عرض كتاب (الوسطية والاعتدال … من أجل استراتيجية لاستيعاب فكرة التطرف والغلو)
تأليف محمد يتيم
مدخل:
الوسطية من مميزات أمة الرسالة، فهي التي تؤهلها لأداء الشهادة على الآخرين وأن يشهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، وهي حالة محمودة وخاصية أساسية من خصائص هذا الدين عقيدة وشريعة ونظامًا خلقيًا واجتماعيًا وسياسيًا وحضاريًا، ترتبط وتترجم خاصية أخرى هي خاصية التوازن وعدم الميل إلى إحدى طرفي المعادلة أي الإفراط أو التفريط.
وإذا كان التاريخ الإسلامي قد شهد حالات من الغلو أو الإفراط أو التفريط، فإنّ أمر الأمة في غالبه قد استقر على التوسّط في جميع مجالات الحياة العقدية والفقهية والفكرية والسلوكية والسياسية وفي العلاقة بغير المسلمين، وكانت تلك إحدى مهام العلماء المجتهدين والأئمة المجددين والمتمثلة في نفي انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وغلو الغالين.
والوسطية اليوم هي تيار يسري في الجسد الفكري والثقافي للأمة العربية الإسلامية يستنهض العزم ويقاوم أشكال الاستكانة إلى حال التخلّف والجمود في جميع مجالات الحياة كلها، إنّها تيار يستلهم الطبيعة الأصلية للأمّة العربية كما يعبر عنها تاريخها، يقوم على إحياء الفهم الصحيح للدين وأحكامه ونظامه، ويسعى إلى تجديد معانيه في عقول ونفوس وواقع المسلمين، موصولًا في ذلك بما أقرته أصول الإسلام ومصادره الأساسية، وبما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح والمجددون الذين توالوا عبر الأجيال.
وهي تيار يسعى أن يقدّم الإسلام ويدعو إليه في صفائه و نقائه، وتوازنه واعتداله، ويحرره مما علق به من بعض مظاهر الغلو التي ألصقها به بعض المتنطعين والمتسرعين ممن بضاعتهم في الدين وعلومه مزجاة، وخبرتهم بسنن التغيير ضعيفة، فأفسدوا من حيث أرادوا الإصلاح، وأساءوا من حيث ظنوا أنهم يحسنون صنعًا.
إنّها تيار يسعى أن يقدّم الإسلام في حقيقته ونصاعته وثوابته ومحكماته بعيدًا عن تأويلات مغرضة تريد أن تجعله مسايرًا للأهواء، قابلًا لكل انحراف، متخففًا من كل التزام، مقرًّا بكل تفريط وتسيب تحت دعوى التسامح والاعتدال، بينما الاعتدال والوسطية في الحقيقة استقامة على ما جاء به القرآن وما أقرّته السنة الصحيحة ولو جاء على خلاف الأهواء. فالوسطية هي الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه ولا روغان، ولا مداهنة أو تملق للانحرافات التي وقعت في تاريخ الأديان أو عند المتدينين سواء من أهل الإسلام أو من لدن من انحرفوا وحرفوا ما جاء به الأنبياء الذين سبقوا بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان أهم دعاء يتكرر مع كل ركعة من الصلوات المكتوبة أو في النوافل هو الدعاء الوارد في فاتحة الكتاب حيث أمرنا أن نتلو قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}. وإذا كان مصطلح الوسطية مصطلحًا حديث الاستعمال وقليل الشيوع في كتب الفقه واللغة والأدب القديمة، فإنّ معناه موجود فيها، كما توجد مصطلحات أخرى قريبة منه تؤدي معناه مثل العدل والاعتدال والقسط والقصد والرفق والوزن ونحوها.
وتسعى هذه الرسالة إلى بسط هذه الخاصية واستجلاء معانيها، وبيان مجالاتها وتطبيقاتها وبيان ضوابطها، من خلال تمييزها عن الدلالة السياسية الشائعة للوسطية، والدلالة التي تجعل منها تساهلًا وتسيبًا وتفريطًا وحلولًا وُسْطى مع المنكرات.
فإذا كانت من خصائص الوسطية التوسط بين طرفين، فإنّه ليس لازمًا أن يكون كل توسط دليلًا على الوسطية كما سيتبين من خلال استقراء معنى الوسطية، في القرآن والسنة.
ولقد استعنّا في تحريرها بعدة دراسات وخلاصات لندوات ومؤتمرات عدة تناولت المفهوم نذكر منها على الأخص بحوث مؤتمر الوسطية المنعقد بعمّان بالأردن في منتصف سنة 2004، والفضل فيها لأصحابها وليس لنا فيها سوى جهد المقل القائم على التجميع والتلخيص والتعليق والتبويب.
أولاً: الوسطيَّة في اللغة:
جاءت كلمة (وسط) في اللغة بعدّة معانٍ، لكنها مُتقاربة في مدلولها. قال ابن فارس: (وسط): الواو والسّين والطّاء: بناء صحيح يدلّ على العدل والنّصف، وأعدل الشيء: أوسطه ووسطه، قال الله عز وجل {أُمَّةً وَسَطًا}. ويقولون: ضربتُ وَسَطَ رأسِه -بفتح السين- ووسْط القوم بسكونها، وهو أوسَطُهم حسبًا إذا كان في واسطةِ قومه وأرفعهم محلًّا، وتأتي كلمة وسط بفتح السين وسكونها، وفتحها أكثر استعمالًا.
ويمكن إجمال المعاني التي جاءت تدلّ عليها هذه الكلمة فيما يلي:
- (وسْط) بسكون السّين تكون ظرفًا بمعنى (بين)، قال في لسان العرب: وأمَّا الوسْط بسكون السّين فهو ظرف لا اسم، جاء على وزن نظيره في المعنى وهو (بين)، تقول: جلست وسْط القوم، أي: بينهم.
- وتأتي (وسَط) بالفتح اسمًا لما بين طرفي الشيء وهو منه، ومن ذلك: قبضت وسَط الحبل، وكسرت وسَط القوس، وجلست وسَط الدّار.
- وتأتي بالفتح أيضًا: صفة، بمعنى خيار، وأفضل، وأجود، فأوسط الشيء أفضله وخياره: كوسط المرعى خير من طرفيه، ومرعى وسط أي: خيار، وواسطة القلادة: الجوهر الذي وسطها وهو أجودها، ورَجُل وسط ووسيط: حسن.
- وتأتي (وسَط) بالفتح بمعني عدل، قال ابن فارس: وسط: بناء صحيح يدلّ على العدل، وأعدل الشيء أوسطه ووسطه. وقال ابن منظور: ووسط الشيء وأوسطه: أعدله. وقال الفيروزآبادي: الوَسَط -مُحَرَّكَة- من كل شيء: أعدله.
- وتأتي (وسط) بالفتح -أيضًا- للشيء بين الجيد والرديء، قال الجوهري: ويقال: شيء وسط: أي بين الجيد والرديء. ودليل ما ذهب إليه الجوهري ما ورد في الحديث: (ولكن من وسط أموالكم، فإنّ الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرّه).
- ويقال: (وسط) لما له طرفان مذمومان، يراد به ما كان بينهما سالمًا من الذّمِّ، وهو الغالب. قال الراغب: وتارة يُقال لما له طرفان مذمومان، ومثال ذلك: السّخاء وسط بين البخل والتّبذير، والشّجاعة وسط بين الجبن والتهوُّر، و(الوسيط): المتوسّط بين المتخاصمين و(التوسط): بين الناس من الوساطة وهي الشفاعة.
و(التوسيط): أي تجعل الشيء في الوسط و(التوسيط) أيضًا: قطع الشيء نصفين، و(وسوط الشمس): توسّطها السماء و(وسوطًا) بمعنى المتوسط المعتدل، و(وسيطًا) الحسيب الشريف، والوسيط التوسط بين الناس، والوسط الرفعة والمكانة العلية والمكان الوسط لا يصل إليه العدو بسهولة، ولذلك صار معنى العزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفًا، فأطلقوه على الخيار والنفيس كناية، فأوسط الشيء أفضله وخياره و(واسطة القلادة): الجوهر الذي في وسطها، وهو أجودها.
من خلال ذلك كله يتضح أن اللفظة كيفما تصرّفت فهي لا تخرج في معناها عن معاني العدل والفضل والخيرية، والنصف والبينيَّة، والتوسط بين الطرفين.
ثانياً: مصطلح (وسط) في القرآن الكريم:
وردت مادة وسط ومشتقاتها في خمس مواضع من القرآن الكريم هي على التوالي:
- قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، ولقد ذهب المفسرون عدة مذاهب في تفسير كلمة وسطى حيث ربط البعض هذا الوصف بالخيرية والفضل متتبعًا ما جاء في تفضيل بعض الصلوات على بعض، بينما ذهب البعض إلى ربط الوسط بالموقع أي ذلك الواقع بين جانبين متساويين في العدد أي الصلاة التي تقع بين صلاتين من كل جانب وهي في هذه الحالة صلاة العصر. وفي كلتا الحالتين يظهر الارتباط بين كلمة الوسطى كما وردت في الآية وبين مفهوم الوسطية الذي هو موضوع البحث.
- قوله تعالى: {فكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، قال الطبري في تفسيره: “من أوسط ما تطعمون أهليكم: أعدله، وقال عطاء: أوسطه: أعدله. وقال بعضهم: من أوسط ما يعلم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهل بلد أهليهم، ومن ذلك قول ابن عمر: من أوسط ما يطعم أهله الخبز والتمر، والخبز والسمن، والخبز والزيت، من أفضل ما يطعمهم: الخبز واللحم، وقال آخرون: من أوسط ما يطعم الإنسان أهله، قال: إنّ ممن يشبع أهله أشبع المساكين العشرة، وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك أطعم المساكين على قدر ما يفعل من ذلك بأهله في عسره ويسره. ثم أضاف الطبري قائلًا: “وأولى الأقوال عندنا قول من قال: من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلة والكثرة”.
وقال الزمخشري: “من أوسط ما تطعمون أهليكم: من أقصده، لأنّ منهم من يسرف في إطعام أهله ومنهم من يقتر”. ويقول سيد قطب: “(وأوسط ) تحتمل من (أحسن)، أو من (متوسط)، فكلاهما من معاني اللفظ، وإن كان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد، لأن المتوسط هو الأحسن، فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام”.
- قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}، روى الطبراني بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} قال: عدولًا، وكذلك ورد في تفسير ابن عباس حيث قال: “جعلكم عدولًا”، ويقول الطبري في تفسيره: “وأرى أن الله -تعالى ذكره- إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدّلوا كتاب الله وقتلوا أنبيائهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها، وأما التأويل فإنّه جاء بأنّ الوسط العدل -كما سبق- وذلك معنى الخيار، لأنّ الخيار من الناس عدولهم”.
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى، هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ لاَ مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ، فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، وَالوَسَطُ العَدْلُ، فَتَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلَاغِ , ثُمَّ أَشْهَدُ عَلَيْكُمْ). المراد بهذا الحديث واضح، وهو أنّ الوسط فسّر هنا بالعدل، وهو المقابل للظّلم، حيث إن أمّة محمد، صلى الله عليه وسلم شهدوا بما علموا، {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا}. وهو الحق، فلم تكن شهادتهم لهوًى مع نوح، عليه السلام -وحاشاهم من ذلك- ولم يشهدوا مع قوم نوح بالباطل، وأنّى لهم ذلك، وهذا هو العدل، لأنَّ الظّلم له طرفان والعدل وسط بينهما، فالشَّهادة مع أحد الخصمين بدون حق ظلم، والشّهادة بالحقّ دون النّظر لصاحبه عدل، فأمَّة محمد، صلى الله عليه وسلم ممّن قال الله فيهم: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.
ويقول سيد قطب رحمه الله في تفسير الآية: “وإنّها للأمة الوسط في التصور والاعتقاد، «أمة وسطًا» في التفكير والشعور، «أمة وسطًا» في التنظيم والتنسيق، «أمة وسطًا» في الارتباطات، «أمة وسطًا» في الزمان، «أمة وسطًا» في المكان»”. ويقول السيد رشيد رضا في المنار: “هو تصريح من قوله تعالى {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} أي على النحو من الهداية، (جعلناكم وسطًا) قالوا: إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك لأنّ الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص فيه تقصير وتفريط، وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسط بينهما”.
- قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ}، ذهب غير واحد من المفسرين في تفسير قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} أنّ كلمة «أوسط» تعني: أعدلهم وأعقلهم وأمثلهم، يقول صاحب «التحرير والتنوير» الشيخ الطاهر بن عاشور: “فالوسط هو العدل والخيار”. ويقول الطبري: “وأمّا التأويل فإنّه جاء بأنّ الوسط العدل، و ذلك معنى الخيار من الناس عدولهم”، “والوسط في كلام العرب الخيار”. ونقل صاحب لسان العرب عن الزجاج أنّ الوسط هو العدل والخير بهذا المعنى الذي يجعل الوسطية مقترنة بالعدل والعدالة: “فاللفظان مختلفان والمعنى واحد، لأنّ العدل خير والخير عدل”. وترتبط الوسطية كذلك بمعنى الاستقامة على الدين وعلى النهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم دون إفراط وتفريط، وبمعاني حرية الإرادة والفاعلية والاستقلالية وكلها من لوازم العدل والاستقامة كما في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وفي الحديث عن عبد الله بن جابر قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطا وخط خطين عن يمينه وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده على الخط الأوسط فقال: هذه سبيل الله، ثم تلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
وقفة مع آية الوسطية في القران الكريم:
وردت الإشارة إلى صفة الوسطية في معرض حديث القرآن عن قضية تغيير القبلة وذلك في قوله تعالى من سورة البقرة: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ¤ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ¤ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ¤ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِين ¤ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ¤ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ¤ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
تعرض هذه الآية لأسباب تغيير القبلة وفي نفس الوقت تحدد مواصفات الأمة الوسط. فالتأمل في الآية يفضي بنا إلى الخروج بالمواصفات التالية:
-
الأمة الوسط هي أمة الحق:
فهي أمة تدور مع الحق حيث دار، وهي أمة قائمة على الحق لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله، تبلغه ولا تكتمه ولا تخشى في ذلك لومة لائم، وذلك ما نجده في قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147]، وهو الحق الذي أنزل على الذين أوتوا الكتاب من قبل وكانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأمة الوسطية وجب أن تبقى في سعي دائم نحو الحق تتحراه وتنتقل فيه من الفاضل إلى الأفضل.
ولقد كان تغيير القبلة ابتلاء للأمة الإسلامية ليعلم الله تعالى هل ستثبت على الحق بالثبات على متابعة الرسول أم أنّها ستنقلب على عقبيها بما يلقيه السفهاء من الناس عليها من الشبهات وهل ستبلغ رسالة الحق أم ستكتمه خضوعا لتلك الشبهات، وانهزاما أمامها، وذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
-
الأمة الوسط هي أمة المرجعية:
والأمة الوسط ليست أمة متروكة لحالها، كما أنها لا تصدر من فراغ بل إنها مشمولة بعناية الوحي ومعصومة بهدايته وذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}. وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.
-
الأمة الوسط هي أمة السعي والحركة:
والأمّة الوسط هي أمّة عمل وحركة وانتشار في الأرض وضرب في مناكبها ابتغاء رزق الله وفضله، لكن ذلك السعي لا يمنعها أن تبقى مشدودة إلى ذكر الله وعبادته {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، وانتشارها في الآفاق لا يمنعها أن تبقى مشدودة إلى القبلة التي هي وجهة المسلم في أعظم أعمال حياته ألا وهي الصلاة التي إن صلحت صلح سائر أعماله وإن فسدت فسد سائر أعماله، فالتوجه إلى القبلة حيث كان الإنسان معناه أن يتوجه الإنسان إلى الله ويقصده في سائر الأعمال التعبدية والعادية.
-
الأمة الوسط هي أمة العدل:
فهي الأمة التي تضع الأمور في نصابها وتحقق التوازن في حياتها إذ الوسط كما ورد هو العدل. وهذا الدين لم يأت إلا ليقوم الناس بالعدل والقسط. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، ومهمة المجتمع الإسلامي هي القيام على القسط وإقامة العدل لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}.
-
الوسطية توازن واستقامة:
والوسطية بهذا المعنى الذي يفيد التوازن والتزام قاعدة (لا إفراط ولا تفريط) لا تعني الهروب من الموقف الصعب إلى الموقف السهل، ولا العكس، وليست هي انعدام الموقف الواضح المحدد من المشكلات بل هي تعبير عن خاصية التوازن في جميع الأمور والمواقع: توازن بين الروح والجسد، وبين الدنيا والآخرة، وبين الدين والدولة، وبين الذات والموضوع، وبين الفرد والمجموع، وبين الفكر والواقع، وبين المادية والمثالية، وبين المقاصد والوسائل، وبين الثابت والمتغير، والقديم والجديد، وبين العقل والنقل، وبين الحق والقوة، وبين الاجتهاد والتقليد، وبين الدين والعلم، إلى آخر هذه الثنائيات. ولذلك فإنّ من الواضح أنّ الوسطية -بما هي خاصية للإسلام عقيدة وشريعة ونظامًا- ليست وصفة جاهزة أو خاصية مكتسبة بإطلاق للأمّة أو لهذه الجماعة أو تلك، بل هي موضوع اجتهاد وجهاد متواصلين للعمل باستمرار وفق القاعدة الذهبية: (لا إفراط ولا تفريط)، وهو السر في جعلها مطلبًا ودعاء نردده في سورة الفاتحة كلما صلينا عندما نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}.
الوسطية إذن منهج في فهم الدين والعمل به يقوم على نبذ الغلو في الدين والتزيد فيه بالتشديد على النفس أو التشديد على الآخرين، كما يقوم على نبذ التفريط والتضييع لعقيدة التوحيد وأحكام الشريعة وآداب الإسلام وأخلاقه وأنظمته. فذلك كله مفض بصاحبه إلى الخسران والندامة غدًا يوم لقاء الله كما ورد في قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}، وفي قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}. يقول الإمام الطبري في نفس المعنى: “وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنّهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه، غلو النصارى الذين غلو بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه. فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها”.
-
الأمة الوسط هي أمة الشهادة:
والوسطية هي خاصية العدل التي تؤهل الأمة لأداء الشهادة حين تسأل هل بلغ أنبياء سابقون وأقاموا الحجة على أقوامهم حيث ستشهد هذه الأمة بما عرفته من قرآنها وبما بلغه رسولها صلى الله عليه وسلم أنهم قد بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة، وهي الخاصية التي تؤهلها كي يشهد رسولها صلى الله عليه وسلم لها إذا سارت على نهجه وطريقه أو عليها إذا حادت عن ذلك النهج والطريق.
-
الوسطية تحتاج إلى جهاد متواصل:
الوسطية إذن هي خاصية الأمة الإسلامية كما أخرجها الله وكما أرادها أن تكون، وهي مقصد وهدف وجب على هذه الأمة أن تتحقق به من خلال جهاد واجتهاد دائمين، جهاد علمي وفكري، وتربوي وثقافي، وجهاد عملي على مستوى آخر، مما يقتضي أن يقوم في الأمة باستمرار مجددون عدول، ينفون عن الإسلام غلو الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين.
فالأمة الإسلامية أمة وسط باعتدالها واستقامتها على الأخلاق والقيم التي بثها فيها الإسلام لتبتعد بها في كل شيء، وفي كل شأن من شؤون حياتها عن الإفراط والتفريط وما يتبع ذلك من غلو أو تقصير، وهي لا تكون وسطًا حتى تحمل هذه القيم وتحافظ عليها وتعمل بها وتسعى إلى تحقيقها لتستحق بذلك أن توصف بأنّها خير أمة أخرجت للناس.
ثالثاً: مصطلح الوسط في السنّة:
وردت كلمة وسط في سياق عدة أحاديث نبوية شريفة ومنها:
- عن ابن سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى، هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ لاَ مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ، فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، وَالوَسَطُ العَدْلُ، فَتَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلَاغِ , ثُمَّ أَشْهَدُ عَلَيْكُمْ). فالوسط في هذا الحديث فسّر هنا بالعدل، وهو المقابل للظّلم، حيث إن أمّة محمد، صلى الله عليه وسلم شهدوا بما علموا، {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} وهو الحق، فلم تكن شهادتهم لهوًى مع نوح، عليه السلام – وحاشاهم من ذلك – ولم يشهدوا مع قوم نوح بالباطل، وأنّى لهم ذلك، وهذا هو العدل، لأنَّ الظّلم له طرفان والعدل وسط بينهما، فالشَّهادة مع أحد الخصمين بدون حق ظلم، والشّهادة بالحقّ دون النّظر لصاحبه عدل، فأمَّة محمد، صلى الله عليه وسلم ممّن قال الله فيهم: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.
- وروى الترمذي قال: لما نـزل قوله تعالى: {الم ¤ غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكَّة: {الم ¤ غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}. قال ناس من قريش لأبي بكر، فذلك بيننا وبينك، زعم صاحبك أن الرّوم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟! قال: بلى -وذلك قبل تحريم الرّهان- فارتهن أبو بكر والمشركون، وتواضعوا الرّهان، وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع: ثلاث سنين إلى تسع سنين، فسمّ بيننا وبينك وسطًا ننتهي إليه، فسمّوا بينهم ست سنين.
والستّ هنا هي الوسط بين ثلاث وتسع، فقبلها ثلاث وبعدها ثلاث.
- وعن عبد الله بن معاوية الغاضري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من فعلهنّ فقد طَعِمَ طَعْمَ الإيمان: من عبد الله وحده، وعلم أنَّه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيّبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة، ولا الدرنة، ولا المريضة، ولا الشّرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإنَّ الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرّه)، والوسط هنا ما بين أجود الغنم وبين السيئ والمعيب، وهو مثل قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}.
- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي، صلى الله عليه وسلم فخطّ خطًّا، وخطَّ خطَّين عن يمينه، وخطَّ خطَّين عن يساره، ثم وضع يده على الخطّ الأوسط، فقال: هذه سبيل الله، ثم تلا هذه الآية: {وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}).
والوسط في الأحاديث السابقة كلها: هو الشيء بين الشيئين، متوسّط بينهما.
- أما بيان الصراط الوارد في الآية فقد ورد في حديث النّواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى كَنَفي الصّراط سوران فيهما أبواب مفتَّحة، وعلى الأبواب ستور مُرخاة، وعلى الصّراط داعٍ يدعو يقول: يا أيّها النَّاس اسلكوا الصّراط جميعًا، ولا تعوجّوا، وداع يدعو على الصّراط، فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويلك لا تفتحه فإنَّك إن تفتحه تلجه، فالصراط: الإسلام، والسّتور حدود الله، والأبواب المفتَّحة محارم الله، والداعي الذي على رأس الصّراط كتاب الله، والدّاعي من فوقه واعظ الله يذكر في قلب كل مسلم).
- وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ في الجنَّة مائة درجة أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدَّرجتين كما بين السَّماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنَّه أوسط الجنَّة، أو أعلى الجنة). قال الحافظ بن حجر: قوله: “(أوسط الجنة أو أعلى الجنة) المراد بالأوسط هنا: الأعدل والأفضل، كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}”.
- وقال صلى الله عليه وسلم: (البركة تنـزل وسط الطّعام، فكلوا من حافَّتيه، ولا تأكلوا من وسطه)، والوسط هنا: نقطة الالتقاء بين أطراف متساوية، أو هو أشبه ما يكون بمركز الدّائرة ومنتصفها.
- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطَّ خطًّا مربَّعًا، وخطّ وسط الخطّ المربّع، وخطوطًا إلى جانب الخطّ الذي وسط الخطّ المربّع، وخطًّا خارجًا من الخطّ المربّع، فقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا الإنسان الخطّ الأوسط، وهذه الخطوط إلى جانبه الأعراض تنهشه)، والوسط هنا: هو ما كان بين عدَّة أطراف والمسافة بينه وبين كل طرف متساوية.
- وقال صلى الله عليه وسلم: (وسّطوا الإمام وسدُّوا الخلل) أي اجعلوه وسط الصّف -في منتصفه- من أمامه، بحيث يكون طرفا الصّفّ متساويين بالنّسبة لموقف الإمام.
- وقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من جلس وسط الحلقة)، وهو الذي يجلس في وسط الحلقة، ولو لم يكن في منتصفها تمامًا، وإنَّما من جلس في داخلها بعيدًا عن أطرافها فهو في وسطها.
- وقال صلى الله عليه وسلم (أنا زعيم بيت في رَبَضَ الجنَّة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وبيتٍ في وسطِ الجنَّة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وبيتٍ في أعلى الجنة لمن حَسُنَ خُلُقُه)، والوسط هنا ما كان بين الرّبض والأعلى.
- وقال صلى الله عليه وسلم: (لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحبّ إليَّ من أن أمشي على قبر مسلم، وما أُبالي أوسط القبر قضيت حاجتي أو وسط السّوق) والمراد بالوسط هنا: الوسط المكاني.
هذه بعض الأحاديث التي وردت وفيها لفظ (الوسط) وفيها ما ورد فيها الوسط بمعنى الوسطيَّة، ومنها ما ليس كذلك، إذ لا تلازم بين (الوسط) و(الوسطيَّة)، فكل وسطيَّة فهي وسط، ولا يلزم من كل وسط أن يكون دليلًا على الوسطيَّة، فقد يكون من الوسط المكاني أو الزّماني ونحوه.
من خلال ما سبق اتَّضح لنا أن كلمة (وسط)، تستعمل في معانٍ عدَّة أهمّها:
- بمعنى الخيار والأفضل والعدل.
- قد ترد لما بين شيئين فاضلين.
- وتستعمل لما كان بين شرّين وهو خير.
- وتستعمل لما كان بين الجيّد والرديء، والخير والشَّرّ.
- وقد تُطلق على ما كان بين شيئين حسًّا، كوسط الطّريق، ووسط العصا.
ونستخلص من استقراء مختلف السياقات القرآنية والحديثية السابقة أن الوسطيَّة هي: مؤهل الأمة الإسلامية من العدالة، والخيريّة للقيام بالشهادة على العالمين، وإقامة الحجَّة عليهم. أما ما شاع عند الناس وانتشر من الوقوف عند أصل دلالتها اللغوية، أي التوسّط بين طرفين، مهما كان موضع هذا الوسط -الذي تمَّ اختياره- من صراط الله المستقيم، التزامًا وانحرافًا، كما شاع عند كثير من الناس استعمال هذا الاصطلاح استعمالًا فضفاضًا يلبس أي وضع أو عرف أو مسلك أرادوه، حتى أصبحت الوسطيَّة في مفهومهم تعني التَّساهل والتَّنازل، فليس بمفهوم صحيح وفق ما تبينه الآيات والأحاديث إذ لا يلزم لكل ما يعتبر وسطًا في الاصطلاح أن يكون له طرفان، فالعدل وسط ولا يقابله إلا الظّلم، والصّدق وسط ولا يقابله إلا الكذب.
وعليه فإنّ هذا المصطلح لا يصحّ إطلاقه إلا إذا توافرت فيه صفتان:
- الخيريَّة، أو ما يدلّ عليها كالأفضل والأعدل أو العدل.
- البينيَّة، سواء أكانت حسِّيَّة أو معنويَّة.
فإذا جاء أحد الوصفين دون الآخر فلا يكون داخلًا في مصطلح الوسطيَّة.
والقول بأنّ الوسطيَّة ملازمة للخيريَّة -أي أنّ كلّ أمر يوصف بالخيريَّة فهو (وسط)- فيه نظر، والعكس هو الصّحيح، فكل وسطيَّة تلازمها الخيريّة فلا وسطيَّة بدون خيريَّة، ولا عكس، فلا بدَّ مع الخيريَّة من البينيَّة حتى تكون وسطًا.
وكذلك البينيَّة -أيضًا- فليس كل شيء بين شيئين أو أشياء يُعتبر وسطيًّا وإن كان وسطًا، فقد يكون التوسّط حسيًّا أو معنويًّا، ولا يلزم أن يوصف بالوسطيَّة كوسط الزمان أو المكان أو الهيئة ونحو ذلك، ولكن كل أمر يوصف بالوسطيَّة فلا بد أن يكون بينيًّا حسًّا أو معنى.
ومن هنا نخلص إلى أنَّ أيَّ أمر اتَّصف بالخيريَّة والبينيَّة جميعًا فهو الذي يصحْ أن نُطلق عليه وصف الوسطيَّة.
وقد ذهب البعض إلى نفي صفة البينية عن الوسطية فقالوا إنه لا يلزم لكل ما يعتبر وسطًا في الاصطلاح أن يكون له طرفان، فالعدل وسط ولا يقابله إلا الظلم. وهذا قول غير مسلَّم في أصله ومثاله. أمَّا الأصل فقد تم بيانه سابقا، وأمّا المثال: فإنَّ الظلم له طرفان كل منهما يصدق عليه وصف الظلم، والعدل وسط بينهما.
ويوضّح وسطيَّة الإسلام ووسطيَّة هذه الأمة والارتباط فيها بين معنى الخيرية والعدالة من جهة وبين البينية ما قاله ابن تيمية رحمه الله: “والفرقة الناجية أهل السنّة، وهم وسط في النِّحَل، كما أنَّ ملَّة الإِسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله، ورسوله، وعباده الصّالحين، لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حقّ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلَّما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذَّبوا فريقًا وقتلوا فريقًا.
بل المؤمنون آمنوا برسل الله، وعزَّروهم، ونصروهم، ووقّروهم، وأحبّوهم، وأطاعوهم، ولم يعبدوهم، ولم يتّخذوهم أربابًا، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، ومن ذلك أنّ المؤمنين توسّطوا في المسيح، فلم يقولوا هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة، كما تقول النَّصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغيّة، كما زعمت اليهود، بل قالوا: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، وروح منه. وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله، فلم يُحرّموا على الله أن ينسخ ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت، كما قالته اليهود، كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}، وبقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ}.
ولا جوّزوا لأكابر علمائهم وعبّادهم أن يغيّروا دين الله، فيأمروا بما شاؤوا وينهوا عمَّا شاءوا، كما يفعله النّصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}.
والمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره، وقالوا: سمعنا وأطعنا. إلى أن قال رحمه الله: وهذا باب يطول وصفه…”. ويتَّضح من كلام ابن تيمية التَّلازم بين الخيريَّة والبينيَّة في استخراج معنى الوسطيَّة، وبيان اتّصاف هذه الأمَّة بهذه الصّفة الحميدة.
رابعاً: مصطلحات ملازمة لمصطلح الوسطية:
لقد تبينَّ لنا أنَّ الوسطيَّة لا بدّ لها من توافر أمرين، وهما: الخيريَّة والبينيَّة، ولا مجال لتحقق هذين الشرطين إلا باجتناب الغلو أو التطرف أو الإفراط من جهة، وباجتناب التفريط والتسيب، أي بالتزام الصراط المستقيم، فالصّراط المستقيم يُمثِّل الخيريَّة ويُحقّق معناها، وهو وسط بين الغلوّ والجفاء، أو الإفراط والتَّفريط، وهذا يُحقّق وصف البينيَّة وشرطها الذي ذكرنا أنَّه من لوازم الوسطيَّة. ولذلك إتماما لمعنى الوسطية نتوقف عند بيان دلالة المصطلحات التالية:
- الغلوّ أو الإفراط.
- الجفاء أو التَّفريط.
- الصّراط المستقيم.
أولًا: الغلو والإفراط:
عرَّف أهل اللغة الغلوّ بأنَّه مجاوزة الحدّ، فقال ابن فارس: غلوّ: الغين واللام والحرف المعتلّ أصل صحيح يدلّ على ارتفاع ومجاوزة قدر، يُقال: غلا السّعر يغلو غلاء، وذلك ارتفاعه، وغلا الرَّجل في الأمر غلوًّا، إذا جاوز حدَّه، وغلا بسهمه غلوًّا إذا رمى به أقصى غايته. وقال الجوهريُّ: وغلا في الأمر يغلو غلوًّا، أي جاوز فيه الحدّ. وقال في لسان العرب: وغلا في الدّين والأمر يغلو غلوًّا: جاوز حدَّه، وفي التّنـزيل: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} وفي الحديث: (إيّاكم والغلوّ في الدّين)، أي: التشدّد فيه ومجاوزة الحدّ، كالحديث الآخر: (إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ).
وغلا السّهم نفسه: ارتفع في ذهابه وجاوز المدى، وكلّه من الارتفاع والتَّجاوز. ويقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا، وغلا النَّبت: ارتفع وعظم.
الغلو في القرآن الكريم:
وقد وردت في القرآن الكريم آيتان فيهما النَّهي عن الغلوّ بلفظه الصَّريح، قال -تعالى- في سورة النساء: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}، قال الطبري: “يقول: لا تجاوزوا الحقّ في دينكم فَتُفْرِطُوا فيه، وأصل الغلو في كل شيء مجاوزة حدّه الذي هو حدّه، يقال منه في الدّين: قد غلا فهو يغلو غلوًّا”.
وقال ابن الجوزي في تفسير هذه الآية: “والغلوّ: الإفراط ومجاوزة الحدّ، ومنه: غلا السعر، وقال الزَّجَّاج: الغلوّ: مجاوزة القدر في الظّلم. وغلوّ النَّصارى في عيسى قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة. وعلى قول الحسن: غلوّ اليهود فيه قولهم: إنَّه لغير رشده. وقال بعض العلماء: لا تغلو في دينكم بالزّيادة في التّشدُّد فيه”.
أمَّا الآية الثانية فجاءت في سورة المائدة، في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}. قال الطبري: “يقول: لا تُفْرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح فتجاوزوا فيه الحقّ إلى الباطل، فتقولوا فيه: هو الله، أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه”.
قال ابن تيمية رحمه الله: “والنَّصارى أكثر غلوًّا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطّوائف، وإيَّاهم نهى الله عن الغلوّ في القرآن”.
ومنْ غُلوّ النّصارى ما ذكره الله في سورة الحديد: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}.
قال ابن كثير في آية المائدة: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} أي لا تجاوزوا الحدّ في اتّباع الحقّ، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه من حيِّز النبوَّة إلى مقام الإلهيَّة، كما صنعتم في المسيح، وهو نبيٌّ من الأنبياء فجعلتموه إلهًا من دون الله.
الغلو في السنة:
وقد وردت بعض الأحاديث التي تنهى عن الغلوّ، وذِكْرُ بعضها يساعد على فَهم معناه وحدّه:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع: (هلمّ القط لي الحصى، فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلمَّا وضعهَّن في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء وإيّاكم والغلوّ في الدّين فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين). قال ابن تيميَّة رحمه الله: “وهذا عامٌّ في جميع أنواع الغلوّ في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه، مثل الرّمي بالحجارة الكبار بناء على أنَّها أبلغ من الصّغار، ثم علَّله بما يقتضي مجانبة هديهم، أي هدي من كان قبلنا إبعادًا عن الوقوع فيما هلكوا به، وأنَّ المشارك لهم في بعض هديهم يُخاف عليه من الهلاك”.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم (هلك المتنطّعون) قالها ثلاثًا. قال النَّوويُ: هلك المتنطّعون: أي المتعمِّقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لا تشدّدوا على أنفسكم فيُشدِّد الله عليكم، فإنَّ قومًا شددوا على أنفسهم فشدِد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيار {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ هذا الدّين يُسر، ولن يُشادّ الدّين أحد إلا غلبه، فسدّدوا، وقاربوا أبشروا، واستعينوا بالغدوة والرَّوحة، وشيء من الدَّلجة). وفي لفظ: (القصد القصد تبلغوا). قال ابن حَجَر: والمعنى: لا يتعمّق أحد في الأعمال الدّينيَّة، ويترك الرّفق إلا عجز وانقطع فيُغلب.
قال عبد الرحمن بن معلا: “وحتى لا يقع ذلك جاء ختام الحديث آمرًا بالتَّسديد والمقاربة”، قال ابن رجب: والتّسديد العمل بالسَّداد، وهو القصد والتَّوسّط في العبادة، فلا يقصِّر فيما أمر به، ولا يتحمَّل منها ما لا يُطيقه.
وروى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن شبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اقرأوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلو فيه).
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين).
وكلّ هذه الأحاديث تدلّ على أن الغلوّ خروج عن المنهج ومجاوزة للحدّ، وفعل ما لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولسنا بصدد إحصاء الأحاديث التي تنهى عن الغلوّ وتذمّه دون تصريح به، فهي كثيرة جدًّا، ومن أشهرها قصَّة الذين جاؤوا وسألوا عن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في السرّ، فكأنَّهم تقالّوا عمله صلى الله عليه وسلم، فكان من قولهم ما هو معروف، وكيف واجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم هذا الأمر.
ومن الأدلة على النهي عن الغلو في العبادة ما روى أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنَّهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فقال أحدهم: أمَّا أنا فأُصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوَّج النساء، فمن رَغِبَ عن سنَّتي فليس منيِّ).
وتجدر الإشارة إلى أنّ الاجتهاد في طلب الأحسن في العبادة كما وكيفا في إطار السنة ليس من الغلو بل إن ذلك مطلوب وهو من السنة والوسطية.
مظاهر الغلو وتجلياته ومجالاته:
والغلو أصناف وألوان: فقد يكون غلوا في العقيدة، وقد يكون غلوا في العبادة، وقد يكون غلوا في المعاملات، وقد يكون غلوا في المنهج الفكري والخط الدعوي والسياسي.
ونقف هنا عند بعض مظاهر الغلو وتجلياته في هذه المجالات.
-
الغلو في العقيدة:
أما الغلو في العقيدة فيتمثل في تأليه غير الله والإشراك به والاعتقاد في غيره بما لا ينبغي إلا له، أو بتعطيل الصفات الواجبة له، وفي ذلك تجاوز للحد وتنكّب عن الوسطية التي هي الالتزام في الاعتقاد بعين ما وصف الله به نفسه من أوصاف الكمال وبعين ما نفاه عن ذاته من أوصاف النقص.
ومن نماذج ذلك ما حدث مع النصارى الذين غلوا في المسيح حينما اتخذوه إلها، وحينما اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله كما جاء في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}. قال ابن كثير: “ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد مع عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها يعبدونه كما يعبدونه، بل غلوا في اتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه، فادّعوا فيه العصمة، واتبعوه في كل ما قالوه كان حقًا أو باطلًا أو ضلالًا أو إرشادًا، أو صحيحًا أو كذبًا، ولهذا قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم}”.
-
الغلو في العبادة:
وكما يتسرب الغلو للعقيدة فإنه يتسرب للعبادة، ومنشأ هذا النوع من الغلو ترك الاتباع للسنة، حيث تميل بعض النفوس الضعيفة والعقول الكليلة إلى التزيد في العبادة على الحدّ المشروع وتتعدى الكيفية المشروعة إلى حدود وكيفيات لم تشرع، ظنًّا منها بذلك أنّها تحسن الدين، في حين أنّ ذلك هو عين البدعة المذمومة وأنّ الأصل في العبادة هو الاتباع.
ولقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا المدخل من مداخل الانحراف في فهم الدين والعمل به حينما أمر بالاتباع في عدة أحاديث، وقد أوردنا نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التشديد على النفس وضرب على ذلك ببني إسرائيل مثلًا، الذين شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم بابتداعهم لرهبانية لم يرعوها حق رعايتها. يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: (إن هذا الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)، وفي لفظ: (القصد القصد تبلغوا)، قال ابن حجر: “المعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب”.
أما التسديد فمعناه العمل بالسداد وهو القصد والتوسط في العبادة، فلا يقصر فيما أمر به ولا يتحمل منها ما لا يطيقه، ومعناه عدم التعمق في العبادة بشكل يخرج فيها عن الحد المشروع والكيفية المسنونة.
ومن الأدلَّة على ذلك أيضًا ما رواه أنس بن مالك قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلَّقت به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حلّوه ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد)، قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: “وفيه الحثّ على الاقتصاد في العبادة، والنَّهي عن التعمّق فيها”.
وفي حديث ابن عباس الذي سقناه سابقًا حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يلقط له حصيات من حصى الخدف ونهى عن مخالفة هديه في الجمار والرمي بأحجار أو غيرها من حجم كبير ظنَّا من الحاج أنّ ذلك أحسن وأبلغ للمقصود، فاعتبر أنّ ذلك من الغلو في الدين المفضي إلى الهلاك.
فجاء الحديث إشارة عظيمة ولفتة عميقة إلى تأكيده صلى الله عليه وسلم على وجوب الاتباع في العبادة، ففي رمي الجمرات تربية على هذا المعنى، أي ترويض للمسلم على عدم التزيّد في العبادة كمًّا وكيفًا على الحدّ الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأمل واقع المسلمين اليوم في رمي الجمرات وكيف يرمون بما اتفق من أمتعتهم ونعالهم ومظلاتهم ظنًّا منهم أنهم بذلك يرجمون الشيطان، والواقع أن الشيطان يصدهم بذلك عن السنة، تأمل في ذلك تجد تفسيرًا لأحد الأسباب الكبرى لانتشار الغلو في العبادة وفي غيرها من المجالات.
-
الغلو في المعاملات:
والغلو كما يظهر في العقيدة وفي العبادة، فإنّه يظهر أيضًا في المعاملات أي في التصرفات الفردية وفي العلاقة مع الآخرين، ويدخل في هذا الباب:
- الغلو بترك الطيبات التي أباحها الله كما في قصة الثلاثة الذين جاءوا يسألون عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في أحوالهم من ترك الحلال المباح الذي أشار إليه الحديث الذي أوردناه وما في الزيادة على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم من الابتداع والغلو.
- الغلو في الحكم على الآخرين إما مدحًا أو ذمًّا، حيث يقف المغالي من بعض الناس موقف المداح المفرط في المدح ومن الآخرين موقف الذام المجافي، فهناك نمط من الغلو الغالب يرتدي صاحبه نظارات سوداء ينظر من خلالها إلى الآخرين، فلا يرى فيهم إلا القبيح، بينما هناك نمط آخر يرتدي نظارات وردية تزين له كل شيء فلا يرى فيهم إلا كل الحسن، وفي ذلك تنكب عن الطريق الوسط، طريق العدل كما في قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، وكما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}،
ومن الغلو في الحكم على الآخرين: تكفير المسلمين وإخراج أهل القبلة من دائرة الإسلام، وهذا مبدأ ثابت عند أهل السنة والجماعة وأحد المميزات التي تجعلهم من أهل الوسطية، وفي ذلك يقول الإمام الطحاوي في بسط عقيدة أهل السنة: “ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول لا ينفع مع الإيمان ذنب لمن عمله”، ويقول أيضًا: “ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه”.
ثانيًا: الإفراط
الإفراط والتفريط لغة:
الإفراط هو: التقدّم ومجاوزة الحدّ.
قال ابن فارس: يُقال: أفرط: إذا تجاوز الحدّ في الأمر، يَقُولُونَ: إِيَّاكَ وَالْفَرَطُ، أَيْ لَا تُجَاوِزِ الْقَدْرَ، وهذا هو القياس، لأنَّه إذا جاوز القدر فقد أزال الشيء عن وجهته. وقال الجوهري: وأفرط في الأمر: أي: جاوز فيه الحدّ.
وفي لسان العرب: وأمرٌ فُرُط، أي: مجاوز فيه الحدّ.
والفُرطة بالضم: اسم للخروج والتقدّم، وأمَّا التَّفريط فهو التَّواني، يُقال منه: فرَّطت في هذا الأمر حتى فات، إذا توانى فيه.
الإفراط والتفريط في القرآن:
وردت مشتقات كلمتي الإفراط والتفريط في عدة مواقع من القرآن الكريم تناولها علماؤنا الأجلاء من المفسرين نذكر منها ما ورد في سورة طه حينما أمر الله سبحانه وتعالى موسى وأخاه هارون أن يذهبا إلى فرعون ويقولا له قولًا ليّنًا لعله يتذكر أو يخشى فكان جوابهما كما أثبته القرآن الكريم {قالا ربنا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى}، قال الطبري: “وأما الإفراط فهو الإسراف والإشطاط والتعدّي، يقال منه، أفرطت في قولك، إذا أسرف فيه وتعدَّى. قال ابن زيد في قوله تعالى: {نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} قال: نخاف أن يعجل علينا إذ نبلّغه كلامك أو أمرك، يفرط ويعجّل”.
وكل شيء جاوز قدره فهو مفرط وأمَّا التفريط في اللغة فهو التَّضييع كما في لسان العرب.
وفي القرآن الكريم وردت الإشارة إلى التفريط في عدة مواقع منها:
قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، قال الزَّجَّاج: أي كان أمره التَّفريط وهو تقديم العجز.
وقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} قال الطبري: يقول: يا ندامتنا على ما ضيّعنا فيها. وقال السدي: أما (يَا حَسْرَتَنَا) فندامتنا على ما فرَّطنا فيها، فضيَّعنا من عمل الجنة. وقال القرطبي: وفرَّطنا معناه ضيَّعنا، وأصله التقدّم، فقولهم: (فَرَّطْنَا) أي: قدَّمنا العجز. وقيل: {فرَّطنا} أي: جعلنا غير الفارط السَّابق لنا إلى طاعة الله وتخلّفنا.
وقال تعالى أيضًا: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} قال الطبريّ: معناه: “ما ضيَّعنا إثبات شيء منه”. وقال ابن عبَّاس: ما تركنا شيئًا إلا وقد كتبناه في أمّ الكتاب.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُون} قال الطبري: قد بيَّنَّا أنَّ معنى التَّفريط: التَّضييع فيما مضى قبل، وكذلك تأوّله المتأوِّلون في هذا الموضع. قال ابن عبَّاس: {لا يُفرّطون} لا يضيِّعون، وكذلك قال السّديّ: {لا يفرّطون} لا يضيِّعون.
وفي سورة يوسف في قوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} قال الطبري: ومن قبل فعلتكم هذه تفريطكم في يوسف، يقول: أولم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف، قال القاسميّ:{فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} قصَّرتم في شأنه.
وقوله تعالى في سورة النحل: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}. قال سعيد بن جبير: “وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ منسيّون مضيّعون”، وقال الضَّحَّاك: متروكون في النَّار، وقال قتادة: مضاعون. وقال آخرون: إنَّهم معجلون إلى النَّار مقدّمون إليها، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب: أفرطنا فلانًا في طلب الماء إذا قدّموه لإصلاح الدّلاء والأرشية، وقيل غير ذلك، ورجّح الطبري أن معنى {مُفْرَطُونَ} مخلّفون متروكون في النَّار، منسيّون فيها.
ونخلص ممَّا سبق أن معنى الإفراط: تجاوز الحدّ، والتقدّم عن القدر المطلوب، وهو عكس التَّفريط كما سيأتي.
الإفراط و التفريط في السنة:
ورد التفريط في الحديث النبوي بمعنى التقصير والتَّضييع والتَّرك ومنه الحديث: (أنَّه نام عن العشاء حتى تفرّطت) أي: فات وقتها قبل أدائها.
وفرّط في الأمر يُفرِّط فرطًا، أي: قصَّر فيه وضيَّعه حتى فات، وهو نفس المعنى في قول الرسول صلى الله علية وسلم: (أما إنَّه ليس في النوم تفريط).
الإفراط و التفريط اصطلاحًا:
من خلال الآيات والأحاديث السابقة وأقوال المفسّرين يتضح أن الإفراط هو التعدّي بتجاوز الحدّ المسنون في العبادات والتعدّي، وبهذا المعنى يكون دالًّا على معنى البدعة ومخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك في مقابل التفريط وهو وجه آخر للتعدي يتمثل في تَّضييع لأوامر الشرعية والتَّقصير فيها، والتَّرك لها والتَّهاون في أدائها، وكلا الأمرين مخالف للوسطية القائمة على التوازن.
الصراط المستقيم:
والواضح أن الوسطية بهذا المعنى، إذا كانت لا تتحقق إلا باجتناب التنطّع والغلو في الدين والتشدد والتشديد على النفس والآخرين، فإنها أيضًا لا تعني التسيب واتباع الأهواء والتفريط في أحكام الدين وعباداته وأخلاقه بدعوى التيسير والوسطية، ولذلك فإن الوسطية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالاستقامة.
فالصّراط المستقيم يدلّ على الوسطيَّة في مفهومها الشَّرعي الاصطلاحيّ الذي سبق تقريره، إذ أن خاصيتي البينية والخيرية الملازمتين لمفهوم الوسطيَّة متحققتان أيضًا في معنى الصّراط المستقيم.
فنجد في سورة الفاتحة لمَّا قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} عرَّفه فقال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ثم حدَّده فقال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فجعل الصّراط المستقيم طريق الخيار، وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين. وهو بين طريقي المغضوب عليهم والضّالين.
وكذلك في سورة البقرة قال تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فقال بعدها مباشرة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}.
وقد تحدَّث المفسّرون عن الكاف في هذه الآية، وذكر غير واحد أن (الكاف) للرّبط بين جعلهم أمَّة وسطًا وهدايتهم للصّراط المستقيم.
ونـزيد الأمر وضوحًا في ذكر بعض الأحاديث التي وردت في ذلك:
ذكر الطبري في آداب النّفوس: حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبان، أن رجلًا قال لابن مسعود: ما الصّراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثَمَّ رجال يدعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النَّار، ومن أخذ على الصّراط انتهى به إلى الجنَّة، ثم قرأ ابن مسعود: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً}.
خامسًا: مجالات وتجليات للوسطية:
وللوسطية مظاهر وتجليات في العقيدة والعبادة والأخلاق والنظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وفي السلوك الفردي والجماعي.
-
وسطية العقيدة والتصور:
إن أول تجلّ للوسطية يظهر في مجال العقيدة حيث جاءت عقيدة التوحيد في الإسلام موافقة للفطرة في سماحتها ووضوحها واستقامتها وبساطتها بعيدا عن الانحرافات التي وقعت عند اليهود الذين قالوا: يد الله مغلولة، وإشراك النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، وجفاء الماديين الذين ينكرون الغيب فقالوا: نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وشطحات الروحانيين الذين لا يعيشون الشهادة ويبتدعون رهبانية ما كتبت عليهم.
كما أن منهج القرآن والسنة في تقرير حقائق العقيدة في العقول وآثارها في النفوس لم يعتمد على المنهج الفلسفي النظري على غرار مناهج الفلاسفة ومن سار على نهجهم من المتكلمين الذين حولوا قضاياها إلى قضايا نظرية تجريدية وافتراضية، بل إنه اهتم بتقوية الصلة بين الوجدان الإنساني والخالق ليتسنى للإنسان نوع من المعرفة القلبية الروحية تثمر الحقائق الإيمانية والمعارف الوجدانية التي تصل الأرواح بالملإ الأعلى. ولا على غرار مناهج بعض غلاة المتصوفة الذين أسقطوا كلّيًا العقل، بل إنه جعل النظر والتأمل في خلق الله واستخدام ملكة العقل سبيلًا لمعرفة الخالق وبدائع صنعه، فجاء منهجًا يتكامل فيه الإدراك العقلي من خلال حجج عقلية قريبة من الفطرة ومن خلال توجيه الخطاب العقدي للتأثير في النفوس بعد مخاطبة العقول السليمة، فتكامل بذلك طريقا المعرفة النقلية والمعرفة العقلية في صياغة عقيدة الإنسان المسلم وصياغة وجدانه وسلوكه «المعرفة النقلية التي مصدرها الوحي بشقيه الكتاب والسنة، والمعرفة العقلية التي مصدرها الكون بشقيه الطبيعي والبشري هما مصدر المعرفة وفق قاعدة موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول ودرء تعارض العقل والنقل. فالعقل يشير، والنقل يحكم، والعقل يضيء والنقل يرشد، ونتأمل آيات الله في كتابه المقروء، وفي صفحة الكون المنظور».
وبما أن مفهوم الوسطية يرجع عند نهاية التحليل إلى خاصية التوازن والعدل والاعتدال، فإننا نلاحظ قيام التصور الإسلامي للكون وللحياة وللمجتمع وللإنسان وللعلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الإسلامي وبين المجتمع الإسلامي وغيره من المجتمعات، وللعلاقات التي ينبغي أن تقوم بين البشر عامة على الوسطية بما تعنيه من عدل وتوازن، فجاء الإسلام تصورًا وممارسة يعطي لكل ذي حق حقه، ويأمر بالقسط والعدل وعدم الطغيان أو الإفراط والتفريط ومراعاة «الميزان» {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ¤ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ¤ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} فجاء التصور الإسلامي لجميع مجالات الفكر والسلوك والمجتمع مبنيًا على مراعاة التوازن المذكور: توازن بين الروح والجسد، وبين الدنيا والآخرة، وبين الدين والدولة، وبين الذات والموضوع، وبين الفرد والمجموع، وبين الفكر والواقع، وبين المادية والمثالية، وبين المقاصد والوسائل، وبين الثابت والمتغير، والقديم والجديد، وبين العقل والنقل، وبين الحق والقوة، وبين الاجتهاد والتقليد، وبين الدين والعلم، إلى غير ذلك من الثنائيات.
وقد أفاض سيد قطب رحمه الله في بيان خاصية التوازن في كتابه خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، ونظرًا لروعة ما كتب في الموضوع فإننا نقتطف منه فقرات تبسط في وضوح هذه الخاصية، وهو الاقتباس الذي لا يغني عن الرجوع إلى الفصل المذكور لقراءته ودراسته. وعمومًا فقد أبرز سيد قطب عدّة أبعاد تبرز وهذه الخاصية ومنها:
- التوازن بين العقل والنقل بين الفكر والوجدان بين المعرفة العقلية والمعرفة الذوقية الوجدانية:
يقول سيد قطب:
“إن العقيدة التي لا غيب فيها ولا مجهول، ولا حقيقة أكبر من الإدراك البشري المحدود، ليست عقيدة، ولا تجد فيها النفس ما يلبي فطرتها، وأشواقها الخفية إلى المجهول، المستتر وراء الحجب المسدلة .. كما أن العقيدة التي لا شيء فيها إلا المعمّيات التي لا تدركها العقول ليست عقيدة! فالكينونة البشرية تحتوي على عنصر الوعي، والفكر الإنساني لا بد أن يتلقى شيئاً مفهوماً له، له فيه عمل، يملك أن يتدبره ويطبقه .. والعقيدة الشاملة هي التي تلبي هذا الجانب وذاك، وتتوازن بها الفطرة، وهي تجد في العقيدة كفاء ما هو مودع فيها من طاقات وأشواق.
فإذا كانت ماهية الذات الإلهية، وكيفية تعلق إرادة الله بالخلق وحقيقة الروح من الحقائق التي لا سبيل إلى الإحاطة بها -كما أسلفنا- فهناك خصائص الذات الإلهية: من وجود، ووحدانية، وقدرة، وإرادة، وخلق، وتدبير … وكلها مما يعمل الفكر البشري في إدراكه، ومما يستطيع أن يدرك ضرورته ومقتضياته في الوجود. والإسلام يعرض هذه الخصائص ببراهينها المقنعة .. وهناك «الكون» وحقيقته، ومصدر وجوده، وعلاقته بخالقه، وعبوديته له، واستعداده لاستقبال الحياة، وعلاقته بالإنسان وعلاقة الإنسان به.. وهناك «الحياة» بشتى أنواعها وأجناسها وأشكالها ودرجاتها، ومصدرها، وعلاقتها بطبيعة الكون، وعلاقتها بمبدعه ومبدعها.. وهناك «الإنسان» وحقيقته، وخصائصه ومصدره، وغاية وجوده، ومنهج حياته.. وكلها ترد في منطق مفهوم واضح، مريح للعقل والقلب، مدعم بالبراهين التي تتلقاها الفطرة بالقبول والتسليم”.
ويقول أيضًا:
“وهكذا تجد الفطرة البشرية في التصور الإسلامي ما يلبي أشواقها كلها: من معلوم ومجهول، ومن غيب لا تحيط به الأفهام ولا تراه الأبصار، ومكشوف تجول فيه العقول وتتدبره القلوب. ومن مجال أوسع من إدراكها تستشعر إزاءه جلال الخالق الكبير، ومجال يعمل فيه إدراكها وتستشعر إزاءه قيمة الإنسان في الكون وكرامته على الله. وتتوازن الكينونة الإنسانية بهذا وذلك، وهي تؤمن بالمجهول الكبير، وهي تتدبر المعلوم الكبير..“.
- التوازن بين تأكيد المشيئة الإلهية والتأكيد على خضوع الكون لسنن مطردة:
يقول سيد قطب:
“والتوازن بين طلاقة المشيئة الإلهية وثبات السنن الكونية.. فالمشيئة الإلهية طليقة، لا يرد عليها قيد ما، مما يخطر على الفكر البشري جملة.، وهي تبدع كل شيء بمجرد توجهها إلى إبداعه، وليست هنالك قاعدة ملزمة، ولا قالب مفروض تلتزمه المشيئة الإلهية، حين تريد أن تفعل ما تريد”.
ويضيف سيد قطب رحمه الله: “وفي الوقت ذاته شاءت الإرادة الإلهية المدبرة، أن تتبدى للناس -عادة- في صورة نواميس مطردة، وسنن جارية، يملكون أن يرقبوها، ويدركوها، ويكيفوا حياتهم وفقها، ويتعاملوا مع الكون على أساسها.. على أن يبقى في تصورهم ومشاعرهم أن مشيئة الله -مع هذا- طليقة، تبدع ما تشاء، وأن الله يفعل ما يريد، ولو لم يكن جارياً على ما اعتادوا هم أن يروا المشيئة متجلية فيه، من السنن المقررة والنواميس المطردة، فسنّة كذلك -وراء السنن كلها- أن هذه المشيئة مطلقة، مهما تجلت في نواميس مطردة وسنن جارية، ومن ثم يوجه الله الأبصار والبصائر إلى تدبر سننه في الكون، والتعامل معها، والنظر في مآلاتها -بقدر ما يملك الإدراك البشري- والانتفاع بهذا النظر في الحياة الواقعة”.
- التوازن بين المشيئة الإلهية المطلقة والمشيئة الإنسانية المحدودة:
يقول سيد قطب محدّدًا التوازن في التصور الإسلامي في هذه القضية التي عرفت في الفكر الفلسفي عامة والفكر الكلامي الإسلامي بقضية القدر: “والإسلام يثبت للمشيئة الإلهية الطلاقة -كما أسلفنا- ويثبت لها الفاعلية التي لا فاعلية سواها، ولا معها -كما بينّا ذلك في خاصية الشمول وكما سيجيء في خاصية الإيجابية- وفي الوقت ذاته يثبت للمشيئة الإنسانية، الإيجابية -كما سنفصل ذلك في خاصية الإيجابية- ويجعل للإنسان الدور الأول في الأرض وخلافتها، وهو دور ضخم، يعطي الإنسان مركزاً ممتازاً في نظام الكون كله، ويمنحه مجالاً هائلاً للعمل والفاعلية والتأثير، ولكن في توازن تام مع الاعتقاد بطلاقة المشيئة الإلهية، وتفردها بالفاعلية الحقيقية، من وراء الأسباب الظاهرة. وذلك باعتبار أن النشاط الإنساني هو أحد هذه الأسباب الظاهرة. وباعتبار أن وجود الإنسان ابتداء، وإرادته وعمله، وحركته ونشاطه، داخل في نطاق المشيئة الطليقة، المحيطة بهذا الوجود وما فيه ومن فيه”.
- التوازن في التصور والشعور:
يؤكد سيد قطب أن ذلك التوازن بين المشيئة الإلهية والمشيئة الإنسانية الذي يبنيه التصور الإسلامي في تصور وشعور الإنسان المسلم يترتب عليه توازن في الاعتقاد في نشاط وحركة الإنسان المسلم، يقول سيد قطب: “بهذا يتم التوازن في الاعتقاد والشعور، كما يتم التوازن في النشاط والحركة، فيثير التصور الإسلامي في الضمير الرغبة في الخير والاستقامة، وفي الحركة والفاعلية، مع الاستعانة بالله الذي بيده كل شيء.
وبهذا يقطع التعطيل والإرجاء والسلبية، والإحالة على مشيئة الله في المعصية، أو الشلل والجمود والسلب .. وقد علم أن الله لا يرضى لعباده الكفر، وأنّه لا يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ولا يرضى أن يترك المنكر بلا جهاد، ولا أن يترك الحق بلا نصرة، ولا أن تترك الأرض بلا خلافة، وقد علم أن الإنسان في هذه الدنيا للابتلاء بالخير والشر، وللامتحان في كل حركة وكل حالة، وأنه مجزي على الحسنة وعلى السيئة في دار الحساب والجزاء .. وأنه كذلك مستخلف في هذه الأرض، وأن له مكانه في هذا الكون، وله دوره في ما يقع في هذه الأرض من تغيير وتطوير، وأنه إما ناهض بهذه الخلافة -وفق منهج الله- فمثاب، وإما ناكل التبعة فمعاقب، ولو كان النكول خوفاً من التبعة، وفراراً من الابتلاء”!
- التوازن بيت عبودية الإنسان لله والتكريم الإلهي له:
يؤكد سيد قطب خاصة التوازن في التصور الإسلامي بين تكريم الإنسان وبين الإقرار بعبوديته متجاوزة في ذلك ما عرفته الحضارة الغربية من سحق لآدمية الإنسان ومن تطرف في الجهة المقابلة أدى إلى تأليه الإنسان فيقول: “والتوازن بين عبودية الإنسان المطلقة لله، ومقام الإنسان الكريم في الكون.. وقد سلم التصور الإسلامي في هذا الصدد من كل الهزات والأرجحات التي تعاورت المذاهب والمعتقدات والتصورات .. ما بين تأليه الإنسان في صوره الكثيرة، وتحقير الإنسان إلى حد الزراية والمهانة.
إن الإسلام يبدأ فيفصل فصلاً تاماً كاملاً بين حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية،. وبين مقام الألوهية ومقام العبودية، وبين خصائص الألوهية وخصائص العبودية، بحيث لا تقوم شبهة أو غبش حول هذا الفصل الحاسم الجازم.
والإسلام لا يقيم أي تعارض بين «رفعة الإنسان وعظمته وكرامته وفاعليته، وبين عبوديته لله -سبحانه- وتفرد الله بالألوهية وبخصائصها جميعاً، ولا حاجة إذن -عندما يراد رفع الإنسان وتكريمه- أن تخلع عنه عبوديته لله، أو تضاف إلى ناسوتيته لاهوتية ليست له، كما احتاج رؤساء الكنيسة والمجامع المقدسة أن يفعلوا ليعظموا عيسى -عليه السلام- ويكبِّروه! (…) وكذلك لا حاجة إلى تصغير الله -سبحانه وتعالى- كلما أريد تعظيم الإنسان، وإعلان رفعة مقامه في هذه الأرض، وسيطرته وفاعليته، وكلما فتح الله للإنسان فتحاً في أسرار المادة، وكلما سخر له طاقة من طاقات الكون!
- التوازن في مشاعر وضمير الإنسان:
يؤكد سيد قطب أيضًا أنّ التصور الإسلامي يقيم توازنا في مشاعر الإنسان فلا يطغى شعور على شعور وذلك في ارتباط بمختلف صفات الكمال والجلال والتي وصف بها الحق سبحانه نفسه في القرآن الكريم “التوازن في علاقة العبد بربه، بين موحيات الخوف والرهبة والاستهوال، وموحيات الأمن والطمأنينة والأنس.. فصفات الله الفاعلة في الكون، وفي حياة الناس والأحياء، تجمع بين هذا الإيحاء وذاك. في توازن تام. (…) ومن هذا وذاك يقع التوازن في الضمير بين الخوف والطمع، والرهبة والأنس، والفزع والطمأنينة.. ويسير الإنسان في حياته، يقطع الطريق إلى الله، ثابت الخطو، مفتوح العين، حي القلب، موصول الأمل. حذراً من المزالق، صاعداً أبداً إلى الأفق المضيء، لا يستهتر ولا يستهين، ولا يغفل ولا ينسى، وهو في الوقت ذاته شاعر برعاية الله وعونه، ورحمة الله وفضله، وأن الله لا يريد به السوء، ولا يود له العنت، ولا يوقعه في الخطيئة ليتشفى بالانتقام منه .. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً”.
- التوازن في منهج المعرفة ومصادرها:
سواء تعلق الأمر بالمصادر الغيبية أو المصادر الحسية والصادر العقلية والمصادر النقلية والتوازن يقول سيد قطب: “وقد رأينا في مطلع هذا البحث كيف تقلبت التصورات في أوربة، بين اتخاذ النص (أو الوحي) -وحده – مصدراً للمعرفة، واتخاذ العقل -وحده – مصدراً، واتخاذ الطبيعة -وحدها – مصدراً كذلك! وتعسف كل فريق في «تأليه» مصدره، ونفي المصادر الأخرى إطلاقاً، وإلغاء وجودها إلغاء!
فأما الإسلام في شموله، وفي توازنه، وفي اعتباره لجميع «الحقائق» الواقعة، دون تعسف، ودون هوى، ودون شهوة، ودون غرض، ودون جهل، ودون قصور (…)
أما الإسلام -في طمأنينته إلى الحق الكامل الشامل- فلم يغفل مصدراً واحداً من مصادر المعرفة لم يعطه اعتباره، ولم يضعه في مكانه الذي يستحقه، ودرجته التي هي له في الحقيقة، في دقة وتوازن وطمأنينة”.
-
الوسطية في العبادة:
لقد سبقت الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الغلو في العبادة ورأينا أن الغلو فيها هو الخروج بها عما جاءت به سنته صلى الله عليه وسلم، إذ إن الأصل في العبادات الاتباع، ذلك أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المجال هو الوسط وما عداه لا يعدو أن يكون إما إفراطًا أو تفريطًا أو غلوًا أو مجافاة.
ولقد عني النبي صلى الله عليه وسلم بتقرير مبدأ الاتباع في مجال العبادة وحذر من الخروج عن السنة، وأمر المسلمين بالتوسط في العبادة وأن يأخذوا منها ما يطيقون ونهى عن التعمق فيها بالشكل الذي يؤدي إلى تجاوز الحد المشروع بدعوى التقرب أكثر والزيادة على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أمر به أو بتقليده ومجاراته فيما كان من خصوصياته عليه الصلاة والسلام.
ومن الأدلة القرآنية على نهج الوسطية والتوسط في العبادة قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، قال ابن كثير: أي جهدكم وطاقتكم.
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} قال: لما نـزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرّحت جباههم فأنـزل الله -تعالى- هذه الآية، تخفيفًا على المسلمين: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فنسخت الآية الأولى. ودلالة الوسطيَّة على هذا القول واضحة جلية.
ومن الآيات التي جاءت في الدعوة إلى التوسط في بعض العبادات وذمّ الله الإفراط والغلو فيها، ما جاء في القرآن في حق بني إسرائيل من النصارى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، قال القاسمي: الرهبانية هي المبالغة في العبادة، والرياضة والانقطاع عن الناس، وإيثار العزلة والتبتل وقال ابن كثير: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} أي ابتدعتها أمَّة النصارى. {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي: ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم، {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذمّ لهم من وجهين:
أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.
الثاني: في عدم قيامهم بما التزموه، مما زعموا أنه قربة يقرّبهم إلى الله عز وجل
وهذه الرّهبانية التي ابتدعها النصارى لم يشرعها الله، وهي غلوّ في العبادة، ولذلك كانت النتيجة عدم قدرتهم على المحافظة عليها لمشقّتها وصعوبتها.
وقول الله جل وعلا: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} دليل على أن الله لا يشرع ولا يكلّف بما فيه غلوّ ومشقّة، كما سبق بيانه.
والأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرة، نذكر منها:
حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وعندها امرأة قال: من هذه؟ قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملّوا).
هذا الحديث وأحاديث أخرى أشرنا إليها سابقًا صريحة في رسم منهج الوسطيَّة في العبادة، وحديث الثلاثة في غاية البيان والوضوح، وهذا الحديث الذي يورد قصة زينب قال فيه ابن حجر: فيه الحثّ على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمّق فيها، والثالث قال فيه ابن حجر أيضًا: (عليكم بما تطيقون): أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يُطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلّف ما لا يُطاق.
ولقد ضرب القرآن الكريم للمسلمين مثلين من مجافاة الوسطية في العبادة وذلك من خلال استعراض المنهج الذي كان عليه اليهود في شأن العبادة والمنهج الذي كان عليه النصارى، فأما المنهج الأول في مثل نموذج التفريط والجفاء وتحويل العقيدة والعبادة إلى وسيلة لتحصيل المكاسب العاجلة، فلو نظرنا إلى التوراة -بعد تحريفها- لوجدنا أن تقديس المادة غلب على بنودها، فلا تقرأ في أسفار التوراة ذكرًا للآخرة، حتى ما ورد فيها من وعد ووعيد فإنما هو متعلّق بالدنيا فقط، فلا يعمل الشّخص إلا لتحقيق كسب عاجل، أو خوفًا من عقوبة عاجلة.
بل بالغوا وطبقوا ماديتهم حتى في معرفة الله، فقالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}، وقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}.
ووفقًا لهذا التصور المادي الدنيوي أغرق هؤلاء في تقديس المحسوسات، واتخذوها طريقًا للرقي، وأصبحت القيم المادية محور الحياة، وتحول الإنسان في نظر هؤلاء إلى آلة تتحرّك، ومعدة تهضم، وكائن يلهو. وقد وصفهم القرآن الكريم، وبين مدى تعلّقهم بالحياة وحرصهم عليها، فقال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} أي حياة، حتى لو كانت حياة البهائم ونحوها، وذلك لأنهم يخشون الموت: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً}، لأنهم ربطوا غايتهم بالدنيا، فعملهم للدنيا، وعبادتهم لمآرب دنيوية: فإذا انتهت الدنيا فقد فاتهم كل شيء….. وهذا المنهج يمثل التفريط في أسوأ صوره وحالاته، ولذلك أمرنا الله أن نستعيذ منه في كل صلاة، ونسأله أن يجنّبنا إيّاه.
أما المنهج الثاني وهو المنهج القائم على الإفراط والغلو في العبادة والإغراق في العبادة والرهبنة كما هو الشأن عند النصارى الذين ابتدعوا رهبانية قاسية على النفس، تحرّم الزواج، وتكبت الغرائز، وترفض كل أشكال الزينة، وطيبات الرزق، وترى ذلك رجسًا من عمل الشيطان، وبالغوا في العبادة، وأخرجوها عن كيفيتها، وعن المراد منها، وأصبحت رهبانية غالية مشوهة، معذبة للأجساد، ابتدعوها من أنفسهم، بلا حجة أو برهان. {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} وهذا الوجه يمثل الوجه الثاني من وجوه الانحراف عن الصّراط المستقيم، ولذلك أُمرنا بأن نسأل الله أن يجنّبنا إياه… وقد جاء الإسلام ليُصحح المسألة، ويهدي الناس لأقوم السّبل، وأعدل الطّرق، طريق الوسط بين عبادة المادة ونسيان حق الرّوح، وبين إرهاق الروح ونسيان حق البدن، ليعطي كل ذي حقّ حقّه، وفقًا لقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}.
ولقد جاءت آيات في القرآن الكريم تأمر بعبادة الله وحده، وتصف عبادته بالاستقامة، وبأن عبادته هي الكلمة السواء، وغير ذلك مما يدل على أن عبادته هي الطريق الوسط السالم من الانحراف والضّلال: قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيئاً}، وقال في أكثر من موضع {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}.
قال الطبري في تفسيره: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} يعني بذلك -جلّ ثناؤه- قل يا محمد لأهل الكتاب -وهم أهل التوراة والإنجيل- تعالوا: هلمّوا إلى كلمة سواء، يعني إلى كلمة عدل بيننا وبينكم.
والكلمة العدل: هي أن نوحّد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئًا» وقال ابن كثير في الآية نفسها: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي: عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً}. لا وثنًا ولا صليبًا ولا صنمًا ولا طاغوتًا ولا نارًا ولا شيء آخر، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، هذه دعوة جميع الرسل، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
وقال رشيد رضا في تفسير المنار: قال الأستاذ الإمام (محمد عبده) في قوله تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} لما نكلوا دعاهم إلى أمر آخر، هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء، وهو سواء بين الفريقين، أي عدل ووسط لا يرجح فيه طرف على آخر، وقد فسّره بقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} وبهذا يتضح أن هذه الآية نصّ في الوسطيَّة في العبادة، وهي عبادة الله وحده.
أمّا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}، فقد قال الطبري في معناها: ذلك هو الطريق القويم، والهدي المتين الذي لا اعوجاج فيه وقال في آية مريم: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} يقول: هذا الذي أوصيتكم به، وأخبرتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم، الذي من سلكه نجا، ومن ركبه اهتدى، لأنه دين الله الذي أمر به أنبياءه.
وقال القاسمي في تفسيره: {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي: قويم، من اتبعه رشد وهدى، ومن خالفه ضلّ وغوى «وقد سبق بيان أن الوسطيَّة تعني الاستقامة وأن قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} من أقوى الأدلة على منهج الوسطيَّة، كما يقرّره القرآن الكريم.
وكما ذم الله الغلوّ والرهبنة في العبادات، فقد ذم التفريط فيها وتضييعها وإهمالها، فقال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً}.
قال ابن كثير في تفسيره مبينًا دلالة هذه الآية على الخروج عن منهج الوسطيَّة:
“لما ذكر الله -تعالى- حزب السعداء، وهم الأنبياء، عليهم السلام، ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله، وأوامره، المؤدّين فرائض الله، التاركين لزواجره، وذكر أنه {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي قرون أخر {أَضَاعُوا الصَّلاةَ} وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع، لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سَيلقَون غيًّا، أي: خسارة يوم القيامة”.
وقال الشنقيطي في تفسير الآية: “فخلف من بعد أولئك النبيين خلف، أي: أولاد سوء”.
ثم قال: “إن هذا الخلف السيئ الذي خلف من بعد أولئك النبيين الكرام كان من صفاتهم القبيحة أنهم أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات. ثم قال: فإذا عرفت كلام العلماء في الآية الكريمة، وأن الله توعّد فيها من أضاع الصلاة، واتبع الشهوات، بالغيّ الذي هو الشرّ العظيم، والعذاب الأليم، فاعلم أنه أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله في ذمّ الذين يضيعون الصلاة ولا يحافظون عليها وتهديدهم: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ}. وأشار في مواضع كثيرة إلى ذم الذين يتّبعون الشّهوات، وتهديدهم، كقوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة أن الخلف الطيبين لا يضيعون الصلاة، ولا يتّبعون الشّهوات، وقد أشار إلى هذا في مواضع كثيرة من كتابه، كما في سورة المؤمنين في وصف المؤمنين، وكقوله تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}”.
ومن أهم مظاهر الوسطية: الوسطية في الدعاء قال تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}.
قال ابن كثير في تفسيره: “قال الإمام أحمد حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: نـزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن وسبّوا من أنـزله، ومن جاء به، قال: فقال الله -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أخرجه الشيخان في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس”.
وقال القرطبي: روى مسلم عن عائشة في قوله عز وجل: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} قالت: أنـزل هذا في الدعاء.
والشاهد أن هذه الآية تأمر بالتوسط بين أمرين منهي عنهما، وهما الجهر الشديد أو المخافتة والإسرار {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}.
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ}، قال القرطبي: {وَدُونَ الْجَهْرِ} أي دون الرفع في القول، أي: أسمع نفسك، كما قال: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أي بين الجهر والمخافتة. وقال ابن كثير: “{تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} أي اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة، وبالقول لا جهرًا، ولهذا قال: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ}. وهكذا يستحب أن يكون الذكر، لا يكون نداء وجهرًا بليغًا”.
-
الوسطية في الشريعة والأحكام:
ووسطية الأحكام في الإسلام تعبر عن خاصية التوازن الملحوظة في البناء العام للإسلام عقيدة وتصورًا حيث تنطبق هذه الخاصية أيضًا على مستوى التشريع الإسلامي، توازن بين الثوابت والمتغيرات وبين الأحكام القطعية والأحكام الظنية وبين الأصول والفروع. فالإسلام قد عني بوضع الثوابت والأصول، وهي التي يقوم عليها بناؤه التشريعي المذكور وحفظها من أن تمتد إليها يد التلاعب والتحريف والتبديل، لكنه ترك المجال واسعًا للاجتهاد فيما دون ذلك فحفظ بذلك الشريعة من غلوّ المشددين وتسيّب المتحللين، وحفظ أحكامها من الجمود وجعلها صالحة لكل زمان ومكان دون أن يفرط في الأصول والثوابت المتمثلة في المقاصد الكلية للشريعة والفرائض الركنية والأحكام القطعية والقيم الأخلاقية ونحوها وهي أصول لا يجوز التهاون فيها مثل محاولة بعضهم زلزلة هذه الثوابت مستغلين فهمًا خاطئًا للوسطية، مساويًا للمساومة وأنصاف الحلول.
وعلى النقيض من تعظيم الأصول: يقوم منهج الوسطية على التيسير في الفروع، دفعًا للحرج، ورفعًا للأغلال والآصار، وهو منهج نبوي قائم على مبدأ (ما خُيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما)، و (يَسِّرُوا ولا تُعَسِّروا)، وقد قال الفقيه سفيان الثوري: إنّما الفقه الرخصة من ثقة، أمّا التشدّد فيُحسنُه كلُّ أحد) لاسيما في المواطن التي لم يرد فيها نص صريح.
وتتمثل وسطية الأحكام الشرعية في عديد من القواعد الفقهية التي استنبطها العلماء من خلال استقراء الأحكام الشرعية الجزئية ومنها:
- قاعدة «المشقة تجلب التيسير»: ودليلها كما يقول الإمام السيوطي في “الأشباه والنظائر” قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر}، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: (بُعِثْتُ بالحنيفية السَمْحَة)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يَسِّرُوا ولا تُعَسِّروا).
وللتخفيف أسباب سبعة: السفر والمرض والإكراه والنسيان والجهل والعسر وعموم البلوى والنقص.
- قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات»: بشرط عدم نقصانها عنها وهي متفرعة عن قاعدة أخرى وهي قاعدة «الضرر يُزال» كما يقول السيوطي، وأصلها حديث: (لَا ضَرَرَ ولا ضِرَار) والتي من فروعها أيضًا: «الضرورة تقدر بقدرها»، وقاعدة: «الأمور ضرورات وحاجات وتحسينات»، و«ما جاز لعذر بطل بزواله»، و«الضرر لا يزال بمثله». وقاعدة «إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفّهما»، و«درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»، لأن اعتبار الشرع بدفع المنهيات أعظم من اعتنائه بالمأمورات لحديثه صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) و منها أنّ «الحاجة تـنزّل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة» كالإجارة، و الحوالة، وإباحة النظر للمخطوبة، وتضبيب الإناء.
- قاعدة «ارتكاب أخف الضررين»: ومبنى هذه القاعدة على أنّ الإنسان إذا خُيّر بين خير واضح وشر واضح فعليه أن يختار الخير، هذا أمر لا شك فيه، لكنّ الحياة ليست دائمًا اختيارًا بين خير خالص وشرّ خالص، بل إنّ الإنسان كثيرًا ما يجد نفسه مخيّرًا بين خير وخير، أو شر وشر. وهذه القاعدة قاعدة عقلية وقاعدة شرعية وجدها الأصوليون مطبّقة في عشرات من آيات القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة، من ذلك قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}، فتحريمهما إذن لم يكن لخلوّهما من أي نفع، وإنّما كان من أجل أنّ ما فيهما من شر أكبر مما فيهما من خير. ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
قال ابن كثير معلّقًا على هذه الآية في تفسيره: “يقول الله تعالى ناهيًا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سبّ آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة، إلا أنّه يترتب عليه مفسدة أعظم منها وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين”.
ومن ذلك قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، فقد أباح الله تعالى في هذه الآية الكريمة للمؤمن أن يتفوّه بكلمة الكفر إذا هدد بالقتل أو بغيره من أمور يصعب عليه تحملها، فهو هنا يختار أخف الضررين بالنسبة له.
ويمكن أن نلمح هذه القاعدة في صلاة الخوف، وقصر الصلاة في السفر، والفطر للمريض والمسافر، وفرضه التحريم على صيام وصلاة الحائض، لأنّ الله تعالى يريد بالناس اليسر ولا يريد بهم العسر، فإذا كان الإنسان في ظرف يجعل ما فرض الله تعالى عليه في الظروف العادية ذا عاقبة فيها ضرر عليه، تغيّر الحكم.
- قاعدة «الاضطرار يرفع الإثم»: ومنه ما فصّل فيه الفقهاء فيما يتعلق بحكم المكره حيث اعتبر الفقهاء الإكراه سببًا لإباحة الأفعال التي تبيحها الضرورة كشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير، وكالتلفّظ بكلمة الكفر، فلو أُكره على شيء من ذلك لم يعاقب به، ولا يعد الفعل جريمة، وهذا هو معنى إباحة الفعل. ومن هذا القبيل الإكراه على التلفّظ بكلمة الكفر فإنّه سبب لإباحة هذا التلفظ، ولا يحكم بالردة ولا بعقوبتها لعدم قيام الجريمة.
- قاعدة «الضرر يزال»: وهذه القاعدة ترتبط بالقاعدة السابقة بل هي صورة أخرى منها. ومفادها أنّ الضرر في الإسلام ممنوع بكل حال، ولابد من إزالته بالكلّية إن أمكن، فإن لم يمكن وتعيّن ارتكاب أحد الضررين أو الأضرار فيرتكب أهون الضررين لدفع أعظمهما، ويتحمّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، كما أنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح، ومن أدلة هذه القاعدة ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه سلم أنه قال: (لَا ضَرَرَ ولا ضِرَار).
- قاعدة «الأصل في الذمة البراءة»، وقاعدة «الذمة إذا عمرت بيقين فلا تبرأ إلا بيقين»: وتطلق الذمة على محل الالتزام عامّة، وهي بهذا المعنى وصف يصير الشخص به أهلاً للإيجاب له أو عليه، وهذا هو المعنى الذي تقرره القاعدة الأولى، فكلّ مولود يولد وذمته فارغة من حقوق الغير، ومن ثَمّ كان الأصل في كل ذمة أنّها بريئة من كلّ تحمّل إلى أن يثبت ذلك بدليل كالإقرار أو البينة.
وفروع هذه القاعدة كثيرة جداً، منها:
♦ إذا ادعى شخص أن له على آخر دينًا، فإنّ ذلك لا يثبت في حق المدعى عليه إلا بإقراره أو بينة المدعي، لأنّ الأصل في ذمة المدعى عليه البراءة من كل دَين، فيستصحب هذا الأصل إلى أن يرد دليل بخلافه.
♦ إذا اتهم شخص آخر بحدّ من حدود الله، كالزنا أو السرقة أو الشرب… فإنّ ذلك الحد لا يثبت ولا يقام على المتهم إلا بإقراره أو بينة، وفي حالة الاتهام بالزنا إذا لم يقر المتهم ولم تكن هناك بينة فإنّ المدعي يقام عليه حد القذف.
♦ إذا اختلف البائع والمشتري في مقدار الثمن بعد هلاك المبيع أو فواته، فإنّ القول قول المشتري، لأنّ ذمته بريئة من الزيادة التي يدّعيها البائع، إلا أن يقر أو يأتي البائع ببينة.
♦ ومثل ذلك إذا اختلف المؤجّر والمستأجر في مقدار الأجرة، فإنّ القول للمستأجر إلى أن يثبت دليل بموافقة قول المؤجّر، لأنّ الأصل براءة ذمة المستأجر مما يزعمه المؤجّر إلى أن يقوم بذلك دليل.
♦ إذا ادعى المستعير ردّ العارية، وأنكر المعير ذلك، فإنّ القول للمستعير لأنّ الأصل في ذمته البراءة، فلا تُشغل إلا بدليل. ومثل ذلك إذا ادعى المودع ردّ الوديعة وأنكر المودع ذلك.
أما القاعدة الثانية أي قاعدة الذمة إذا عمرت بيقين فلا تبرأ إلا بيقين فمعناها: إنّ ذمة المكلّف إذا شُغلت بحقّ من حقوق الله أو حقوق العباد، وثبت ذلك بما يفيد اليقين، أو ما يقوم مقامه من غلبة الظن فإنّها لا تبرأ من ذلك الحق إلا بدليل، فإذا ادعى المكلّف فراغ ذمّته من ذلك الحق فعليه أن يثبت ذلك. وهكذا فالقاعدة السابقة تتعلق بالذمة حال براءتها وفراغها من الحقوق، وهذه تتعلق بالذمة حال شغلها بحق فالأصل في الحالة الأولى هو فراغها وبراءتها، وعلى مَن يدعي شغلها الدليل المثبت. وفي الثانية: الأصل هو شغلها وعلى المدعي البراءة الدليل.
ومن فروع هذه القاعدة:
♦ إذا أقرض شخص آخر مبلغًا من المال، وأشهد على ذلك، ثم ادعى المستقرض رد القرض، فلا يقبل منه ذلك إلا بالبينة أو بإقرار المُقرض، لأن ذمة المستقرض قد شغلت بدليل فلا تبرأ إلا بمثله.
♦ إذا مرّ الحول على النصاب، وشكّ المالك هل أخرج الزكاة أم لا؟ فإنّ عليه أن يخرجها، لأنّه لما مرّ الحول، والمال بالغ النصاب، فقد شُغلت ذمته بالزكاة يقينًا، فلا يمكن أن تبرأ إلا بيقينه.
♦ إذا دخل وقت الصلاة، وشكّ هل صلى أم لا، فإنّه يجب أن يصلي، لأنّه لما دخل وقت الصلاة فقد عمرت ذمته بيقين، فلا تبرأ إلا بيقين.
-
الوسطية في البناء الاجتماعي:
وبما أنّ المجتمع الإسلامي هو مجتمع عقدي أو مجتمع «إيديولوجي» بتعبير مالك بن نبي، وتتحدد العلاقات داخله على أساس أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها وقواعدها الكلية التي أشرنا إلى بعضها، فإنّ خصائص الوسطية التي أشرنا إليها في مجال العقيدة والتصور وفي مجال الشريعة والأحكام تصدق على نظرة الإسلام للبناء الاجتماعي.
وإذا كانت الوسطية والتوازنية تعنيان صياغة إنسانية للمجتمع وذلك يعني الاعتراف بالجوانب الإنسانية كلها في تآخ وتكامل، كان من أبرز خصائص المنهج القرآني في علاج القضايا الاجتماعية والاقتصادية أنّه لا يقيم البناء الاجتماعي، أو السياسية الاقتصادية على أساس الصراع بين الأفراد أو الطبقات، «إنّه قبل أن يضع القوانين وبعد أن يرسي أساس الربوبية: يقيم دعامات أخرى إنسانية تشيع بين الناس أواصر الرحمة والحب والتسامح والفضل والتعاون ومراقبة الضمير وخشية الله وإلى غير ذلك من المعاني» وتتحدد معالم الصياغة الإنسانية للمجتمع في التصور الإسلامي في عدة جوانب منها:
- إيمان الإسلام بنظافة الفطرة الإنسانية، وبأنها لم تولد آثمة أو خاطئة، وإنّما ولدت كريمة تنزع إلى المثالية، وما يلحقها من عيوب إنّما هو حصاد تأثرها بأوضاع غير كريمة في المجتمع، والإسلام يعتمد في تشريعاته على هذا الرصيد الكريم للفطرة ويحاول تحريك الإنسان بالإرادة الذاتية من داخله قبل أن يقوده بسلاسل القانون من خارجه.
- إشباع الإسلام لكل جوانب الإنسان -بالطرق الحلال- وتصعيد كل غرائزه وليس كبتها أو حرمانها بالرهبانية المبتدعة أو الزهد لكاذب.
- إعطاء الإسلام كلّ ذي حق حقه، في توازن وبلا إفراط أو تفريط، فللرجل حقه كإنسان، وللمرأة حقها، وللابن حقه، وللأب حقه، وللأم حقها، وللضعيف حقّه، وللمريض حقه، وللعاجز حقه، وللفقراء والمساكين واليتامى والمعوقين وأشباههم من المعوزين حقوق.
- إقامة التوازن بين حق الأفراد وحق الجماعة إذ «ليس من حق المجتمع الإسلامي أن يستحلّ ثروات الأفراد أو يستبد بها … فالظلم ظلم، والتسلط الظالم مرفوض في منطق العدالة الاجتماعية».
وبهذا جمعت النظرة الإسلامية بين الفردية والجماعية في وسطية وتوازن، ومنح الإسلام للفرد حقوقه، وفرض عليه في المقابل واجبات مخصوصة للجماعة. كل ذلك في مقابل التصورات والمجتمعات التي تطغى فيها حقوق الفرد، فتنسحق أمامها حقوق أفراد كثيرين آخرين يمثلون معظم المجتمع، وفي مقابل التصورات والمجتمعات التي تنسحق فيها حقوق الفرد، فينتهي الأمر بالتصورين معًا إلى مصير واحد هو سيطرة قلّة باسم الفردية أو الجماعية.
-
الوسطية في المجال السياسي:
والوسطية في المجال السياسي هي نتيجة لاصطحاب مقومات وأسس الوسطية كما تم بيانها في المجال العقدي والتصوري وفي المجال التشريعي. ولهذه الوسطية أسس فكرية ترتبط بتصور العلاقة بين الدين والدولة والعلاقة بين الدين والسياسة، كما أنّ لها جوانب عملية تطبيقية تتجلى في تنزيلها في الوقائع السياسية المختلفة المتغيرة.
أما بالنسبة للشق الأول فالفكر الوسطي السياسي يقع بين تصورين:
التصور اللائكي المتطرّف الذي يرفض أي شكل من أشكال العلاقة بين الدين والدولة، وبين الدين والممارسة السياسية، وهو تصور يرى بأنّ الدين هو مجال المطلق وأنّ السياسية هي مجال المتغير والنسبي، وأنّ الدين هو شأن اعتقادي فردي وأنّ السياسة ترتبط بالشأن العام الذي هو مجال الصراع بين المصالح، وأنّ الدولة في أقل الأحوال ينبغي أن تكون محايدة وأن لا يكون لها دين.
أما التصور الثاني فهو ما يمكن تسميته بالتصور الثيوقراطي للدولة الذي يجعل من الدولة دولة دينية، أي دولة تحكم باسم الحق الإلهي وتتماهى فيه اجتهادات الحاكم مع الدين بحيث تصبح أية معارضة لسياسات الحاكم أو لتدبيره معارضة للدين، أو دولة يتسلط فيها رجال الدين -بالمعنى الشائع- أي الفقهاء المنقطعون عن علوم العصر وعلوم الدنيا وعن علوم الواقع التي تمكن من تدبير الشؤون اليومية للمجتمع.
وعلى العكس من هذين الموقفين المتطرفين في الاتجاهين: فإنّ فكر الوسطية السياسية يرى أنّ الدولة في المجتمع الإسلامي هي دولة مدنية لكن مرجعيتها مرجعية إسلامية، وذلك يعني أنّها تستند في أسس شرعيتها على الانطلاق من قاعدة دستورية ترى أنّ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأسمى للتشريع بالمعنى الواسع للشريعة أي أحكامًا ومقاصد ونصوصًا واجتهادًا، فيها استحضار للمعنى الأصولي للنص، واستحضار لقواعد الاجتهاد وضوابطه.
ومعنى ذلك أنّ الإمامة هي من المصالح المرسلة وتدبير شؤون المسلمين يدخل في نطاق دائرة الاجتهاد أو السياسة الشرعية، لكن ما يميز هذا الاجتهاد أو تلك السياسية هو أنّها تقع في نطاق أحكام الشريعة والتسليم بسموّها على كافة المصادر الأخرى، سموّ أحكامها ومقاصدها، وسمو مرجعيتها. ولا بأس بعد ذلك أن تتنوع السياسات الشرعية وتختلف من مكان لمكان وزمان لزمان، فذلك مقصود للشرع أيضًا، وهو أحد مناطات التكليف البشري من حيث إنّ البشر مأمورون ببذل الوسع واستنفاذ الجهد في تنقيح مناطات الأحكام والقياس عليها وتحقيق مناطاتها في الواقع المتغيّر. ولقد بسط معالم هذه الوسطية في المجال السياسي الدكتور «محمد سليم العوّا» في بحثٍ له ألقي في مؤتمر وسطية الإسلام بين الفكر والممارسة، ونورد أهم أفكاره فيما يلي:
- إن الوسطية تيار يتشكل باستمرار جيلًا بعد جيل وعصرًا بعد عصر حتى تبلغ الجماعة المسلمة في كل عصر أقصى قدر ممكن من الكمال، والوسطية السياسية ما هي إلا فرع من فروع الوسطية الواجبة على هذه الأمة.
- إنّ المعلم الأول من معالم الوسطية في الفكر السياسي الإسلامي هو النظر إلى العلاقة بين الدين والدولة على أنها علاقة اجتهادية توجب على المؤهلين للبحث السياسي -على أساس الفقه الإسلامي- استمرار الاجتهاد في كل عصر وفي كل مكان لدولة إسلامية في المسائل السياسية التي تتعلق بسلطات الدولة الثلاث وبعلاقات الدولة الإسلامية بغيرها من الدول.
- الإسلام دين يتعبد الله به ويتقرب إلى الله باتباع مأموراته وترك منهياته، ويطلب الثواب الإضافي بالحرص على مندوباته ونوافله، وهو شريعة قانونية تحكم تصرفات الناس وأفعالهم من بيع وشراء وزواج وطلاق وميراث ووصية وجرائم وعقوبات وما إليها، ولذلك فالمسلمون لهم من الرصيد التشريعي ما لا يجعلهم عالة على غيرهم. والمقصود بالدولة حين تطلق في هذا المقام هو الشريعة التي أقلها نصوص قطعية الورود والدلالة، وأكثرها ظني فيهما أو في أحدهما، والفقه المبني على النوعين هو الاجتهاد البشري في فهم النصوص القرآنية والنبوية.
إنّ المقصود بناء على ذلك: أنّ الإسلام دين ودولة هو قبول المرجعية الإسلامية العامة التي تسمح بتعدد الآراء وتنوعها في الشأن السياسي، كما تسمح بتعددها وتنوعها في كل شأن إسلامي آخر، وبهذا يتجنب المسلم المعاصر الوقوع في القول بالفصل التام بين الدين والسياسة، وهو فصل غير صحيح نظريًا وغير واقع عمليًا، حيث إن من معانى «الدين» أنّه الشريعة الحاكمة لمعاملات الناس الدنيوية، ويجنب الوقوع في وهم أنّ النظام السياسي المقبول إسلاميا هو نظام بعينه، لا يصح الاختلاف حوله ولا الاجتهاد في تفاصيله.
ولا يعترض على هذا التصور بما يلقنه آلاف الشباب من أنّ للإسلام نظامًا للحكم واحدًا يجب السعي لاستعادته والعمل على تهيئة المناخ لإقامته هو نظام الخلافة. فنظام الخلافة لا يعني في مدلوله الدستوري أكثر من تنظيم الحكم في الدولة الإسلامية تنظيمًا يشمل اختيار رئيسها وتحديد حقوقه وواجباته، على نحو يشير إلى محاولة الصحابة -الذين ابتكروا لفظ الخلافة- السعي إلى محاولة اتباع المثل الأعلى الذي كان قائمًا في بداية نشوء الدولة الإسلامية التي تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رئاستها. ولذلك لم تستقر التسمية نفسها، فلقّب أبو بكر بخليفة رسول الله، ثم لقب عمر بأمير المؤمنين، ثم استعمل الفقهاء لفظ الإمام في بحوثهم المتعلقة بالتولية وفي تسمية العزل والخروج عليه لفظ «البغي» وما إلى ذلك.
ويتضمن المدلول الدستوري للخلافة، كما اتفقت كلمة الصحابة عليها أمرين: أولهما، أن «ترشيح» من يصلح لتولية الخلافة يتم بناء على ما تنتهي إليه شورى المسلمين، وثانيهما أنّ «تولية» هذا المرشح تتم بناء على بيعة المسلمين له بغض النظر عن الطريقة التي تمت بها الشورى في كل حالة من حالات الخلفاء الراشدين، فإذا تولى أمر المسلمين شخص ما، عن طريق الشورى والبيعة أو ما يقوم مقامهما، أصبح رئيسًا للدولة الإسلامية، يجب عليه الالتزام في أداء مهامه بأحكام الشريعة الإسلامية، وأن يبذل جهده كله لتحقيق مصالح الناس، وعلى المسلمين أن يبذلوا النصح له، ويلتزموا بطاعته فيما لا معصية لله ورسوله فيه.
ومرجع الحقوق والواجبات في العلاقة بين الحاكم والمحكوم كلها إلى نصوص القرآن والسنة النبوية، وإلى الاجتهاد في فهمهما والعمل بها، وهو اجتهاد يتعدد بتعدد مذاهب المجتهدين في عشرات المسائل الأصولية، وفي علوم الرواية والدراية، وفي مسائل لغوية مما يتعلق به تفسير النصوص وفهمها وتنزيلها على الواقع الذي يجرى الاجتهاد في ظله. ومؤدى هذا كله هو وجوب الالتزام بالمرجعية الإسلامية في شأننا التعبدي، وفي شأننا الدنيوي أيًا كان مجاله. فإن كان ثمة نص تفصيلي قطعي الثبوت والدلالة وجب تطبيقه كما ورد عن الله ورسوله، وإن كان النص ظنيًا في دلالته أو ثبوته وجب الاجتهاد في الأمرين أو أحدهما.
المقصد الأسمى للدولة في المجتمع الإسلامي هو تحقيق مصالح المحكومين وتمكينهم من القيام بواجب الخلافة في الأرض، فكل طريق تحقق هذا المقصد يجب سلوكها، وكل اجتهاد قديم أو حديث يقعد عن تحقيقه في وقت من الأوقات -ولو كان قد حققه في زمن سابق- يجب العدول عنه ولا يصح التمسك به.
وليس هناك نظام يحول بين الحكام وبين الجور والظلم ويحول دون الاستبداد والاستئثار بالسلطة والثروة، وبين الحاكمين وقمع المخالفين بالقوة الغاشمة بالسلطة، إلا نظام يتقرر فيه وجوب تداول السلطة بالطرق السلمية (يقصد النظام الديموقراطي والانتخاب). وهذا التداول يؤدي إلى أن لا ينفرد شخص أو حزب أو جماعة أو حزب أو طائفة بحكم الناس إلى ما لانهاية، أو إلى أن يقع انقلاب عسكري يأتي بمستبدين جدد، أو إلى أن تغزو ديار المسلمين قوة أجنبية كما وقع في العراق تستبيح المحرمات وتحكم بالحديد والنار، وتتدخل الأمة الإسلامية في مسلسل الاستعمار من جديد. ولا يعترض على آلية الانتخاب بالقول إنّه بدعة أجنبية تقليدها حرام، فإنّه أشد حرمة من ذلك أن يبقى الظلمة الغشمة متسلطين على رقاب العباد بدعوى «أمن الفتنة» وقديمًا قال ابن القيم الجوزية: “إنّ أي طريق أسفر بها وجه الحق والعدل فثم شرع الله ودينه”.
والمسألة السياسية في تفاصيلها المتعلقة بالنظم وشكل الدولة والآليات الضابطة لعلاقة الحاكم بالمحكومين تنصيبًا وخلعًا وتداولًا….إلخ كل ذلك يدخل في إطار السياسة الشرعية ومن ثم فقضاياها قضايا اجتهادية ظنية تقتضي في كل عصر اجتهادًا متجددًا تتحقق به مصالح أهله، غير أن الاجتهاد السياسي يبقى إيقاعه مضبوطًا بالالتزام بالقيم السياسية الإسلامية المنصوص عليها في القرآن والسنة النبوية الكريمة وما بني عليها من قواعد فقهية.
فأما القيم السياسية الإسلامية فنعني بها أحكامًا ملزمة للحكام والمحكومين والفقهاء والمجتهدين على السواء، ذلك أنها كلها محل نصوص صريحة من الكتاب والسنة النبوية، والالتزام بها موضع إجماع من الأمة على امتداد العصور.
أما القواعد الفقهية المستنبطة من هذه القيم فهي قوانين كلية تستخرج من الأحكام التفصيلية كمثل قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات» وقاعدة «وجوب جلب المصلحة ودرء المفسدة» وأنّ «دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة».
والقيمة الأساسية التي تتفرع عنها سائر القيم السياسية الإسلامية هي: مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو المبدأ المقرر في القرآن الكريم … وقد وصف الإمام الغزالي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنّه «القطب الأعظم في الدين، وهو المهمة التي ابتعث الله لها النبيين أجمعين».
والقيمة الأساسية التي تلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأهمية هي: الشورى، وقد ذكرها القرآن في آيتين كريمتين، إحداهما مكية نزلت قبل أن تكون للمسلمين دولة ولا حكومة، لتدل على أصالة هذه القيمة في البنيان الإسلامي، وأنها من خصائص الإسلام التي يجب أن يلتزمها المسلمون سواء أكانوا يشكلون جماعة لم تقم لها دولة أم كانت لهم دولة قائمة بالفعل كما كانت حالهم في المدينة، والصحيح من أقوال الفقهاء هو وجوب الشورى ابتداء ولزومها انتهاء بحيث لا يجوز للحاكم تركها، وأنّها تشمل الشؤون العامة كافة وأن تحديد من يستشارون وكيف تتم استشارتهم والمدة التي يشغلها المشيرون في التنظيم الذي تدار به الشورى كل ذلك من الأمور التفصيلية المتروكة لأولي الرأي من العلماء والفقهاء والمنظرين في الأمة الإسلامية.
والتعددية السياسية أصل من الأصول التي تسلم بها المدرسة الوسطية السياسية في الفكر الإسلامي المعاصر. والتعددية معنى في جوهرها: التسليم بالاختلاف، التسليم به واقعًا لا يسع عاقلا إنكاره، والتسليم به حقًا للمختلفين لا يملك أحد أو سلطة حرمانهم منه، وقد تكون سياسية أو اقتصادية أو دينية أو عرقية أو لغوية أو نحو ذلك.
-
الوسطية في العلاقة مع الآخرين:
ومن أهم مجالات وتجليات الوسطية في العصر الراهن التزام المسلمين والحركات الإسلامية الوسطية والعدل في العلاقة مع غير المسلمين سواء كانوا من المواطنين أم لم يكونوا مواطنين، ومبنى الوسطية في هذا المجال عدم السقوط في الولاء المحرم شرعًا لمن يحاربون المسلمين ويصدونهم عن دينهم ويتخذونهم هزؤا، أو السقوط في الاعتداء على غير المسلمين من المواطنين أو من غيرهم ممن لهم حكم المعاهد مادام قد دخل إلى بلاد المسلمين غير محارب وبناء على «عهد»، وهو ما تترجمه اليوم القوانين والإجراءات المنظمة لدخول بلاد أخرى هي غير البلاد الأصلية للمسلم وللإقامة فيها.
إنّ الأصل في علاقة المسلم مع غيره أنّها مبنية على العدل والقسط، بل أكثر من ذلك نجد الإسلام يأمر المسلمين بما هو أكثر من القسط أي بالبر الذي يعني الخير والفضل.
ولقد جاءت هذه الوسطية وذلك التوازن في العلاقة مع غير المسلمين واضحين في قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ¤ إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}.
وهذا البر والقسط مطلوبان من المسلم في علاقته بالناس والخلق كافة، ما داموا مسالمين غير معتدين يقاتلونه في دينه، ويخرجونه من داره أو يظاهرون على إخراجه، وهو يشمل غير المسلمين أيًّا كان دينهم، أما أهل الكتاب: اليهود والنصارى فلهم أحكام أكثر تفصيلًا لما يليق بهم من البر، كما أوصى القرآن بجدال أهل الكتاب بالتي هي أحسن {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
أمّا عن الآيات التي وردت عن النهي عن موالاه غير المسلمين أو غير المؤمنين تحكمها ضوابط عديدة منها:
- أن النهي ليس عن اتخاذ المخالفين في الدين أولياء بوصفهم شركاء وطن أو جيران دار أو زملاء حياة، إنما هو عن تولهم بوصفهم جماعة معادية للمسلمين تتخذ من تحيزها الديني لواء تستجمع به قوى المناوئة للمسلمين والمحادة لله والرسول.
- أن المودّة المنهي عنها هي مودة المحاربين لله ورسوله، لا مودة مجرد المخالفين ولو كانوا سلمًا للمسلمين.
- أن غير المسلم الذي لا يحارب الإسلام قد تكون مودته واجبة وصلته فريضة دينية، وذلك شأن الزوجة الكتابية وأهلها الذين هم أخوال أبناء المسلم وجدته وجده.
- أنه لاشك في أن الإسلام يعلي الرابطة الدينية على كل رابطة سواها، ولكن ذلك لا يعني أن يلقي المسلم بالعداوة إلى غير المسلم لمجرد المخالفة في الدين أو المغايرة في العقيدة، بل الأصل هو المودة والبر، والاستثناء -عندما تقوم دواعيه وأسبابه- أن يمتنع المسلم عن موالاتهم أو مودتهم، انتصارا لدينه، وانحيازًا لأهل عقيدته.
ومعنى ذلك أن العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمعات الإسلامية هي بالأساس علاقات مواطنة، فالمسلم مثله مثل غير المسلم يربطه بالدولة عقد يرتب له حقوق ويلزمه بعدد من الواجبات.
ولقد تجلى هذا المعنى منذ اللحظة الأولى لتأسيس الدولة الإسلامية في المدينة، إذ كان من أوائل الأعمال التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم كتابة الصحيفة التي تنظم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين من سكان المدينة التي عرفت باسم «صحيفة المدينة«.
وكان مما ذكرته هذه الصحيفة أن «المؤمنين أمة من دون الناس»، وأن «اليهود أمة مع المؤمنين» وأن «أهل الصحيفة بينهم البر دون الإثم»، وأنهم يكونون «يدًا على من دهم يثرب» وأن «اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين»، وأن بينهم «النصر والأسوة» وهو هنا بمعنى المساواة، وأنه «ما كان من حدث بين أهل الصحيفة أو أشتجار يخاف فساده فإن مردّه إلى الله وإلى محمد رسول الله»، وأنه «لا يخرج من أهل المدينة أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم»، و«أن أهل الصحيفة يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين» إلى غير ذلك من الأمور التي ذكرت تفصيلًا في هذه الوثيقة والتي تجعل غير المسلمين المقيمين في دولة المدينة مواطنين فيها لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، وعليهم من الواجبات مثل ما على المسلمين، وهذه الصحيفة هي أول دستور مدون في التاريخ كله لم يسبق إلى مثله أحد، ولم ينسج على منوالها أحد، إلى أن صنع الإنجليز بعد ثورتهم في سنة 1215 م وثيقتهم التي سموها العهد الأعظم.
وعلى أساس نصوص هذه الوثيقة النبوية مضت الحياة في المدينة المنورة إلى أن نقضت يهود العهود، فكانت مقاتلة اليهود وإخراجهم من المدينة على أساس نقضهم لعهدهم وخروجهم على ذلك الدستور لا على أساس مخالفتهم للمسلمين في العقيدة، تمامًا كما كان يمكن أن يقاتل أي مواطن ولو كان مسلمًا آخر إذا بغى وأخل بمثياق المواطنة ومقتضياتها.
سادساً: فكر الغلو والتطرف: شروط وعوامل نشأته واستراتيجية استيعابه:
تجدر الإشارة إلى أنه في دراسة الغلو يصعب الحديث عن سببية صارمة تفسر أسباب الغلو والتطرف، ولكن ما يمكن الحديث عنه هو الحديث عن الشروط التي تهيئ القابلية للسقوط في حبائل الغلو والتطرف.
إنّ شروط نمو التطرف والغلو عديدة: منها ما هو ديني ومنها ما هو سياسيٌّ، ومنها ما هو اجتماعيٌّ، أو اقتصاديٌّ، أو نفسيٌّ، ومنها ما هو فكريٌّ، أو خليط من هذا كلهِ أو بعضه. فقد تكمن عوامل هذه الظاهرة في داخل الشخص المتطرف نفسه، فكثيرٌ من الأحوال النفسيَّةِ تؤدي بصاحبها إلى سرعة الانفعال، أو قلة التفكير، فتؤدي إلى التطرف والغلو. وللبيئة بالغُ التأثير في تكوين شروط وعوامل التطرف، فالاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة لها تأثيرٌ بالغٌ في تنمية أسبابه.
-
عامل الاستعداد والتكوين النفسي والعقلي:
ونقصد بذلك أنّ الميل إلى الغلو يرتبط ببعض الاستعدادات والتكوين النفسي إذ تكون لدى بعض الأشخاص استعدادات كامنة للسقوط في الغلو، غير أنّ المشكلة لا تكمن في هذا الاستعداد، ولكن تكمن بالأساس في طريقة توجيه هذه الاستعدادات وتأطيرها تربويًا وتوجيهيًا حتى تتحول إلى عناصر إيجابية وبنّاءة. كما تكمن في المناخ التربوي والسياسي الذي ينشأ لدى أولئك الأفراد مما يؤدي إلى استيعاب تلك التوجهات أو الميول أو تعزيز توجهات الغلو لديها.
ومن هذه السمات يمكن أن نذكر ما يلي:
- ضعف توازن الشخصية ومتطلباتها ومكوناتها، أي بين متطلباتِ الجسد ومتطلبات الروحِ، وبين متطلبات العقلِ والفكرِ وبين متطلبات القلبِ والنفس، وبين متطلبات العاطفة والشعور وبين متطلبات المادة والحياة، إذ إن طغيان واحد من هذه الجوانب ينتج عنه اختلال في التوازن المطلوب، فالإنسان فيه العقل والفكر، والجسد والأعضاء، والقلب والروح، والنفسُ والعاطفة، والشعور، وكلٌّ منها له وظائف محددة ، ولهذا حثّ الإسلام على التوازن بينها، وقد تقع المغالاة في إعطاء بعض هذه الجوانب أهمية دون غيرها ودون توازن فيقع التطرف.
والظواهر المرضية في الغلو عبر التاريخ يمكن أن نردّها إلى ضعف الرُّوح أو الفكر أو النَّفس في واحدة منهن أو أكثر. فقد تستحكم الشّهوة بالعقل، فتحجب عنه الرؤية الواضحة، فيغالي ويؤول، ويجوِّز ويلفقُ.
فقد خلق الله عزَّ وجل النّفس البشرية وألهمها فجورها وتقواها، وجعل فيها الخير والشّر، وجعل العقل ضابطاً يتحكم في الشَّهوات والغرائز، كما جعل شرع المرسلين منهاجاً ومرشداً وضابطاً للعقل، فإذا قصَّر العقل في فهم الحقيقة والخيِّر أو عميت على الإنسان جوانبَ الحقِّ والخير، فيغالي أو ينحرفُ عن الوسطية، وَيظْهَرُ لديه فسادٌ في السُّلوك والعقيدةِ، وقد تتاحُ لهذه العقيدة الفاسدة والسلوكُ الخاطئ ظروفٌ فتتوارثُها الأجيالُ وتنتشرُ دون أن يتحرى المنتسبون إليها صحّتَها أو يتحرّوا من ضلالها، معتقدين أنَّ ما ورثوه من الآباء والأجداد هو الحق، وهنا تدخلُ المغالاة والتأويل والتحوير والتلفيق.
وتنتج عن ذلك كله مجموعة من السمات التي تنشئ استعدادا للمواقف وأشكال السلوك المتطرف ومن هذه السمات يمكن أن نذكر:
- النزعة الحرفية والظاهرية في فهم النصوص.
- التفكير الانفعالي وردود الأفعال وعدم الصبر والتروّي، مما يجعل الإنسان يتصرف تصرفاً غير مضبوط، أو غير عقلاني، أو بدون حكمة ، مع وجود الإخلاص في النيِّة.
- المغالاة في شدَّة الحبِّ أو الكره، أو شدِّة الإعجاب والإطناب أو شدَّة الكراهيّة والتنقيص، أو شدّة الحفاظ على حدود الله دون مراعاة أحوال الناس.
- التسرع وضعف الصبر والعجلة والرغبة في الوصول بسرعة إلى النتائج دون مراعاة للسنن ومرد ذلك إلى ضعف في التخلق بأخلاق الصَّبر والرفقِ والحلمِ والأناةِ والتيسير والتبشير.
- التعصب للرأي تعصّباً لا يعترف معه للآخرين بوجود، وجمودُ الشخصِ أو الجماعة على فهمهما جموداً لا يسمح لهما برؤيةٍ واضحة لمصالحِ الخلق، ولا بحقٍ من الشرع ولا لظروف العصرِ، ولا يفتح نافذةً للحوار مع الآخرين.
- التزام التشديد دائماً، مع قيام موجبات التيسير وإلزام الآخرين به، مع أنَّ الرسول قال: (يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تُنفِّروا).
- التشديد مع الآخرين في غير مكانه وزمانه، كأن يكون في غير دار الإسلام وبلاده الأصلية، أو مع قومٍ حديثي عهد بإسلام، أو حديثي عهد بتوبة.
- الغلظة في التعامل، أو الخشونة في الأسلوب، والفظاظة في الدعوة.
- سوء الظن بالآخرين وإسقاط حسناتِهم، واستباحة دمائهم وأموالهم، وعدم اعتبار أي حُرْمَةً ولا ذِمةً لهم.
- الميل إلى التَّكفير، واتهام جُمهور المسلمين بالخروج من الإسلام أو عَدَمِ الدّخول فيه أصلاً، وهذا يمثّل قمة الغلو الذي يجعل صاحبه في وادٍ وسائر الأمة في وادٍ آخر، وهذا ما وقع فيه الخوارج في فجر الإسلام، وما تقع فيه بعض الجماعات المُكَفِّرَةِ اليوم.
-
العامل العلمي والمعرفي:
ولقد أبرز الإمام الحسن البصري دور هذا العامل في نشأة الغلو والتطرف في قوله: “اطلبوا العلم طلبًا لا يضرّ بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبًا لا يضرّ بالعلم، فإنّ قومًا طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمّة محمد صلى الله عليه وسلم” وكان يقصد بذلك الخوارج.
وفي غياب العلم الشرعي أو ضعفه ارتكبت بعض المجموعات خطأ تاريخيًا باللجوء إلى العنف في وجه دولها ومجتمعاتها حتى وإن بدا في صورة ردّ الفعل بما يعبرون عنه بدفع الصائل، أي الدفاع الشرعي الخاص، كما قللت من شأن النهج الإصلاحي ومن ينتهجونه، إذ لم تر فيه سوى مهرب فرضه الجبن وخوار الهمم.
ويتجلى دور العامل العلمي في أن غياب الفقه بأنواعه المختلفة سواء ما تعلق بفقه الشرع أو بفقه الواقع هو من أكبر الأسباب التي تفسر الغلو أو التسيب الذي ما هو إلا صورة من صور الغلو.
-
ضعف التأطير العلمي والتربوي للشباب:
ويعتبر ضعف التأطير الديني والدعوي للشباب من أهم الأسباب المسؤولة عن الضعف العلمي والفقهي المذكور في أبعاده المختلفة. فقصور التأطيير الديني والعلمي والتربوي من لدن المؤسسات الدعوية الرسمية والشعبية في أداء واجبهما في تأطير الشباب وتقصير العلماء والمؤسسات الدينية في لعب الدور الإيجابي المنوط بهم، أفقد الشباب الثقة فيهم. فسكوت العلماء أو المؤسسات عن القيام بواجب النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأسباب التي أسهمت في فقدان الثقة من لدن الشباب الساقطين في فخ الغلو والتطرف. كما أنّ تقصير الحركات الدعوية الوسطية في القيام بمهامها ووظائفها على الوجه الأكمل هو أحد الأسباب التي تفسح المجال لانتعاش فكر الغلو والتطرف.
-
العامل السياسي:
ونقصد بالعامل السياسي عدّة مظاهر من الاختلال في الحياة السياسية والعامة ومنها نذكر مثلا:
- سيادة الإقصاء السياسي للإسلاميين، وإغلاق أبواب العمل السياسي السلمي المشروع، بل وتشجيع بعض صور الغلو والتطرف في مواجهة حركات الاعتدال، ومحاربة هذه الأخيرة والتضييق عليها مما ينشر شعورًا بعدم جدوى الاعتدال والمشاركة السياسية، ويمهّد الطريق لخطاب الغلو والتطرف.
- فقد “خلص علماء الاجتماع إلى تأثير سياسة العقاب الجماعي التي تمارسها السلطة أي سلطة على التيار العريض الذي ينتسب إليه بعض النشطين في مجال استخدام العنف لتحقيق الأهداف السياسية أو الدينية، يؤدى إلى تفاقم ظاهرة العنف ويحقق لها زادًا مهمّا في فقه الغربة الذي تشعر به. والثابت تاريخيًا في مصر أنّ ظاهرة التكفير التي اعتقدها بعض المنتسبين إلى جماعة (الإخوان المسلمين) في الستينات ولدت من داخل السجن الحربي والسجون الأخرى تحت سياط التعذيب وهراوات الجلادين. ولذلك فإن (الإقصاء) الذي تمارسه بعض السلطات على النحو الذي جرى في مصر سنوات طويلة للحركات الشعبية وفى صدارتها (الإسلامية) واتخاذها تدابير استثنائية لوضع العقبات والعراقيل في طريق ممارستهم نشاطاتهم الدعوية أو السياسية المشروعة، أهمها: الاعتقال والتعذيب واحتجاز الأقارب والنساء كرهائن، كان له أبلغ الأثر في نمو ظاهرة التطرف والتكفير و العنف والعنف المضاد”.
- شيوع الفساد في إدارات الحكم والخلل في توزيع الثروات واحتكار قلة للثروة والسلطة ومعاناة الأغلبية من الفقر وتأثرهم بالفساد والمحسوبية.
- العجز أو الضعف الرسمي تجاه قضايا الأمة ومتغيرات إقليمية ودولية إسلامية وعربية:
لا شك أنّ مساحة واسعة لتضخم أجواء التطرف والتشدد والعنف يوفرها انتهاج بعض الإدارات الغربية -مثل الولايات المتحدة- سياسات خاطئة تجاه الحقوق العربية والإسلامية، والانحياز السافر للكيان الصهيوني على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، وتغطية جرائم الحكومات الصهيونية المتعاقبة ضد رموزه وقياداته وقواعده، واحتلال العراق وجرائم التعذيب التي تقع كل يوم داخل السجون، وبقاء القوات الأمريكية هناك أو خارجها، فضلًا عما سبق أنّ وقع من تدخل في لبنان والصومال وأفغانستان، كل هذه الأمور وغيرها مما يلهب مشاعر شباب غاضب وقطاعات أخرى من الشعوب العربية خاصة، وهي تلحظ ضعف المواقف الرسمية للنظام العربي فيسعى البعض إلى العنف تحت هذه المؤثرات في ظل غيبة التناغم بين المواقف الرسمية والمطامح الشعبية.
- اعتماد بعض الدول وبعض الأطراف المقاربة الاستئصالية والاقتصار على المقاربة الأمنية في مواجهة مجموعات الغلو بدءًا من اللجوء إلى الاختطاف والتعذيب إلى نصب محاكمات صورية تنعدم فيها أدنى شروط المحاكمة العادلة وما يرتبط بذلك ويسبقه وما يصاحبه ويرافقه من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان الذي تمارسه الحكومات مع بعض الشباب الغاضب أو المعارض، وهو ما يزيد في تأجيج مناخ الغلوّ والتطرف والعنف، فالعنف يولّد عنفًا والكبت يسبب الانفجار وفق طبائع الأمور. “وقد ولّدت مدرسة التكفير والهجرة في رحم السجن الحربي والمعتقلات الأخرى في مصر في الستينيات حينما استنكر ثلة من شباب الإخوان المسلمين الذين تعرضوا للتعذيب البشع على يد السجانين والجلادين أن يَفعَل بهم هذا مسلمون !! وأيضًا في مصر في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات حينما أشعل الأجواء بالتوتر سياسات اتبعها وزير الداخلية الأسبق (زكي بدر) بالاعتقال والعقاب الجماعي وأعرب عن تبنّيه منهجية الضرب في سويداء القلب -كما أسماها- مما ولّد عنفًا مضادًا أعتبره البعض في دوائر الجماعات الإسلامية في مصر آنذاك دفعًا للصائل ودفاعًا شرعيًا عن النفس والمال والعرض”.
-
العامل الاجتماعي:
ونقصد بالعامل الاجتماعي شيوع مظاهر الإقصاء والتهميش الاجتماعي والظلم الاجتماعي ومظاهر البطالة وسوء الأحوال الاجتماعية، وهو ما يتجلى بوضوح في الأحياء والمدن الهامشية التي تنشأ على هامش المدن الكبرى تنعدم فيها أبسط شروط العيش الكريم وفرص التعليم والإدماج للشباب وتضعف فيها مؤسسات التأطير الثقافي والتربوي والعلمي فتكون مرتعا مناسبا لنشوء أفكار الغلو والتطرف.
-
التطرف أو الغلو اللاديني:
ومن الشروط والعوامل التي تؤدي إلى تؤدي إلى استنبات الغلو والتطرف الديني وتعميقه: التطرف اللاديني الذي يتمثّل في عدة مظاهر مستفزة من الانتهاكات الفردية والجماعية، والمجاهرة بالعداء للإسلام وأحكامه ومرجعيته، وإفساح المجال لكل ناعق من أجل هدم الفضيلة والأخلاق في المجتمع من منظمات ماسونية وتنصيرية، ودعوات للشذوذ والجرأة على الأخلاق العامة، واستهداف ما تبقى من الإسلام في البرامج التربوية والتعليمية، وسعي البعض لتجفيف منابع التدين والتحريض على أئمة المساجد وخطبائها، وتحول كثير من المخططات والبرامج الإعلامية إلى وسائل لهدم الفضيلة واستفزاز الشعور الديني، كلّ ذلك في مقابل تهميش التعليم والتوجيه الديني السليم في المدرسة والإعلام.
إنّ الشباب الذي سقط في براثن الغلو والتطرف يلاحظ البون الشاسع بين ما يطمح إليه من خلال مقارنته بين المجتمع المسلم الفاضل الذي يدعو إليه الإسلام، والذي كوّن صورته من خلال ما تعلمه وسمعه وقرأه عن الإسلام وتاريخه، وبين واقع المجتمعات التي يعيش بها وتعلن أنّها مجتمعات إسلامية وتنصّ دساتيرها على أنّ الإسلام هو المصدر الرئيسي لقوانينها، في حين أنّ الرذيلة تسود وتقنن باسم الفنون، وتحوّل المنكر معروفًا والمعروف منكرًا والحق باطلًا والباطل حقًا والرشد غيًّا و الغي رشدًا، وتقصى كثيرًا من أحكام الشريعة، حتى إذا ما طالب هؤلاء بعودة الأمور إلى نصابها اتهموا بالرجعية والتطرف، وربما تعرضوا للمضايقة أو الاضطهاد.
سابعاً: من أجل استراتيجية لاستيعاب فكر الغلو والتطرف:
من خلال ما تم ذكره من شروط وأسباب تنتج الغلو والتطرف يتبين أن ظاهرة الغلو والتطرف ظاهرة مركبة معقدة تتداخل في إنتاجها عدة عوامل وشروط، ومن ثَمّ فإنّ أي معالجة جزئية أو تعسفية لها مصيرها الفشل المحتوم. إنّ استراتيجية استيعاب فكر الغلو والتطرّف تحتاج إلى مقاربة شمولية يتداخل فيها البعد العلمي والتربوي مع الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحقوقية، وتتضافر فيها الجهود الرسمية بالجهود الشعبية والمدنية، ولذلك فإن مواجهة الغلو والتطرف من لدن الحركات الإسلامية المعتدلة وجب أن تقوم على المحاور التالية:
أولًا: جهد تربوي وتكويني وتعليمي يقوم على ترسيخ ثقافة ومنهج الوسطية والاعتدال من خلال ترسيخ أنواع الفقه التالية:
- فقه الأولويات: فالاختلال على هذا المستوى يؤدي في نظر أهل الغلو لأمور الدنيا أو أمور الدين إلى تقديم ما حقه التأخير وتأخير ما حقه التقديم، بينما يعلمنا صاحب الرسالة عليه أزكى الصلوات أن الأعمال درجات، وأن القضايا مستويات. وتقديم ما حقّه التأخير أو تأخير ما حقّه التقديم إخلال يعالجه هذا الفقه.
- فقه الموازنات: وقوام هذا الفقه الموازنة بين أقدار المصالح والمفاسد، فإذا حدث تعارض بين المصالح والمفاسد وجبت الموازنة بحيث يكون درء المفسدة مقدمًّا على جلب المصلحة وبحيث تكون الموازنة بين خير الخيرين من أجل تحصيل أعظمهما وتفويت أدناهما وبين شر الشرين من أجل تحصيل أدناهما وتفويت أعظمهما.
- فقه المقاصد: وقوام هذا الفقه النظر في علل الحكم وتجنب النظرة الظاهرية في نهج النصوص، فالقرآن جاء بالأحكام معللة سواء تعلق الأمر بالعبادات أو بالمعاملات، ومن ثم وجب البحث دومًا عن مقصود الشرع من الحكم الذي ساقه. وقد حددّها الأصوليون في خمسة أو ستة أصول وهي: حفظ النفس والعقل والدين والعرض والنسل والمال ومنهم من زاد على ذلك ومن نقص.
- فقه النصوص: وهو فقه يقوم على التمييز بين الظني والقطعي، وبين المحكم والمتشابه، وبين ما يحتمل تفسيرات عدة، وما لا يحتمل إلا تفسيرًا واحدًا، والتمييز في السنة بين ما هو للتشريع وما ليس للتشريع، وما هو للتشريع الدائم والتشريع المؤقت.
- فقه المآلات: إذ لا يكفي معرفة الحكم الشرعي واستخراجه (تنقيح المناط)، بل لا بد من استحضار مآلات هذا الحكم في الواقع، وهل يحقّق مقصود الشارع من تنزيله أم يترتب عليه عكس مقصوده (تحقيق المناط).
يقول الإمام الشاطبي في (موافقاته) في بيان هذه القاعدة: “النظر في مآلات الأفعال معتبر ومقصود شرعًا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة. وذلك أنّ المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، [فقد يكون] مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تُدْرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية. وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنّه عذب المذاق، جارٍ على مقاصد الشريعة”.
واستدل الشاطبي رحمه الله لهذه القاعدة الكبيرة بأدلة كثيرة، ثم قال: “وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة”.
أما في المسألة على الخصوص فكثير، فقد قال في الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه: (أخاف أن يتحدّث الناس أنّ محمدًا يقتل أصحابه)، وقوله: (لولا قومك حديثٌ عهدهُم بكفر لبنيت البيت على قواعد إبراهيم)، بمقتضى هذا أفتى مالك الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم، فقال: لا تفعل، لئلّا يتلاعب الناس ببيت الله .. وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بتركه حتى يُتِمَّ بوله وقال: (لا تُزْرِمُوه). وحديث النهي عن التشديد على النفس في العبادة خوفًا من الانقطاع. وجميع ما مرّ في تحقيق المناط الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعًا لكن يُنهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعًا لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة، وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها، فإن غالبها تَذَرَّع بفعل جائز إلى عمل غير جائز، فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع. والأدلة الدالة على التوسعة في رفع الحرج كلها، فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع، ولا معنى للإطناب بذكرها لكثرتها واشتهارها.
أنواع من فقه الواقع عاصمة من السقوط في الغلو أو التسيب:
وفقه الواقع هو الفقه الذي يمكن من تنزيل الأحكام الشرعية ومقاصدها مراعاة لأولويات واستحضارًا للمقاصد وللمآلات، ومراعاة أيضًا للموازنة بين المصالح والمفاسد. ويشمل هذا الفقه على المستوى السياسي اليوم عدة أنواع من الفقه منها:
- فقه السنن: ومن هذه السنن: سنّة التدرج، وهي سنّة تخضع لها الظواهر الكونية والطبيعية والظواهر الاجتماعية أيضًا. ولقد أخذ الشارع الناس بالتدرج في فرض الفرائض، وفي تحريم المحرمات، ولم يأخذهم بها دفعة واحدة، مراعاة لهذه السنة أو هذه القاعدة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما ذكره الإمام الشاطبي عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنّه حين تولى الخلافة، أخذ يرد الحقوق بأناة وحكمة، وهذا ما لم يعجب ابنه الشاب التقي المتحمس عبد الملك بن عمر، الذي قال له يوماً: يا أبت، ما لي أراك تتباطأ في إنفاذ الأمور؟! فوالله ما أبالي لو غلت بي وبك القدور في سبيل الله! فقال له أبوه الخليفة الفقيه البصير: يا بني لا تعجل، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، ثم حرمها في الثالثة. وإني أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدعوه جملة، ويكون من وراء ذلك فتنة!
والأخذ بهذا المبدأ في مجال التغيير السياسي هو أولى، حيث تتميز الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية بطابعها المعقد، كما تثبت التجارب التاريخية أن السعي للقفز على هذه السنة من العوامل التي تخلق القابلية للسقوط في الغلو والتطرف ومن ثم يكون مصير أصحابه الفشل والاصطدام بالواقع العنيد، بحيث لا يخدم قضية الإصلاح بقدر ما يؤخرها حقبًا طويلة. ومن المعلوم أنّ التدرج سنّة كونية، وسنّة شرعية. وأحوج الناس إلى استخدامها أهل السياسة الشرعية.
ومن تلك السنن سنّة الأجل المسمى: ومعنى ذلك أن للأمم والدول أعمار تاريخية، وأنّه تتحكم فيها قوانين اجتماعية مثلما تتحكم في الوجود البشري الفردي قوانين بيولوجية وفسيولوجية: قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]، {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49]. يقول السيد باقر الصدر في «مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن»: “نلاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين أن الأجل أضيف إلى الأمة، إلى الوجود المجموعي للناس، لا إلى هذا الفرد بالذات أو هذا الفرد بالذات، إذن هناك وراء الأجل المحدود المحتوم لكل إنسان بوصفه الفردي، هناك أجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد، للأمة بوصفها مجتمعًا ينشئ ما بين إفراده العلاقات والصلات القائمة على مجموعة من الأفكار والمبادئ المسندة بمجموعة من القوى والقابليات. هذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالأمة، هذا له أجل، له موت، له حياة، له حركة، كما أن الفرد يتحرك فيكون حيًا ثم يموت، كذلك الأمة تكون حية ثم تموت، وكما أن موت الفرد يخضع لأجل ولقانون ولناموس كذلك الأمم لها آجالها المضبوطة، وهناك نواميس تحدّد لكل أمة هذا الأجل، إذن هاتان الآيتان الكريمتان فيهما عطاء واضح للفكرة الكلية، فكرة أن التاريخ له سنن تتحكم به وراء السنن الشخصية التي تتحكم في الأفراد، بهوياتهم الشخصية {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ¤ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}، {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}، ظاهر الآية الكريمة أنّ الأجل الذي يترقب أن يكون قريبًا أو يهدد هؤلاء بأن يكون قريبًا هو الأجل الجماعي لا الأجل الفردي، لأنّ قومًا بمجموعهم لا يموتون عادة في وقت واحد وإنما الجماعة بوجودها المعنوي الكلي هو الذي يمكن أن يكون قد اقترب أجله. فالأجل الجماعي هنا يعبر عن حالة قائمة بالجماعة لا عن حالة قائمة بهذا الفرد أو بذاك، لأنّ الناس عادة تختلف آجالهم حينما ننظر إليها بالمنظار الفردي، لكن حينما ننظر إليهم بالمنظار الاجتماعي بوصفهم مجموعة واحدة متفاعلة في ظلمها وعدلها، في سرائها وضرائها، حينئذ يكون لها أجل واحد. فهذا الأجل الجماعي المشار إليه إنما هو أجل الأمة وبهذا تلتقي هذه الآية الكريمة مع الآيات السابقة … {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا}، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}.
ومن دون شك فإنّ إغفال هذه السنة يؤدي إلى التسرع والتنطّع ومحاولة إخراج شيء قبل أوانه أو اكتمال نضجه وبيانه، فيفسد صاحبه من حيث أراد أن يصلح، وتلك سمة مميزة للغلو والتطرف.
- فقه الوسع والممكن، وما يرتبط به من إدراك لدائرة الممكن الذي يدخل في نطاق التأثير، ودائرة الطموح الذي يدخل في دائرة الاهتمام، والعمل في إطار الأول والتخطيط الاستراتيجي للثاني مع الإبقاء على وضوح الرؤية والمنهج وشمولية الأهداف، ومعناه أيضًا الاشتغال بدائرة التأثير والعمل على تحصين مكتسبات الأمة والحفاظ عليها، وتوسيع دائرتها بدل الاشتغال بدائرة الاهتمام التي قد لا تعدو أن تكون أحلامًا ومتمنيات قد تكون مشروعة، ولكنّها لا تدخل في نطاق الممكنات التاريخية. والنتيجة تكون في هذه الحالة تضييعًا للفرص المتاحة وعدم ملء الفراغات والمساحات المقدور عليها وتركها للخصوم السياسيين والمناوئين المتربصين وضعف الفقه من الأسباب التي تهيئ عند الفرد والجماعة القابلية للاستدراج إلى الغلو والتطرف.
- الفقه بالتاريخ السياسي الإسلامي: لأخذ العبر بأسباب السقوط والنهوض وأسباب الفتن السياسية ودروسها وعبرها. وضعف هذا الفقه يؤدي إلى التسرع والاستدراج إلى الغلو والتطرف.
- الفقه بالتاريخ السياسي الإسلامي المعاصر: ونقصد بالأساس: دراسة التجارب السياسية الإسلامية المعاصرة والاعتبار بأسباب الإخفاق والنهوض، والوقوف عند عوامل وأسباب الانتكاس وعوامل النجاح في التجارب الحركية والسياسية والحزبية المعاصرة، وضعف الوعي التاريخي وضعف الاعتبار بدروس التاريخ من العوامل التي تهيئ القابلية للاستدراج إلى المواقف المغالية.
و[أيضًا] دراسة الخصوصيات التاريخية والسياسية لكل بلد على حدة ولطبيعة نظامه السياسي من حيث قابليته للانفتاح السياسي أو من حيث انغلاقه وطبيعته الشمولية، لما لذلك كله من أثر في إنجاح تجربة الوسطية في المجال الحزبي أو في مواجهتها والوقوف ضدها، ودراسة مراكز القوى المناهضة للوجود السياسي للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية ومعرفتها وتحديد آليات اشتغالها وتحريضها. وضعف هذه الدراسة من العوامل المساعدة على السقوط في الغلو كما قد يكون أحد نتائجها. ويدخل في هذا أيضا دراسة الواقع الجيوسياسي الإقليمي والعالمي لتحديد التحديات التي يطرحها أو الإمكانيات التي يفسحها. وضعف هذه الدراسة من العوامل المساعدة على السقوط في الغلو كما قد يكون أحد نتائجها.
وهذه الأنواع من الفقه تجد أصولها في بضعة قواعد فقهية أصل لها الفقهاء وأرجعوا إليها مسائل الفقه وهذه القواعد هي:
- الأمور بمقاصدها: إنما الأعمال بالنيات.
- اليقين لا يزول بالشَّكِ: فلا يجوز الحكم على إنسان بالظن والشبهة.
- المشقة تجلب التيسير: فلقد رفع الله الحرج عن هذه الأمة ووضع عنها الإصْرَ والأغلال التي كانت على من قبلهم، فطالب الإنسان حسب استطاعته ومقدرته، وفتح أبواب التيسير، وشرع الأخذ بالرخص، حتى تُدفَع المشقةُ ويزولَ الحرجُ، وقد عدّ الفقهاء أسباب المشقة التي توجب التيسير سبعة وهي: الفقر والمرض والإكراه والنسيان والجهل وعموم البلوى والنقص.
- العادة محكّمة، فتصبح العادة بتكرارها مرة بعد مرة أخرى عُرفاً مستقراً في النُّفوس، ومرجعاً يرجع النَّاس إليه في التعامل، وتُدار الأحكام عليه وترجع إليه، بشرط ألا تصادم نصَّاً شرعيَّاً. ولهذا قالوا: «العبرة للغالب الشائع» و «لا ينكر تغيُّرُ الأحكام بتغيرِ الأزمان»، وهذه القاعدة تنطبق على الأحكام الاجتهادية المبنية على قياس أو مصلحة وغيرها من القواعد.
- والقاعدة الخامسة: (الضرر يُزال): بمعنى يجب رفع الضرر الذي وقع وترميم آثاره و(الضرر لا يزال بمثله) و(الضرر الأشدُّ يُزال بالضرر الأخف) و(يختار أهون الضررين أو الشرّين).
ثانيًا: ترسيخ نهج دعوي وحركي تشاركي غير إقصائي:
ونقصد بذلك أن تنطلق الحركة الإسلامية بعد اضطلاعها بمسؤولياتها الدعوية والتربوية والتكوينية الذي تشتغل فيه من مبدأ الدعوة والعمل على المحافظة على المكتسبات واعتبار جهدها -على أهميته ودوره الريادي في المجتمع- مجرّد لبنة من لبنات الإصلاح وإشاعة نهج الاعتدال والوسطية في المجتمع كله، وفي توجهات الدولة والأمّة بمختلف أطرافها ومكوناتها، ولذلك فإنّ استراتيجية مواجهة الغلو والتطرف وجب أن تقترن بالدعوة إلى إصلاح شامل يمس المستويات التالية:
- الدعوة إلى تعزير دور العلماء ومكانتهم في المجتمع ودعوة هؤلاء إلى القيام بواجبهم الدعوي والتربوي بإقدام ودون إحجام مع تعزيز وعيهم بالتحديات المحيطة وبمختلف أنواع الكيد التي تتربص بهم الدوائر وتسعى إلى الإيقاع بهم لدى الدولة من أجل منعهم من الاضطلاع بدورهم الدعوي والتربوي والتكويني.
- تشجيع كل الخطوات والمقاربات التي تهدف إلى توسيع نطاق الحقل الديني انطلاقا من مبدأ وحدة مكونات الحقل الديني الشعبية والرسمية والانطلاق من تصور تكاملي لعمل هذه المكونات لا من مقاربة تنافسية أو قائمة على الصراع على اعتبار أن مجابهة الغلو والتطرف يحتاج إلى مقاربة شمولية.
- الدعوة إلى ترشيد الإعلام حتى لا يستفز مشاعر المواطنين ويشعرهم أنّ الهدف هو مسخ الهوية والأخلاق الإسلامية وتشجيع كل المبادرات الرامية إلى الارتقاء بالدور التربوي والتأطيري للإعلام وإلى تهذيب البرامج الإعلامية والأفلام ومواجهة بعض التوجهات الهدامة داخله.
- إصلاح سياسي يسهم في تعزيز المشاركة السياسية الشعبية ويفسح المجال لكافة القوى في نطاق الشرعية الدستورية والقانونية، وفي مقدمة ذلك كله إقرار حق الحركات الإسلامية في التنظيم والعمل السياسي، والعمل على دمج الحركات الإسلامية المعتدلة في الحقل السياسي، ومعاملة أعضائها كمواطنين داخل المجتمع لهم من الحقوق وعليهم من الواجبات، وإفساح المجال للدعوة السلمية، فالاعتراف السياسي بالحركات الإسلامية التي تقبل العمل في نطاق الضوابط القانونية والاحتكام إلى القواعد الديموقراطية سيسهم إلى حدّ كبير في تخفيف الاحتقان القائم اليوم، أو على الأقل سيساهم في محاصرة فكر الغلو والتطرف ويسهم في إفقاده أحد مبررات وجوده إذ أن من المبررات التي تدفع إلى الغلو سيادة الإقصاء والاستبداد وانسداد آفاق تجارب العمل السلمية والداعية إلى المشاركة الديموقراطية.
- الدعوة والعمل من أجل تدشين إصلاح اقتصادي واجتماعي يقلص من عوامل الفقر والتهميش ويؤدي إلى التقليل من التفاوت الطبقي الفاحش الذي يورث الحقد والكراهية الطبقية ويولد لدى البعض الرغبة في الانتقام.
- العمل على محاورة مجموعات الغلو ودعوة السلطات إلى ذلك اعتبارا بتجارب دول عربية في هذا المجال (التجربة المصرية مثلًا)، ذلك أنّ المنطق والحرص على مصلحة الوطن يملي علينا أن يكون أول ما ننادي به هو محاولة فتح الحوار، فالغلو في الدين هو قبل كل شيء قضية علمية فكرية والمقاربات الاستئصالية والأمنية قد تنجح في تقليم جذوع شجرة الغلو أو القضاء عليها إلى حين ولكنها لن تستطيع القضاء على شروطه إنتاج الغلو ومسبباته.
الخاتمة:
وبعد:
الوسطية كما يتضح ليست مذهبًا أو اتجاهًا جديدًا في الإسلام، وإنما خصيصة من خصائص الإسلام إذا أحسن فهمه.
والمسألة الثانية: أنّها ليست صفة ينبغي أن تحتكرها جماعة أو حركة أو حزب إسلامي، بل ينبغي أن تكون صفة الأمة الإسلامية جمعاء حينما تكون في مستوى ما طلب منها، وقائمة بحق على ما أخرجت من أجله إلى الناس، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، وإقامة الشهادة بذلك كله على الناس من خلال إقامته في نفوس أفرادها وحياتهم الفردية والجماعية وفي مؤسساتها وأنظمتها.
ولقد تَبَيَّنَ أنّ الوسطية تعني التوازن وعدم الإفراط أو التفريط، كما تعني العدل والسير في صراط الله المستقيم، ومن ثم لا يبغي أن نفهم من الوسطية التسيب والتساهل وإتباع الأهواء، فمقياسها هو الشرع نفسه وأحكامه.
كما تَبَيَّنَ أنّها خصيصة ملازمة للإسلام في جميع مظاهره وتجلياته، في عقيدته وعبادته، في شريعته وأحكامه، في نظامه الاجتماعي ونظامه السياسي ونظامه الحضاري. وهي قبل هذا وذاك جهاد متواصل من أجل لزوم طريق الاستقامة والعدل، والإمساك في كل أمر كبير أو صغير بالتوازن، ولذلك أُمِرْنا أن نستعين عليها بالدعاء الدائم المتكرر وذلك حين جعلت الفاتحة في كل ركعة من صلواتنا، وكان من آياتها: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} آمين.
(المصدر: مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات / موقع “على بصيرة”)