لأخدمَ من لاقيتُ، لكن لأُخْدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة … إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم … ولو عظَّموه في النفوس لعُظِّما
ولكن أهانوه، فهان، ودنسُّوا … مُحيَّاه بالأطماع حتى تجهما
ولقد جاءني خبر اعتقال الشيخ سفر الحوالي فلاح لي وقتها خبر الشيخ محمد عليش، شيخ المالكية في مصر زمن الخديوي توفيق، وشيخ الثورة العرابية، وشيخ الأزهر على الحقيقة، وصاحب فتوى خلع الخديوي وعصيانه لتحالفه مع الإنجليز، وهو الرجل الذي ألهب الأزهر فأشعله وجعل شيوخه وطلبته في صفِّها، حتى ما اجترأ في ذلك الزمن أن يخالف أحدٌ منهم إلا أربعة ثم صاروا واحداً، وكان صاحب خطابة وفصاحة وهيبة وجلال، جدَّد موقف شيوخ الأزهر العظام من أهل الجهاد والتحريض عليه.. وقد وُصِف بأنه صنو الشوكاني باليمن وكنون بالمغرب، وله مؤلفات عديدة أشهرها عند المالكية شرحه “منح الجليل شرح مختصر خليل” وهو مطبوع في تسع مجلدات.
أقول: ذكرني اعتقال الشيخ سفر على هذه الهيئة بالشيخ عليش رحمه الله وقدس روحه، وذلك أن الرجليْن تشابها في أمورهما، فلقد كان الشيخ عليش في كهولته وهو يجابه الخديوي الذي نزل لمناصرته الإنجليز بأساطيلهم وجيوشهم إذ كان في الثمانين من عمره، ثم إنهم حين احتلوا البلاد وانتصروا اعتقلوه من بيته محمولاً من شدة ما هو فيه من المرض، ثم إنهم اعتقلوا معه ولده عبد الرحمن أيضاً، ثم إنهم اعتقلوه في نفس هذه الأيام تقريباً، في مطلع شهر ذي القعدة (1299هـ).
وقد قيل له: تملق الخديوي فأنشد يقول:
الزم باب ربك … واترك كل دون
واسأله السلامة … من دار الفتون
لا تكثر لهمك … ما قُدِّر يكون
وخُتِم له بالحسنى إذ توفي في سجنه ليلة يوم عرفة، ومنع الإنجليز من حمل جثمانه إلى البيت نكاية فيه، ثم إنهم عاقبوا ولده عبد الرحمن بالنفي خمس سنوات خارج مصر .
وإنا لنسأل الله السلامة والعافية والعمر المديد للشيخ سفر الحوالي، ونسأله أن يرى بعينه ما أمَّل من تغير الحال في بلاد الحرمين وزوال ملك الطغاة المتجبرين المجرمين.
***
إن شأن المتنبي عجيب، ما إن يلتمس المرء معنى إلا ويجد منه في شعره شيئاً يكفيه.. ونحن الآن عند معناه الذي رثا به أم سيف الدولة الحمداني فقال بيته الشهير الذائع الصيت:
ولو كان النساء كمن فقدنا .. لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ … ولا التذكير فخر للهلال
وأفجع من فقدنا: من وجدنا … قبيل الفقْد مفقود المثال
ومناسبة هذا الكلام أنه في أثناء التحضيرات الأخيرة للمجلة طالعنا خبر اعتقال الأخت الكاتبة الفاضلة الباسلة أم أسامة لمى خاطر، بنت مدينة الخليل، على يد الاحتلال الصهيوني..
وفي لمى خاطر من سفر الحوالي شبه كبير.. إلا أنها امرأة، وهذا في ميزانها ومن دلائل سموّها..
هي قلمٌ يعرفه كل من يعرف قضية فلسطين، ولقد كنت أتابعها منذ أربعة عشر عاماً على الأقل، لقد كانت تكتب وهي تحت الاحتلاليْن –احتلال إسرائيل، واحتلال سلطة فتح- مقالات لا يجرؤ عليها أغلب الكاتبين وهم آمنون بعيداً.. ولم تفلح معها الضغوط والتهديدات والتحقيقات ومساومتها بالزوج والتحريض عليها، ولقد كانوا يحرضون عليها حيناً بالفاحش الساقط من القول والزعم، وحينا بدعوى الغيرة والرجولة التي تكبت النساء.
وكانت لمى معدناً أصيلاً لا تزيده الضغوط إلا توهجاً ونوراً وصلابة..
وأتذكر أني طلبت منها بحثاً عن موضوع تتخصص فيه، فأرشدتني إلى غيرها، فسألتها: لم لا تقومين به أنتِ؟ فقالت: أرى أن الحديث في هذا الموضوع ضرره أكثر من نفعه أو لم يحِن وقته، لكن غيري يرى غير ذلك، فأنا أرشدك إليه.. فكان هذا الجواب منها جامعاً لعلم وأدب واتساع نظر وخلق حسن.
وقد تشرفنا بمقال لها على صفحات مجلتنا “كلمة حق” في عدد سابق، وكان من سوء حظنا أن لم نتشرف بالمزيد..
***
مَثَل الشيخ سفر في شيخوخته ومرضه وضعفه وأنه تحت يد العدو، كَمَثَل لمى خاطر المرأة تحت الاحتلالين، كَمَثَل الشيخ أحمد ياسين في عجزه وضعفه وتعطل عدد من حواسِّه.. كمثل كثيرين بعرض الوجود وطول الخلود..
أولئك الذين يصنعون معنى الرمز والقدوة والمثل..
القدوة التي تثبت للناس أن الناس ما زال فيهم من يقول “كلمة الحق” ولو كان في ذلك هلاكه، وفيهم من يعمل للحق على سرير المرض وفوق كرسي العجز وتحت سلطة الاحتلال، مهما كان ضعيفاً أو مستضعفاً أو لا يملك سوى لسان وقلم..
تلك هي المعاني التي تتجسد بشراً فيحيي الله بها القلوب..
حين يرى المرء ذو الصحة والجلد، المقيم في أمن وسعة، المتمتع بالطيبات.. حين يرى المرء أمثال هؤلاء يعرف حقاً مقامه، ويعرف أنه يملك أن يفعل الكثير، تزول أعذاره التي يتعلل بها أمام نفسه، أو قل: تذوب أعذاره أمام شموس هؤلاء حين تشرق عليه..
بمثل هؤلاء نعرف أن تاريخنا لم ينقطع، فلقد كان في الجيل الأول من حرص على أن يجاهد فيطأ بعرجته الجنة، ومن حرص على أن يجاهد وهو أعمى ليكثر سواد المسلمين، ومن حرص على أن يجاهد وهو لا يملك مالاً ولا دابة، ومن سار مسيرة الجهاد لا يجد ما ينتعله حتى تقلعت وسقطت أظافره من السير فسمُّوا ذلك اليوم “غزوة ذات الرقاع”..
فالحمد لله أن لا زال في أجيالنا من يجدد السيرة ويستكمل المسيرة.. والموعد الله!
الموعد الله.. والجنة!
(المصدر: مجلة “كلمة حق”)