عرض كتاب (مقاصد المقاصد.. الغايات العلمية والعملية لمقاصد الشريعة)
عرض أحمد التلاوي
شهدت عقود الصحوة الإسلامية الماضية، أنشطة وتفاعلات عديدة بين الإسلامي وغير الإسلامي، داخل المجتمعات المسلمة، والأهم، داخل مجتمعات الأقليات والمهاجر غير المسلمة.
وفي هذا الإطار، ظهرت الحاجة لفكر وفقه جديدَيْن، من أجل التصدي لعديد المسائل المستجدة.
وتعرف الشريعة الإسلامية الكثير من الضوابط التي تنهض في هذه الحالات لكي تحدد بوصلة التجديد واتجاهاتها، بدلاً من الابتعاد بالحكم المُستَجد عن الدين وأحكامه، بحُجَّة التجديد أو عدم وجود سابقات حالة، أو حماسةً من البعض لمسألة الانفتاح والظهور بمظهر معين أمام الآخر غير المسلم.
ومن بين هذه الضوابط مقاصد الشريعة، وهي خمسة؛ حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال.
إلا أنه في كثير من الأحيان، طال إعمال هذه الأمور في الحكم الشرعي بعض الشطط، بحيث صار هناك بعض القيود باسم المقاصد على الكثير من الحراك المطلوب في مختلف الاتجاهات الإصلاحية.
وفي هذا الإطار، يأتي كتاب “مقاصد المقاصد.. الغايات العلمية والعملية لمقاصد الشريعة”، الذي وضعه الدكتور أحمد الريسوني، الذي يُعد واحدًا من أهم علماء الحركة الإسلامية المعاصرين الذين اهتموا بالفكر المقاصدي على وجه الخصوص من بين مختلف أفرع ومباحث الفكر والفقه الإسلاميَّيْن.
والكتاب بين أيدينا جاء في 175 صفحة من القطع الوسط، قسَّمها المؤلف إلى فصول ثلاثة، وكل منها تضمن مقدمة خاصة به، ومبحثَيْن أساسيَّيْن.
الفصل الأول، حمل عنوان: “مقاصد المقاصد في فهم الكتاب والسُّنَّة”، تناول في مبحثَيْه مقاصد القرآن الكريم، ومقاصد السُّنَّة النبوية، وفي بدا واضحًا تأثره بكتاب “الموافقات” للإمام الشاطبي.
وأكد المؤلف في هذا الصدد على مركزية القرآن الكريم في نقطة تحديد المقاصد، وتوجيهها للفقه الإسلامي بشكل عام، وأشار إلى أنه حتى المقاصد في النَّص النبوي؛ إنما هي مستقاة من تأكيد القرآن الكريم على مرجعية السُّنَّة النبوية الشريفة للمسلم.
ويرتكز هذا الفصل على مرتكز أساسي أراد الكاتب إبرازه، وهو أن التوجه المقاصدي لابد من أن يستند إلى نص، وأن تتم دراسة النصوص الشرعية، قرآنًا وسُنَّة، دراسة وصفها بـ”التامة والمجتمعة”، ودراسة ظاهر ومعنىً ودراسة “لفظية وقصدية معًا”، وعدم الوقوف بحال أمام ظاهر النص، أو أمام نصٍّ واحد، وإصدار حكم على أساسه.
وقال إن مقاصد القرآن الكريم، تشمل المقاصد التفصيلية للآيات القرآنية، ومقاصد السُّوَر، والمقاصد العامة للقرآن، وقال إنها تتضمن الهداية الدينية والدنيوية للعباد، والتزكية وتعليم الحكمة، والرحمة والسعادة، وإقامة الحق والعدل، وغير ذلك.
وعرض هنا لأفكار فقهاء ومفكرين مسلمين عدة، قدامى ومحدثين، مثل أبو حامد الغزالي، والطاهر بن عاشور، ورشيد الرضا، وغيرهم.
أما فيما يتعلق بالسُّنَّة النبوية؛ فقد ناقش فيها أساسَيْن لاستخراج مقاصد الأحاديث النبوية الشريفة، الأول، التمكن من وضع السُّنَن والأحاديث النبوية في مواضعها وما أريدَ بها، وفق مقاصد الشرع الحنيف في كل موضع منها، والثاني، تلافي الوقوع في تفسيرات وتطبيقات مجافية لمقاصد الشارع أو مضيِّقةٍ لها، مع ما ينجم عن ذلك من تحريف وتشويه للدين.
ومن ذلك، معرفة الصفة التي صدر عنها وبمقتضاها الحديث النبوي، ومعرفة سبب ورود الحديث وسياق مُخرِجه.
الفصل الثاني، جاء بعنوان: “مقاصد المقاصد في الفقه والاجتهاد الفقهي”، وتناول فيه مقاصد والاجتهاد، واعتبار المقاصد في الاجتهاد الفقهي، لجهة وجوهه ومراحله.
وفيه يذكر أن علاقة المقاصد بالفقه، هي علاقة عضوية؛ حيث قال إن الفقه هو الجسم والوعاء الذي تسري فيه المقاصد، وتفعل من خلاله فعلها، ويقول إن الذي يستحضر الحكم الشرعي، ويستعمله من دون استحضار مقاصده، فهو يفسده أو يقتله.
وبالرغم من أن الفصل السابق، تضمن الكثير من الاستشهادات من جانب الكاتب بأفكار علماء ومفكرين مسلمين عديدين كما ذُكِر؛ إلا أن هذا الفصل كان من الواضح تأثره الكبير بأفكار الإمام الشاطبي في “الموافقات”، والطاهر بن عاشور، في كتابه “مقاصد الشريعة”، بشأن نقطة المقاصد والاجتهاد وضوابطه.
وفي خلاصاته لأفكار بن عاشور والشاطبي، وكذلك أفكار عبد الله بن بيَّه، من المحدثين؛ وضع الكاتب ثلاثة دوائر ينبغي اعتبارها جميعًا عند وضع أي اجتهاد في السياق المقاصدي، وهي:
1. دائرة المقاصد الكلية العامة.
2. دائرة المقاصد الخاصة (أو الوسطى).
3. دائرة المقاصد الجزئية.
أما فيما يخص اعتبار المقاصد في الاجتهاد الفقهي، ووجوهه ومراحله؛ فقد عرض لعشرة أمور، منها التحقق من مقصود النص الشرعي، أي تحري المعنى المقصود بالنص، وهل هو ما يلوح من ظاهر من ألفاظه، أو غير ذلك، وتحرِّي معرفة الحكمة والمصلحة المقصودة من وراء الحكم المنصوص، لمراعاتها في الاستنباط والقياس، وفي التنزيل، والنظر في ما يُظن أنه مقصد وليس بمقصد، لنفيه وإسقاط اعتباره وتأثيره، التمييز بين ما هو مقصود لذاته وما هو مقصود لغيره، لوضع كل منهما في موضعه.
كما تناول مراعاة المقاصد العامة للشريعة عند كل تطبيق جزئي، ومراعاة المقاصد الخاصة للجزئيات التي تتم دراستها، ومراعاة مطلق المصالح المرسلة، التي جاء الشرع بحفظها، وترتيب الحكم ودرجتِه، على قدر المصلحة أو المفسدة، ومراعاة المقاصد عند إجراء القياس، وأخيرًا اعتبار المآلات والعواقب.
الفصل الثالث، كان بعنوان: “المقاصد العملية للمقاصد”، وتناول فيه قضيتَيْن مهمتَيْن للغاية في المجال التطبيقي، تطرحها تطورات الواقع الراهن، والصعود الذي كان للإسلاميين في بلدان ما يُعرف بثورات الربيع العربي.
الأولى، أهمية مقاصد الشريعة في رسم السياسة الشرعية، والثانية، تحسين مستوى فهم المسلمين لدينهم.
ومن خلال محتوى هذا الفصل، والمنطق العام للكتاب بشكل عام؛ فإنه يمكن القول إن الكتاب ذاته كان استجابة من المؤلف لاعتبارات ما بعد الربيع العربي، وما طرحته من تحديات في صدد ضرورة تقديم الإسلاميين لنموذج عملي واضح وناجح، للحكم والسياسة وإدارة شؤون المجتمعات.
كما أن الجانب الآخر من الكتاب، يتفق مع الخط العام للجهد الفكري للكتابات التي تم تدوينها منذ البدايات الحديثة للصحوة الإسلامية، في منتصف السبعينيات، وهي استعادة مفاهيم الدين الصحيحة في نفوس المسلمين.
وفي هذا الفصل، كان من الواضح تأثره الكبير بأفكار أبي الوفاء ابن عقيل، وابن القيم، بالذات في تعريف الكاتب للسياسة الشرعية على أنها “كل اجتهاد أو عمل يتعلق بتدبير الشؤون العامة للناس، ويرمي إلى جلب المصالح لهم أو تكثيرها، ودرء المفاسد عنهم أو تقليلها”، وأن السياسة الشرعية هي “كل سياسة تقيم الصلاح والمصلحة والعدل بين الناس، قدر المستطاع”.
ويحدد في هذا الفصل وظائف السياسة الشرعية، مثل وضع الضوابط المنظمة لتولي الحكم وممارسته، بناءً على قاعدة الشورى، واختيار ولاة الأمور وبناء المؤسسات العامة، وفق ما تتطلبه المصلحة وتقتضيه القواعد المعتمدة، واعتماد الأنظمة والتدابير والصيغ التنفيذية لأحكام الشريعة، وإقامة فروض الكفايات وما تتطلبه، كالتعليم والصحة والقضاء والحسبة والجهاد، غير ذلك.
ويشير إلى أن السياسة الشرعية لها ضوابطها المحكومة بها، ومنها الاعتماد على الرأي والتجربة والملاءمة المرنة للظروف المتغيرة، وقيامها على جلب المصالح ودرء المفاسد.
ويبدو في هذا الجزء من الكتاب أهمية السيرة النبوية في استدلالته، في المرحلة المدنية من البعثة، عندما تحول الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، إلى رجل دولة، بجانب كونه رجل رسالة ونبوة.
وفي الأخير؛ يدعو إلى تقريب المقاصد ونشر ثقافتها بين عامة الناس، وحدد بعض المراجع الأمهات المهمة في هذا، مثل “الموطَّأ”، للإمام مالك، و”التسهيل لعلوم التنزيل”، و”تقريب الوصول إلى علم الأصول”، لابن جُزَي الغرناطي، و”التقريب لحد المنطق”، لابن حزم.
مع المؤلف
الدكتور أحمد الريسوني، هو مفكر إسلامي مغربي، عضو مؤسس ونائب رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وعضو المجلس التنفيذي للملتقى العالمي للعلماء المسلمين، برابطة العالم الإسلامي، وكان أمينًا عامًّا سابقًا لجمعية خريجي الدراسات الإسلامية العليا المغربية، ورئيس لرابطة المستقبل الإسلامي بالمغرب بين العامَيْن 1994م و1996م، ثم تولى رئاسة حركة التوحيد والإصلاح الإسلامية بالمغرب، بين العامَيْن 1996م و2003م، كما شغل منصب المدير المسؤول لجريدة “التجديد” المغربية اليومية بين العام 2000م و2004م.
بيانات الكتاب:
اسم المؤلف: د. أحمد الريسوني
اسم الكتاب: مقاصد المقاصد.. الغايات العلمية والعملية لمقاصد الشريعة
مكان النشر: بيروت
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر – مركز المقاصد للدراسات والبحوث
تاريخ النشر: 2013م
الطبعة: الأولى
عدد الصفحات: 175 صفحة من القطع الوسط.
(المصدر: موقع بصائر)