قراءة خباب بن مروان الحمد
مراجعة وتقويم د. الحسان شهيد، وهو كاتب وباحث مغربي باحث في الدراسات الإسلامية والمعرفية.
حاصل على الدكتوراة من كلية الآداب ، جامعة مولاي إسماعيل بمكناس، المغرب.
له كتابات مختلفة ومنها:
– نظرية النقد الأصولي
– منهج النظر المعرفي بين أصولي الفقه والتاريخ.
– منهج الاستدلال الشرعي في مدونة الإمام مالك.
والكتاب من إصدار: مركز نماء للبحوث والدراسات ، بيروت، طبعة (1) ، 2013م، ويقع الكتاب في (245) صفحة.
بدأ المؤلف بحثه بمقدمة استهلّها ببيان حاجة العقل المسلم لمراجعة النظر في عدد من العلوم بقصد تجديدها وتطوير مناهجها؛ كي تستجيب لحاجاتها الإنسانية والوجودية.
وذكر أنَّ من المباحث العلمية التي تحتاج لإرجاع نظرٍ؛ ما يتعلق بالمقاصد فقهاً وأصولاً لوثاقة لصلتهما بالاجتهاد والتجديد.
ولفت الانتباه إلى أنَّه لابد من تحقيق النظر في الهوة الشاسعة التي تفصل البعد المقاصدي للشريعة عن المدرك الوجودي للأمة، وأين يكمن الإشكال.. هل في مطلب المقاصد ابتداء؟ وكيف تتشخّص مظان الخلل تحقيقاً، وما علل الفصام تنزيلاً؟ وما سبل الحل تحريراً؟
وقد توخى صاحبه إرجاع النظر في الخطاب المقاصدي بكل تفاصيله البحثية والدراسية، والتحقيقية المنتجة في الزمن المعاصر، أي: خلال الموجة المقاصدية الأخيرة التي عرفها الفكر الأصولي خصوصاً، والفكر الإسلامي عموما، من خلال إشكالاته المنهجية المتعلقة بالعلل المؤثرة في منتجاته العلمية وآلياته وغاياته وموضوعاته، حيث جعلها محور بابه الأول المسمى الخطاب المقاصدي المعاصر، مراجعة نقدية.
وقد قام بقراءة في أهم المشاريع المقترحة للتجديد في الخطاب المقاصدي، والقضايا المعروضة في ارتباطها مع تطوير النظر المقاصدي، وبسط الكلام فيه في الباب الثاني الذي نعته بالخطاب المقاصدي المعاصر، مشاريع ورؤى تجديدية.
وأخيراً عبر بسط تصور تجديدي لمدخل مفترض في تحرير مسألة تجديد الخطاب المقاصدي المعاصر، من حيث المقدمات والإمكانات المتناسبين مع فلسفة هذا الخطاب، حيث كان مدار الباب الثالث الموسوم بالتجديد التشغيلي للمقاصد: المقدمات والإمكانات.
وقد ابتدأ كتابه بفصلٍ تمهيدي تحدث فيه عن الخطاب المقاصدي المعاصر: دراسة مفهومية.
وقد أوضح مفاهيم العلماء في تعريف الخطاب وخَلَصّ إلى كونه : ما يدل على الكلام الفصيح واللفظ المبين.
ثم قال المؤلف: وبناء على ما سبق من بيانات لغوية واصطلاحية لمفردة الخطاب يُمكن القول: أن المقصود بمصطلح الخطاب في هذا الكتاب هو: تلك المعاني التركيبية والدلالات الإجمالية المفهومة من الكلام بشتى صوره الصادرة منطوقة كانت أو مكتوبة أو نحو ذلك.
ثم تحدث المؤلف عن معنى القصد في اللغة وأوضح أنّه يُراد به استقامة الطريق، أو الاعتدال والوسطية، وأنّ الأم والقصد: الهدف والغاية المراد الوصول إليها.
واصطلاحا ذكر تعريف الشاطبي فقال: (ما قصده الشارع في العمل من حصول مصلحة أو درء مفسدة؛ فإنّ العامل به إنما قصده تلبية أمر الشارع إما بعد فهم ما قصد، وإمّا لمجرد امتثال الأمر، وعلى كل تقدير، فهو قاصد ما قصده الشارع)
وبعدما أورد المؤلف عدّة تعريفات؛ فقد حاول أن يربط التعريفات بمفهومي الخطاب والمقاصد ؛ ليكون الخطاب المقاصدي عنده : ( تلك المعاني التركيبية والدلالات الإجمالية المفهومة من الإنتاج العلمي المتعلق بمقاصد الشريعة ومطالبه المختصة تدويناً وتحريراً أو تحقيقاً أو تنسيقاً أو تأريخاً).
ثم عقد الباب الأول بعنوان:
الخطاب المقاصدي، مراجعة نقدية
وتحته ثلاثة فصول:
الفصل الأول: إشكالات الخطاب المقاصدي : دراسة في المنهج والمعرفة.
تحدث فيه عن الهدف والغاية من دراسة موضوع المقاصد والخطاب العلمي لفقه المقاصد الشرعية.
وذكر أنّه سيقوم بعملية نقد ذاتي مع كونه لا يدّعي سلامة بعض إنتاجاته من تلك الملاحظات؛ وأنّه يريد لفت الأنظار وتحريك الأفهام لخدمة الخطاب المقاصدي.
وأنّ أهم إشكالات الخطاب المقاصدي المعاصر أربعة.
أولا: التاريخية:
أوضح فيه إلى أنّه يوجد استحواذ الطابع التاريخي في فقه المقاصد ، وأنّه ما دام أنّ هذا العلم قد ظهر وتعيّن وثبت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجيل الصحابة ولدى عدد هائل من العلماء فلا يتطلب منّا تلك الدراسات الكثيرة حجماً وعدداً وكيفاً.
وذكر مقالاً على ذلك ما كتبه الشيخ الريسوني عن نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي؛ وصار كلُّ باحث مُعاصر يتحدث ويكتب عن نظرية المقاصد عند أحد الأئمة، واستنباطات تخريجاتهم المقاصدية.
ويذكر أنّه إذا تصفحت قوائم البحوث المُنجزة من سنة إلى سنة تلفاها غارقة في الدراسات الشخصية والذاتية لأعلام الفكر الأصولي أو الفقهي أو اللغوي أو التفسيري أو الكلامي، مبينة عن حضور البعد المقاصدي لديها، كما أنّ تلك البحوث تستنزف قسماً منها في التعريف بالشخصية العلمية، وتاريخها ومحيطها الاجتماعي والعلمي والسياسي ..
ثم تطرق إلى أنّ المبالغة في الدراسات المقاصدية ولجت إلى باب دراسة الاتجاهات حيث كثرت الكتابات التي تتحدث عن الفكر المقاصدي عند المعتزلة أو عند المتكلمين .
ولأن القصد الأصلي والنهائي من دراسة الفكر الأصولي وما تلاه من خطاب مقاصدي هو تفعيل استنباط الأحكام الشرعية في الواقع المعيش؛ ومحاولة تشغيل ذلك التفعيل وفق المقاصد الشرعية ؛ فالبحث في كل تلك القضايا من جانب الاتجاهات لا تفيد في هذا الجانب الأهم والضروري إلاّ إذا ارتبطت ذلك ببعض القضايا المعرفية الخاصة برصد بعض الفروق النظرية والجزئية من جهة، والتي لا تقدح في النظر الكلي العام المتعلق بقطعية النظر المقاصدي عند أهل الاجتهاد عبر التاريخ.
ثانيا: التجريدية:
أنّ الدرس المقاصدي المعاصر انشغل بالدراسات التجريدية النظرية، دون استثمار ذلك الرصيد العلمي والمنهجي في الانفتاح على القضايا الطارئة والمستجدات الوافدة ، والبحث لها عن حلول مناسبة وفق ما تمّ تبيُّنه في تلك الدراسات السابقة، وما توصّل إليه الخطاب المقاصدي من نتائج.
يوجد بحث مبالغ فيه في دراسة المفاهيم والمصطلحات ومع أهميتها وقيمتها المعرفية العلمية؛ إلاّ أنّها صارت من أكبر هموم الباحثين في الفكر المقاصدي وبالغ بعضهم فيها حتى صارت رسائل ضخمة وأطروحات دكتوراة تُفرد بالبحث في الجوانب المقاصدية للزواج أو للعلم؛ بل قد تتكرر الأبحاث في هذه الجوانب وحول المصطلح نفسه .
وقد استأثرت قضايا مقاصدية عديدة باهتمام وعناية خاصة تطور بها البحث إلى شكل نظريات كبرى عرضت من باب التفسير المقاصدي كنظرية المقاصد ونظرية الضرورة ونظرية التيسير ؛ فهذه تحتاج للبحث عن ضروريات بحثية جديدة في التمثلات العملية والتطبيقية والتوسل إلى المدخل الإجرائية في إنجازها بدل إنتاجها.
إنّ زمن النظريات بمعناها النظري التجريدي ينبغي أن نحسم معه، ونفتح منعطفاً جيداً في الدراسات المقاصدية نلج به عوالم التنزيل والتطبيق والتشغيل.
ثالثا: الفصامية.
والمراد بها دراسة المقاصد الشرعية مفصومة عن مجالها الأصلي أي الفقه أو عن مجالها التقعيدي؛ أي : الأصول أو مُجزّأة المطالب، أو بحثها دون ربطها بغاياتها وتتجلى تلك الفصامية في العناصر الآتية:
1. دراسة المقاصد مستقلة عن علم أصول الفقه وعن علم الفقه.
2. دراسة كليات مستقلة عن باقي الكليات الضرورية؛ فلا يتم الربط بين صلات الجوانب النظرية التجريدية لتلك الأهمية والقيمة بالجوانب التنزيلية، وتفعيل ذلك في مواقع الوجود البشري.
رابعاً: الفلسفية.
حيث دخل الخطاب المقاصدي خلال مراحل معينة من تاريخه في خضم الدراسات الفكرية الغارقة في التجريد والنظر، وكأنّ مقاصد الشريعة لا صلة لها بمواقع الوجود التكليفي للإنسان .
ويعود هذا الانحياز في الخطاب المقاصدي إلى جملة أمور معرفية:
الأول: تأثره بالخطاب الفلسفي المعاصر خاصة في مجال حقوق الإنسان والحرية والديموقراطية ونحو ذلك من المفاهيم والقيم والأبعاد المختلفة في النسق الاجتماعي للإنسان الغربي المعاصر؛ وكان لها أبلغ الأثر على الفكر المقاصدي محاولا الاقتراب من تلك الانشغالات الفلسفية ، والبحث لها عن محاضن فكرية وتأصيلات فقهية في التراث العلمي، مما أثر على القضايا الاجتماعية بين العلماء في المسائل المعتبرة في عداد الكليات الشرعية والضرورية.
الثاني: انشغل الفكر المقاصدي خلال المراحل المتأخرة بأبحاث استدلالية على تأصيل القيم الفلسفية والإنسانية المذكورة، كالحرية وحقوق الإنسان والسلام والأمن والديموقراطية والمساواة ….والبحث عن الجذور المعرفية لثباتية تلك القِيَم في التراث الإسلامي ، واعتكف العقل المقاصدي على التقصيد الشرعي لتلك القِيم باعتبارها كليات ضرورية كباقي الكليات المصنفة من قِبَلِ الأصوليين؛ فأدخل بعضهم قيمة الحرية ضمن الكليات ، واعتبر الآخر قيمة العدل ضمن الضروريات المقاصدية، وأضاف بعضهم الوحدة، وآخرون حقوق الإنسان.
وانتهى هذا الأمر بالخطاب المقاصدي المعاصرة باستدعاء الواقع بإكراهاته وضروراته الوجودية في التقصيد الكلي العام، ويظهر أنّ الاختلاف الحاصل والمتنوع حول القضايا المعروضة من تلك القِيم الإنسانية وما لصق بها
الثالث: دراسة المقاصد إشكالاً وموضوعاً لا منهجاً، والأصل أن تكون المقاصد مُوجدة لحلول وقضايا استثنائية واقعة في المجتمع، سواء على مستوى الأفراد أو الأمة، ولم يلجأ إليها العلماء إلا في مثل تلك القضايا والنوازل ، باعتبارها منهجية قويمة تستثمر في حل القضايا والإشكالات وليست إشكالاً في حذ ذاتها.
الفصل الثاني:
الخطاب المقاصدي وعلم أصول الفقه في البنية والتباين
يروم هذا الفصل البحث في العلل المعتبرة في تأسيس الخطاب العلمي لمبحث المقاصد ، مع رصد إمكانيات استقلاله وفق البنية الابستمولوجية للعلم الإسلامي، وبما يسمح به الإمكان الفقهي والاجتهادي ، وانعكاسات تلك الدعاوى ؛ أي : دعوى الاستقلال من ناحية ، ودعوى الاتصال من ناحية أخرى على الخطاب المقاصدي المعاص، ووظائفه المطلوبة منه بالقصد الأصلي.
أولا: مبدأ العلوم الإسلامية ومعادها
إنّ معاد العلوم الإسلامية في أساسها إلى سد الحاجات التكليفية والوفاء بالضرورات الاجتماعية المرتبطة بخدمة المصالح الإنسانية ؛ وفق الحدود القانونية والرسوم الشرعية التي هيّأت لها الشريعة خطوطها ومسالكها؛ لذلك فلا يجد الدارس لتاريخ العلوم الإسلامية قسماً خارجاً عن السياق المعرفي أو التاريخي الذي يجعله ناهضاً على ثغر من ثغور تصريف الأحكام التكليفية، والدواعي الشرعية عند المسلم على سبيل الانفراد، أو عند الأمة على سبيل الاجتماع.
والعلوم الخمسة الكبرى علم التفسير والحديث وعلم اللغة والعقيدة والفقه؛ إنما دعت الضرورات التعبدية في مواقع الوجود البشري حضورها واستدعاء تأسيها وقد تم إنشاؤها على محامل الضرورات الشديدة في طلب غايات الإنسان الوجودية وخدمة قضاياه الحياتية؛ فلها تمثُّلات يعيشها الاجتماع البشري، وتكوّنت عبر تاريخها المعرفي، وهي تحمل في داخلها عوامل استمرارها وقوة بقائها، ويبدو ذلك في تفتق علوم أخرى خادمة لبقائها واستمرارها، وتلك مسألة لها أهميتها الخاصة في التكامل العلمي والمعرفي( الابتسمولوجي) للعلوم الإسلامية، فالعلوم هذه تفتقت بداياتها في نسق عملي وظيفي في مواقع الوجود بعيداً عن التجريد والنظر واستصحبت بنيتها مع تفاعلات الإنسان والكون.
وهذه الملاحظات تثير فضولنا للبحث في أسئلة عديدة منها سؤال الدواعي الحقيقية لولادة تلك العلوم الجديدة والعلل المؤثرة في ذلك ومنتهى بعدها الإشكالي من حيث التأسيس والتقصيد وما إذا كان لعلل حضورها تفسيرات تنسجم مع حقائقها الأولى ومبادئها الإنشائية؟
ثانيا: المقاصد من الإضمار إلى الإظهار.
يكتسي النظر في إشكال العلاقة بين علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة من حيث شروط الاتصال أو إمكانات الانفصال أهمية عظمى لعلل ثلاث في رأي الباحث، وهي:
1. أن تاريخية الوثاقة بين علم أصول الفقه والمقاصد ، وتلازميتها المطلقة من حيث السياق التاريخي والمنهج التأسيسي يحول البحث في تفكيكها بالنظر لتداخل البعدين الوظيفي والغائي لكل منهما.
2. أن الفصل بين المقاصد وأصول الفقه فصلٌ بين أبعاد روح تسري في أعضاء وأصول جسد، لا يسعف إنجاز المطلوب منهما على سبيل الانفصال.
3. أنّ مقاصد النظر الأصولي ابتداءً تروح تحقيق اجتهاد فقهي يُجيب عن أسئلة المكلف في مواقع الوجود.
ثالثا: في تاريخية العلاقة ببين الأصول والمقاصد:
تربط المقاصد بعلم أصول الفقه عرى علمية وثيقة؛ مبدؤها تاريخي ووسيطها علمي ومنتهاها منهجي.
وإن هم من أهمّ دواعي ظهور علم أصول الفقه ؛ ضبط النظر الفقهي وفق البوصلة العلمية الموكولة له ابتداء؛ إما ضبطاً في الاتجاه الموضوعي المتعلق بالتمثل العلمي السليم لنصوص الوخي تعبداً واستخلافاً، أو ضبطاً في الاتجاه المسلكي المرسوم سليقة وتمثلاً في الاجتهاد والنظر، وفي هذا يقول ابن خلدون : ” واعلم أنّ هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية…، فلما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة، …. احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فنّاً قائماً برأسه سموه أصول الفقه”.
الفصل الثالث:
الخطاب المقاصدي وعلم أصول الفقه في الفصل والتواصل
أولاً تحدث المؤلف عن مذهب من يرى استقلال مقاصد الشريعة:
حصل هذا بعد صدور كتاب الموافقات للشاطبي ؛ وما تلاه من كتب ومصنفات لها صلة بالمقاصد..
فحصلت هنالك آراء.
المذهب الأول: مذهب الانفصال والاستقلال بين علم المقاصد عن أصول الفقه، وهو رأي الطاهر بن عاشور، وقد ذكر المؤلف أنّ داعي الطاهر بن عاشور؛ إرادة تدوين أصول قطعية للتفقه في الدين؛ لكون علم أصول الفقه بالصورة التي أضحى عليها لا يستجيب للمعاني القطعية في ذلك المتفقه، من حيث ورود الاختلاف على أغلب مسائله، وإلحاق أجزاء مهمة منها بمراتب الظنيات.
المذهب الثاني: مذهب الاتصال: وهو رأي علال الفاسي ؛ إذ إنّه كما نقل عنه المؤلف نصاً من كتابه يرى أنّ المقاصد جزء لا يتجزأ من الأصول المعتمدة في تخريج الأحكام الفقهية ، وهو رأي جمال الدين عطية من المعاصرين؛ حتى إنّه عارض رأي ابن عاشور بشكل صريح معتبراً أنّ استقلال المقاصد بعلميتها سيكون له الأثر السلبي على كلا العلمين حيث قال: ” إذ يُجمّد الأصول على حالها، ويحرمها من روح المقاصد، كما أنّه يُبعد المقاصد عن الدور الوظيفي الذي تقوم به حالياً، الذي ينبغي أن نحرص على تطويره”.
والشيخ عبد الله بن بيّه ذكر أنّ مقاصد الشريعة هي ذات أصول الفقه وعينه، وإنما تمّ استدعاء النظر والبحث في مقاصد الشريعة بوصفها جزءاً من أصول الفقه ؛ لأجل الاستنجاد بها في مسائل الأصول؛ لهذا رأي ابن بيّه أنّ أصول الفقه علم يحتاج لتفعيل أكثر من إحلال مقاصد الشريعة محلّه ، أو استحدثه علماً مستقلا.
المذهب الثالث: مذهب الاستكمال بين العلمين وضرورة التكامل المعرفي بينهما، وذلك أنّ فيه تكامل سياقي مفاده أنّ نشوء البحث في المقاصد الشرعية جاء وفق السياق التاريخي الذي ظهر فيه علم أصول الفقه، وأنّه لولا علم أصول الفقه لما عُرفت مقاصد الشريعة، كما يأتي هذ ضمن السياق المنهجي في التكامل حيث أن النظر الفقهي يتطلب إعمال قواعد أصول الفقه وأدلته، كما يتطرق للتكامل العلمي إذ إنّ البنية المعرفية لعلم أصول الفقه مرتبطة في أصل الابتداء على فقه المعاني والمقاصد ؛ بل علم أصول الفقه أساساً هو قواعد لفقه المعاني والمقاصد الشرعية.
ويمكن اعتبار رأي الشيخ أحمد الريسوني أنموذج هذا الاتجاه .
ثانيا:في دعوى استقلال المقاصد وسؤال المعنى
أوضح فيه أن تأليف عالِمٍ من علماء الشريعة كتاباً في الاجتهاد ككتاب السيوطي أو الجويني؛ أو في التعليل ككتاب الغزالي؛ لا يعني اعتبار مبحث التعليل أضحى علماً خاصاً منفصلاً عن أصول الفقه.؛ إذ العلوم تتجرأ ويهتم العلماء بهذه الأجزاء على سبيل التحقيق.
وعليه فالانفصال التاريخي الذي حصل بين خطاب المعرفة الأصولية والخطاب المقاصدي كان لاعتبارات معرفية فحسب، ولم يكن لها بُعدٌ منهجي أو علمي دعت ضرورتهما إلى ذلك الانفصال.
ثالثا: في موانع استقلال المقاصد:ذكر المؤلف عدة أسباب:
1. القراءة العلمية للبناء السياقي لنشأة العلوم نلمس انتقاء بيّناً لإشكال مظنّة الدعوة الضرورية لتأسيس العلوم، أو لخلق علم جديد اسمه علم المقاصد؛ لأنّ أصول الفقه ارتبط بناؤه على إشكال ضبط الاجتهاد الفقهي وفق مساره المعلوم؛ فكان لشرط الضبط ورود في حالته العلمية، لكن يفتقر علم مقاصد الشريعة لهذا الشرط لأن علم أصول الفقه لا يستصحب في ذاته إشكالاً معرفياً؛ لأنه متمدد الأبعاد في النظر؛ وإنما الإشكال حسب اعتقادنا في تفعيل قواعده، وهو رأي الأستاذ ابن بيّه، ثمّ كذلك في الغياب النظري لإعمالها واستثمارها، ومبادئ المقاصد جزء من ذلك.
2. إن فصل علم المقاصد عن الأصول سيضر بالناحية الفقهية ذلك أنه حين تراجع علم أصول الفقه عن ارتباطه بالفقه تراجع الفقه؛ ولا نريد ذلك مع علم المقاصد في تراجعه مع علم الأصول.
3. أنه بالإمكان التلاقي بين المقاصد والأصول من خلال طرق تفعيل علم المقاصد واستثمار قواعد الأصول بما فيها قواعد النظر المقاصدي.
4. أنّ الدعوة لإنشاء علم جديد؛ سيؤدي للتفكير في إنشاء علوم أخرى بالمسوغات نفسها، الأمر الذي سيؤثر في فاعلية العلوم وقدرتها على أداء مهمتها التي لأجلها أنشئت؛ لذلك فإنّ خصوصية التحفظ من منطق التفكير التأسيسي للعلوم تجد مسوغاً في الغياب الوظيفي لمقاصدها من جانب الوجود.
لهذا صرّح المؤلف د. الحسان شهيد أنّه مع رأي الأستاذ علال الفاسي في دمج علم المقاصد بالأصول ، وأنه لا داعي لاستقلال أحدهما عن الآخر ما دام الفكر المقصدي قد تخلق في رحم علم الأصول.
رابعاً: في اعتراضات على اتصال المقاصد
ذكر أنّ بعض العلماء ألّفوا كتباً خاصّة كقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، والموافقات للشاطبي؛ فلم يبق إلا الاعتراف بعلمية استقلال المقاصد دون إنكار.
وأجاب عليه: أنّ هذا يقوي حُجّة عدم استقلال العلم؛ لا الاستقلال بالبحث والدراسة؛ ولهذا لم يعده العلماء علماً قائماً بنفسه، وذكر أن هنالك من يعترض بالانفجار العلمي والتناسل المعرفي ؛ وهذا ليس حجّة لأنّه إذا لم تدع الضرورة لذلك فما الداعي لتقسيم العلوم وجعل كل علم بذاته علماً مستقلا.
خامساً: في تداخل الفقه والأصول والمقاصد.
إنّ أصل النظر لهذه المباحث يعود لتحكيم شريعة الله في الأر ومواقع الوجود البشري، وقد اضطر معه العلماء لمعارف متعددة في بلوغ ذلك الأرب، حيث كان لزاماً أنّ فقه نصوص الشريعة يحتاج لمنهجية.
سادسا: موقع المقاصد من الاجتهاد:
إن المجتهد لا ينفك أن يكون فقيهاً بالأصالة، وأصولياً بالضرورة ومقاصدياً بالتبع ، حتى يُقارب الصواب في المسألة ولا يُجانبه؛ فإذا سلّما دراسة مقاصد الشريعة وبحثها على انفراد فلا يمكن أن يكون ذلك إلا ضرباً من ضروب الكلام العام عن مقاصد الشريعة العامة أو خصائص الإسلام؛ وذلك ما نلمس حضوره بقوة في عدد من البحوث والكتابات المهتمة بالشأن المقاصدي؛ إذ تنحو نحو البحث الفلسفي والفكري في بيان علاقة المقاصد بالأصول ، أو الاستدلال على إحدى الكليات ، أو الدفاع عن الخصائص الإنسانية والحضارية للإسلام؛ فأنتج دراسات عامة.
الباب الثاني
الخطاب المقاصدي المعاصر : مشاريع ورؤى تجديدية
الفصل الأول: في الخطاب التجديدي المعاصر: قراءة في مشاريع تجديدية
وقد تحدث المؤلف عن هذه المشاريع وقسّمها لأربعة تصورات تجديدية في أدبيات الفكر المقاصدي
أولا: مشروع التجديد النقدي.
وصاحب هذا المشروع هو المفكر وأستاذ الفلسفة اللغوية وعلم المنطق د. طه عبد الرحمن تشكّلت في كتابه ” تجديد المنهج في تقويم التراث” ، وسعى في ذلك للسعي إلى تخليق المقاصد وذلك بالنظر التأسيسي لكلية الخلُق ضمن الكليات الضرورية الخمس التي اتفق عليها العلماء والأصوليون ؛ لهذا قال: علم المقاصد هو علم أخلاقي، موضوعه الصلاح الإنساني”
وقد ارتأى أن يكون بدلاً من المقاصد الثلاث: الضروريات، الحاجيات، التحسينيات ؛ لتكون أخرى وهي : حفظ الاعتبار، وحفظ الاحتياط، وحفظ التكريم.
وله مأخذ على جعل علماء المقاصد القيم التحسينية مقتصرة على مكارم الأخلاق؛ لهذا يقول: وهذا في غاية الفساد ؛ فقد تقدم أن علم المقاصد يبحث في المصالح، وأن المصالح ليست إلاّ علماً آخر للقيم الأخلاقية؛ لأنّها هي وحدها التي يصلح بها حال الإنسان، وإذا كان الأمر كذلك لزم أن تكون الأخلاق أولى بالرتبة الأولى من غيرها”.
ثانيا: مشروع التجديد الإنساني:
باعتبار النظر إلى البعد الإنساني في المقاصد الشرعية، وفي السياق العالمي الذي تمر به الأمة وما تقتضيه من مهمة الاستخلاف ورسالة الشهادة ومقاصد العمران، وله كتاب طرح فيه هذه الجوانب أسماه: (مقاصد الشريعة)، وقد اعتبر الجوانب الثلاث: التوحيد، التزكية ، العمران تمثل المقاصد العليا، والقيم الأساسية الكبرى ؛ لتكون أساساً ومقياساً لسائر أنواع الفعل الإنساني ولجميع الآثار المترتبة عليه في الدنيا والآخرة ، وقد ذكر أنّ هذه المقاصد لم تخل منها رسالة الأنبياء لمن أُرسلوا إليهم.
ثالثا: مشروع التجديد التفعيلي:
بتفعيل المقاصد وتنزيلها بدل الاقتصار على الجوانب النظرية التجريدية المحيطة بها، وصاحب هذا المشروع هو: جمال الدين عطية كما ذكره في كتابه : (نحو تفعيل المقاصد)، وقد حاول يُطور المقاصد الخمس الكبرى في حفظ الضرورات الخمس لينضوي تحتها 24 مقصداً موزعة على أربعة مجالات وهي: مجال الفرد، مجال الأسرة، مجال الأمة، مجال الإنسانية.
وقد اعتمد عطية في تحديد المقاصد المذكورة استناداً لوظائف العقل والفطرة والتجربة، وصلاً بالمستندات التي تم استثمارها لدى علماء المقاصد سلفاً، كالجويني والغزالي والعز بن عبد السلام، ثم الشاطبي، وذلك كله تابع للاستقراءات العلمية من النصوص الشرعية في دلالتها التعليليّة على الأحكام.
رابعاً: مشروع التجديد الحضاري
وذلك وفقاً للمتغيرات حتى يستجيب للمستجدات والقضايا الطارئة ، وهو مشروع الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه : (مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة) وهو يرى أنّه لا مانع من إضافة كليات جديدة غير الكليات الخمس التي أتت الشريعة بالحفاظ عليها وتكون في نفس قوتها.، وقد أضاف لهذه المقاصد الخمس مقصد إنسانية الإنسان ومقصد الكيان الاجتماعي، ومقصد حفظ التوازن في المحيط البيئي.
خامسا: ملاحظات المؤلف حول الرؤى التجديدية:
1. ملاحظات منهجية:
– أنّ أغلب المحاولات العلمية في إضافة بعض المقاصد لتُدرج ضمن الكليات لم تفصح عن مسالكها المعتمدة في إثباتها، حتى يتبين صحة اعتبارها ؛ إلا محاولة الدكتور العلواني حيث أشار لمسلك الاستقراء، لكن يبدو أنّهم اتفقوا على مسلك الدافع الواقعي وإكراهاته.
– أن الذي يظهر من خلال قراءة مشاريع النظر المقصدي أنها تنظر إلى الإشكال من حيث حصرية المقاصد بين الزيادة والنقص والتغيير، دون تعميق النظر في آليات تنزيل المقاصد الكلية ومنهجية الاستفادة منها في واقعنا المعاصر.
– أن التغيير أو الإضافة أو الحصر الذي تناوله العلماء سابقاً لم يكن دافعه الجانب الواقعي بالقصد الأصلي، بل كان بِنَفَسٍ تأصيلي للنصوص الشرعية؛ فكانت الجوانب الواقعية المعتبرة تأثيرها بالقصد التبعي.
– انحصار النظر في الجانب المقاصدي على التأصيل؛ وطغيان الجانب النظري في عرض الإشكالات.
– التركيز في البعد المقاصدي على البعد الكلي، أي بحث: الضروريات ومدى أولوياتها، بدل الغوص في تشغيل فلسفة التشريع، وطرق ومسالك تبسيط المقاصد في الحياة الإنسانية.
2. ملاحظات علمية:
– هذه المقاصد الخمس سميت بالكليات، لأنها تجمع مقاصد دعت الشريعة لمراعاتها، كما تندرج تحتها مجموعة من القِيَم، وإن إطلاق المقاصد عليها إطلاق مجازي من حيث إطلاق الجزء لإرادة الكل؛ فينبغي التفريق بين الكليات والمقاصد، فقِيَم العدل والحرية والخلق والوحدة وحقوق الإنسان كلها مقاصد شرعية لم يهمل الشرع اعتبارها؛ إنما كل مقصد يندرج ضمن الكليات الكبرى المقصودة والمعروفة.
– إن منح الاعتبار للضغط الواقعي ومستجداته في المقاصد الشرعية سيفتح المجال لوضع مجموعة من المقاصد التي لا حصر لها ، كل ناظر من زاويته.
– أننا بحاجة لتشغيل المقاصد عملياً وليس تفعيلها نظرياً.
الفصل الثاني
الخطاب المقاصدي المُعاصر: في رؤى التجديد المقاصدي
· رؤى معرفية:
الأول: البحث في الأسس:
وقد تحدث فيه عن ضرورة إجابة النظر المقاصدي المعاصر عن أسئلة العصر بدل التنبؤ بها أو عرضها، والبحث عن حلول ملائمة ومتناسبة بدل تشخصيها، ومن طالع الأطروحات المقدمة في الماجستير والدكتوراة سيتفاجأ بفقر مدقع في هذا المجال؛ فنجد رسائل عديدة تتحدث عن مقاصد الصلاة، أو الفكر المقاصدي عن فلان، ومع تقدير المؤلف لهذه الرسائل إلاّ أن المطلوب إخراج تلك الرسائل من ضيق التنظير والتجريد، إلى سعة التنزيل والتشغيل، فضلاً عن مشكلة غياب مؤسسة اجتهادية ناظمة لتوجيه البحوث والدراسات الإشهادية، وكثير من الكتابات والرسائل في هذا الموضوع لا تخرج عن التأملات الفلسفية بعيدة عن التمثلات الفقهية العلمية التي تبعث الروح في إصلاح الواقع.
ويقترح المؤلف لإنشاء مراكز دراسات متخصصة بالتفكير الاستراتيجي للخطاب المقاصدي، وإنشاء وحدات مؤسسية داخل الجامعات لبلورة رؤية واضحة وتصور مفيد، وتكوين الباحثين والعلماء على منهجية إنجاز الدراسات وإعداد الأبحاث وربطها بالنظر الفقهي المقاصدي.
ثانيا: النظر في الأحكام:
المهمة الأصيلة للبحث المقاصدي ؛ استثماره في النظر الفقهي والاجتهادي لتحقيق مصالح المكلفين، ولكن لاستثمار المقاصد في الاجتهاد طرق ثلاثة:
1. شرطية النظر المقاصدي لدى المجتهد.
2. منح القضايا الكلية المقاصدية الاعتبار الآكد في النظر الفقهي والتفكير المفيد للأمة.
3. النظر المزدوج بين النظر في نصوص الوحي، والنظر في مناكب الكون حتى تكتمل الرؤية ويتحقق المطلوب.
ثالثا: من حيث فلسفة القراءة.
وذلك ببيان ثباتية القيم الضرورية الكبرى في الوجود الإنساني والعالمي، والقراءة الواقعية للواقع الإنساني وتشخيص الحاجات القيمية والمتغيرة في عالم اتسم بسرعة الوتيرة، وكلفة المشهد الاجتماعي المتبدل قيمياً .
* رؤى منهجية:
– ليست المقاصد ترفاً منهجياً بل أداة لاستنباط الأحكام الشرعية فلابد من أن تنزل من سماء التنظير لأرض العمليات ومن التصور الذهني لميدان التطبيقات.
– وصل المقاصد بالفقه وأصوله.
– فقه المصالح المتجددة والمتغيرة ومن أهم ذلك إيجاد مراكز علمية لدراسة ذلك، وتكوين علماء لهم وعي حضاري، ورصد المخاطر المحدقة بالكوت بما فيها البيئة والأممية كالحروب والأمراض.
– استمداد المقاصد من خلال تحقيق المصالح الإنسانية في تمثلاتها الدنيوية واعتبارها ضمن سعادتها الأخروية.
الفصل الثالث:
المقاصد وعلاقتها بالعلوم المعاصرة
أولا: المقاصد والعلوم الاجتماعية.
وذلك من خلال تفسير الظواهر والبحث لها عن معالجات متعينة تفي بالغرض المطلوب اجتماعياً وما تعلّق به، وتظهر الاستفادة من علم الاجتماع من خلال مناهجه العلمية المستثمرة في التأسيس للنتائج ، كمنهج الاستقراء والتتبع والاقتفاء للحالات والقضايا المعروضة اجتماعياً، ومن التجارب السننية والاجتماعية في معرفة خيوط رابطة بين المقدمات والنتائج والملاحظات، وهذه آليات منهجية للأصولي ليستفيد من نتائجها.
وفي هذا السياق الدامج بين علم أصول الفقه والعلوم الاجتماعية فقد نقل عن الدكتور علي جمعة قوله: نحن ندعو للاستفادة المتبادلة أن يُفيد علم الأصول من المناهح الجديدة ، وأن تفيد العلوم الاجتماعية والإنسانية من منهج أصول الفقه نفسه، باعتباره منهجاً يبحث عن مصادر البحث، وطُرقه وشروط الباحث بهذه العقلية التي يبحث عن الحجية، والتوثيق والفهم مع مراعاة الظني، والقطعي ومرتبة كل منهما، وكذلك المقاصد والمآلات والتعارض والترجيح، وقضايا الإلحاق، وكيف يُستفاد من ذلك في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهو أمر سينتج عنه تطوير ذلك العلم حين يكون قابلاً للهجرة إلى عقول علماء تلك العلوم).
مع ضرورة عدم إغفال الجانب التوازني في الاستمداد العلمي بالنظر للاختلافات المنهجية والعلمية بين العلوم الشرعية والاجتماعية .
ثانيا: المقاصد والعلوم السياسية
فمن القضايا الحساسة موضوع :
أ. إشكالية الدولة المدنية:
إذ تحتها الكثير من الأسئلة:
– ما المرجعية الفلسفية لهذا النمط السياسي في التدبير الحُكمي؟
– ما الثوابت والمتغيرات الأساسية في السياسة للدولة المدنية؟
– ما المطلق والنسبي في تشكل الدولة المدنية؟
– ما الحير التدبيري للدين في الدولة المدنية؟
– ما المقاصد الشرعية المتحققة ، والمصالح الإنسانية المعتبرة في التدبير المدني للدولة؟
ب. في فقه الثورات:
فإذا لم يكن الفقه السياسي الإسلامي إذا لم يستطع أن يكون في مستوى التغيير والمراجعة المأمولة والمستشرفة للمستقبل السياسي للأمة ، وإنتاج تنظير سياسي يقود الأمة ونخبها وجماهيرها نحو إنجاز التغيير والإصلاح، فعلى الأقل ينبغي أن يستعد للبحث والإجابة عن الأسئلة الراهنة.
ولا شك أن الواقع السياسي المعاصر قد شهد متغيرات كبرى تدعو العقل الإسلامي مسترشداُ بالنظر المقاصدي إلى نسخ التأصيل السياسي والفكري لنظريات الصبر والنصح للحكام والإتيان بما هو خير منها أو مثلها في حالات لها من التناسب ما يُفيد ضرورة وحتماً، وقد استصحبت تلك المتغيرات العظمى تطوراً في الآليات العقلية والاجتماعية تسهم في هذا الاتجاه نذكر من أهمها:
الأولى: تعدد وسائل وآليات الجهر بكلمة الحق.
الثانية: أن الجهر بكلمة الحق لم تعد مقتصرة على الفرد بل لها نقابات وتجمعات سياسية .
ج. فقه التغيير ومناهجه:
وذلك باستحضار بعد مقاصدي في خلق فقه سياسي جديد يأخذ بالحسبان التغييرات الحادثة ، يختلف عما كان عليه الحال قديماً في وجود أسرة من عائلة أو عصبة من عشيرة تقوم بالحكم.
والبحث عن المنهجيات المعتبرة في التغيير وفق اللحظة المعيشية ، وما المداخل الأفضل تأثيراُ في الواقع
والبحث في موضوع الدعوي والسياسي وعن إمكانية الفصل بينهما في ظل الظروف المعاصرة، وهل يمكن ممارسة العمل الدعوي ضمن الحركة السياسية الأم التي تنطلق منها الرؤية الدعوية، والبحث عن حدود وإمكانات العمل الدعوي في التغيير السياسي وفق الضرورات المستصحبة للنظر المقاصدي، وما مدخل المعالجة الاجتماعية للقضايا الساخنة داخل المجتمع الإسلامي هل الدعوي أم السياسي كقضية الخمور، ونوادي العراة عند الشواطئ، والحجاب، وهي قضايا تثير حفيظة العقل الدعوي والسياسي.
د. فقه التمكين وعلاقته بالتغيير:
وهذا يبحث صاحبه في مجال التكليف والقدرة والمستطاع ، وسنية التدرج في موضوع الأحكام وتطبيقها باعتبار النظر المقاصدي، ومن حيث سياق الظروف ووقت الخطاب فله تأثيره الخاص واشتراطه ضمن تكوين الرؤية المناسبة في إدراك المقاصد الكلية على مستوى الوجود أو العدم، ومن حيث توجيه الخطاب فإن كان الفقه تحدث عن الميسور والمعسور والمشقة والتيسير للفرد؛ فالبحث فيها يهم على حساب الأمة والمجتمع.
ثالثا: المقاصد وعلم النفس:
حيث يعد علم النفس من أهم العلوم المعاصرة المساهمة في ذلك بحيث يقوم في دراساته العلمية على مناهج علمية طورت من مردوديته في فقه النفس البشرية، كالتجريبية النفسية والاستقراءات الميدانية، والاستطلاعات الاجتماعية، ويمكن لعلماء الشريعة فقهاء وأصوليين استلهام هذه التجارب العلمية والمنهجية والاستعانة بها في فقه حال الإنسان، وكثير من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية المتعاملة مع الموارد البشرية الحالية تعتمد على الدراسات النفسية بشكل كبير حتى صار لكثير منها أخصائيون في الأحوال النفسية يرجع لهم في اختيار أي مرشح يريد الالتحاق بها ، وحري بالعلماء والدعاة التنبيه لهذا الملحظ وتوخي الأحوال النفسية المناسبة لتبليغ الدعوة وتحقيق ومقاصد الشرع في الناس.
رابعاً: المقاصد وعلم المستقبل:
ومن ضمن الجوانب المهمة نفير كل فئة من طوائف العلماء للتفقه في الدين وبذله ونشره؛ بناء على آية : {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قوهم}، وقد انتبه الصحابة لذلك حتى في السؤال عمّا يحفظ إيمانهم وأمنهم، كما قال حذيفة بن اليمان: (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يُدركني).
لذلك فإنّ فقه مستقبل الإنسان في مجال التكاليف الشرعية يعتبر أحد الأسس المهمة في بناء الأحكام وتخريجها بشكل سليم، يتوافق مع المقاصد الشرعية سواء في العاجل أو الآجل، وقد عبّر عن ذلك الأصوليون بقاعدة اعتبار المآل، وما ستؤول إليه الأمور بعد التصرف التكليفي.
ولعل من أهم الجوانب المعرفية في الخطاب المقاصدي المرتبطة بفقه المستقبل، قانون السسبية ومتعلقاته من مقدمات ونتائج علمية، وهو القانون المستند إليه .
الباب الثالث
التجديد التشغيلي للمقاصدي : المقدمات والإمكانات
الفصل الأول: مقدمات التجديد المقاصدي المعاصر.
أولا: مقدمات علمية.
1. بين التجديد والتشغيل:
وذلك بتجديد استدعاء المقاصد الشرعية في الحياة اليومية للناس، وتشغيل مبادئها وأنظارها الشرعية في مواقع الوجود البشري.
2. بين الاستضعاف والظهور:
وذلك بالتنبه إلى وهن الاستناد إلى فكرة التمكن والظهور حتى تحفظ المقاصد، وترعى على أكمل وجه؛ فالمعادلة قد تختلف وتعكس أحياناً، وذلك التنبيه يحوي تذكيراً بأن من الموبقات المعرفية للخطاب المقاصدي المعاصر إهماله للتشغيل المقاصدي بحجة الغياب الكلي للظهور والتمكن للأمة.
3. تشغيل المقاصد بين جانبي الوجود والعدم:
التأسيس النظري لتشريع حفظ المقاصد وتمثلها في مواقع الوجود البشري يستلزم الاشتغال على مسلكين متوازيين:
الأول: وهو الإقامة، وتتجه نحو تثبيت المقاصد والأهداف وترسيخ الأركان وقواعدها.
الثاني: الاحتياط والحماية.
والإشكال الذي يحتاج إلى تحرير في هذا المقام، هو هل الاشتغال على هذين المسلكين يكون بصورة تلازمية استصحابية؟ أم أنه بالإمكان الاقتصار على مسلك الإقامة؟ أي: جانب الوجود في حفظ المقاصد، ثم بعد ذلك توجيه النظر إلى ما به الحفاظ على مصالح المطلوب حمايتها من كل ما يمس قيامها واستمرار وجودها؟
وقد تحدث المؤلف عن ذلك والبحث في منتهى الترجيح بين المصالح المرجوة من النظر في حفظ المقاصد الكلية من جانب الوجود والمصالح المستهدفة من الاشتغال على جانب العدم، يتوقف عند الالتزام بتقديم أولوية النظر من جانب التثبيت والإقامة لما يجلب المصالح، قبل جانب الدفع والإبطال لما يؤدي إلى المفاسد.
ثانيا في مقدمات عملية :
1. بين التشغيل الكلي والجزئي.
فبحسب الإمكان التشغيلي الضروري يُفترض إدراك جل ما أمكن على سبيل إدراك ما لم يتمكن منه، كما أن التشغيل الجزئي حالاً مكسب في طريق وسيط نحو التشغيل الكلي مآلا.
لذلك فإنّ هذه المسألة أي: التبعيض المرحلي للمقاصد في غاية الأهمية، وقد تشكل أحد القضايا المؤرقة للمقاصديين المعاصرين؛ إذ يصعب تحقيق كلية المصالح في الواقع الوجودي الإنساني من بعض التشريعات، سواء الفردية أو الأسرية مثلاً، دون مظافرتها بتشريعات تمس الجانب الاجتماعي وعلى مستوى الدولة.
2. بين سلطتي العقل الجمعي والسياسي:
من أهم معيقات تنزيل المقاصد، وتمثلها جليّة في مواقع الوجود البشري والاستفادة من مصالحها الإنسانية، ارتسام الجانب السلطوي والتدبير السياسي في المخيال الاجتماعي والفردي مطلباً مصيرياً ؛ في حين أنّ الارتهان لحضور ذلك الشرط والنزوع الضروري إلى ذلك الخيار سيعطل مصالح كبرى وجوهرية في حالها ومواقعها ، والفكر المقاصدي تبدو أهميته وضرورته أساساً في اللجوء إليه حالة الاستنقاذ عند طروء معيقات ولحظة الاستنجاد عند وجود تحديات.
3. من التشغيل الفردي إلى الجماعي:
حيث يكون التشغيل المقاصدي مُفترضاً للاستهلال من البناء المقاصدي للفرد بناءً على التدرج والمرحلية واستكمالاً للبناء بعد تشكل الأساس؛ ثم لأنّ تشغيل المقاصد على نحو كلي عام لن يتحقق شهوده وترى مشاهده دون فقه بتلك المقاصد وإدراكها لدى الأفراد واشتغالهم على اعتبارها.
الفصل الثاني
مداخل التشغيل المقاصدي بين الإمكان والتمكين
ذكر الشاطبي أنّ المكلف من الضروري أن توافق قصوده في أعماله وأفعاله مقاصد الشرع، حتى تكون من صميم العبادة.
وأنّه حتى تتحقق مطالب تلك القصود وتوافق مقتضى المقاصد الشرعية يجدر بالمكلف أن يستشعر مهمة الاستخلاف في الأرض الموكولة له .
وأنّه لابد من القيام بذلك لكل مقتدر وممتلك وسعه في العمل بمقتضى الشريعة في نطاقه ومجاله سواء كان فرداً أو جماعة.
وذكر المؤلف أنّه يقصد بالإمكان التشغيلي للمقاصد استفراغ الوسع في تنزيل الأحكام الشرعية في مواقع الوجود، وتصريفها وفق الجهد التكليفي والقدرة الإنسانية في جميع الحالات التمكينية أو الاستضعافية.
أولا:مدخل الإمكان الكلي: هو ما توافرت فيه جميع الشروط القائمة على تشغيل المقاصد الشرعية، وتحقيق المصالح المرجوة منها، بحيث لا يعذر المكلف بتعطيل مراعاتها على الوجه الأكمل والسليم، ومبلغ حصول هذا النوع ومنتهاه يرد لدي الخطاب المتعين للمكلف فرداً، وأسرة؛ أي: ما يخدم فردانيته وأسرته.
1. الخطاب الفردي أو تأهيل الفرد لثقافة مقاصدية:
من طبائع التمثل التشريعي انبناؤه على البداية الفردية تعقلاً وتفقهاً في جانب العلمي، وتكلفاً وتنزيلاً في جانبه العملي؛ ثم يمر عبر المستويات الأكثر وساعة وانتشاراً؛ الأمر الذي نلحظه من النصوص التشريعية المركزة في توجيهاتها الآمرة أو الناهية إلى الفرد أحياناً كثيرة.
ولأنّ المكنة الضرورية شرط أساس في تشغيل المقاصد وحفظ كلياتها الضرورية في مواقع الوجود الإنساني، فإنها لدى الفرد من باب الورود اللازم، خصوصاً في التكاليف المعتبرة على وجه الخصوص والانفراد؛ مما يستدعي تأهيل الأفراد على وجه التعيين لتمثل حفظ المقاصد تشغيلاً في مظان التكاليف وتصاريفها الإنسانية.
فإذا توافق العقل والمنطق العادي على هذا التأصيل للمكنة الفردية؛ فإن النصوص الشرعية تشهد لذلك في كثير من مناسباتها.
وإن من أهم تجليات التمثل المقاصدي على المستوى الفردي حصول الطهارة النفسية وصفائها.
إن الأصل في التأهيل الفردي لإقامة الكليات الشرعية في الحياة إدراكاً في العقل وإدراكاً في النفس وتمثلاً في المواقع الوجودية والعمل على تحصين ذلك الإيجاد وتلك الإقامة بالسؤال عن مواقف العدم في مواقع الوجود، مخافة إدراكها وإلحاق الضرر بها ما دام للفرد سلطة واردة، ومكنة ناجزة فيما يدور في حماه.
وقد أوضح المؤلف أنّ بدايات التشغيل العلمي للمقاصد تبدأ من تأهيل الأفراد لثقافة مقاصدية شرعية تستلهم من الشرع كلياتها، وتتحاور في تكامل وتدافع مع الكون والناس، وهذا يحتاج بالضرورة إلى إدراك طبيعة الوجود الإنساني في الكون ورسالته ومقاصده الذاتية.
2. الخطاب الأسري: أو التربية على الثقافة المقاصدية:
ما تمثله الأسرة من مؤسسة اعتبارية وتكوينية لشبكة العلاقات المجتمعية، بوسعها العمل على توسيع دائرة تشغيل المقاصد، واستثمارها بين أفرادها من جهة، وبينها الخلايا الأخرى، ويشكل بناء مؤسسة الأسرة بداية الفرد الذي تحدثنا عن خصائصه ومقوماته في حفظ كليات الشريعة على مستواه الذاتي؛ مما يؤهلها لاستثمار تربوي مقاصدي، فتكون بذلك الأسرة قد نضج وعيها الفكري والشرعي لما ينبغي لها القيام به من جانب الوجود، ومن جانب العدم على مستوى الفرد؛ فالأسرة جزء مهم من إمكانات التشغيل الكلي للمقاصد وفق المجال الذي تتحرك فيه أفراداً وتجمعاً أسرياً؛ وبإمكانها تحقيق رصيد مرحلي يؤهل المجتمع إلى الإمكان الوسيط .
ثانياً: مدخل الإمكان الوسيط، والمراد به: حاصل الوسع المستند إليه في تشغيل المقاصد الشرعية؛ لأجل تحقيق المقصود الحضاري الأول المتمثل في الشهود الحضاري للأمة، وأهم تجليات ذلك الإمكان الوسيط المستوى الممكن من خلال المجتمع والمستوى المتاح على صعيد الدولة القطرية
ثالثا: مدخل الإمكان الجزئي، وذلك من العنصر الأصغر في الوجود البشري الفرد إلى الاجتماع الإنساني العالمي، اختلفت القدرات والإمكانات المعتبرة في تصريف الأحكام الشرعية وفق التشغيل المقاصدي المراد، فإذا استوى الإمكان مع المطلوب لدى الفرد بصورة ناجزة ولدى الأسرة، فإنه قد يتعسر استواؤه على مستوى الأمة بالصورة المطلوبة، وقد يتعذر إنجازه على مستوى العالم، مما جعله يدخل في الاعتبار الجزئي في كلا المستويين.
إنّ بعد القصد الحضاري للأم لم يعد منتهاه عند حفظ الخصوصيات الثقافية والمتعينة للشعوب فحسب، بل أصبح يتطلب ضرورة تجاوزه إلى إنقاذ سفينة العالم ككل، والأخذ بيدي الراغبين في خرق النصيب؛ لأنّه يشكل أخطاراً حقيقية على القيم والثقافات والبشرية، في الوقت الذي أصبحت فيه البشرية تشهد ولأول مرة في تاريخها إمكانية انقراضها بما كسبت أيديها إن الطبيعة ليست ملوثة بما يخلفه الإنسان فقط، بل هي ملوثة أساساً بالإنسان (مصدر التلوث).
ثم تحدث المؤلف عن حاجة الأمة لتحقيق مقاصد الوفاء بالعرض الإلهي والالتزام بمقتضيات حمل الأمانة من توحيد ربّاني في التدين، واستخلاف إنساني في الأرض، وشهود ثقافي على العالم؛ لأنّ تلك الحاجة الضرورية تقتضي منها العمل على ثلاث مستويات أساسية لكسب رهانات التدافع الحضاري، وذلك من خلال:
1) القراءة الراشدة باستفراغ أهل الذكر وسعهم ، وكلٌ في مجال اختصاصه.
2) الممانعة القاصدة وذلك بتسخير الطاقات لمنع التمكين الحضاري لكل الأشكال الثقافية للهيمنة على إرادات البشرية.
3) المدافعة الشاهدة: حيث تبدأ هذه المدافعة الحضارية بمهمة البلاغ والبيان وتستمر بواجب الأخذ على الأيدي وتنتهي بنتيجة الشهود والشهادة.
ثم اختتم المؤلف هذا الفصل ببيان ضرورة تشغيل المقاصد التي تفتقر للآليات التنزيلية وفق رؤية واضحة يعكتف على الاشتغال في تنفيذها مؤسسات بحثية ومعاهد متخصصة .
· خلاصة البحث وخاتمته ونتيجته:
في آخر كتابه تحدث عن أهم خلاصاته العلمية وحصرها في خمس نتائج:
1. حقيقة البعد الإشكالي بضرورة وجود الاعتبار الدفاعي عن المقاصد، والاعتبار الدعوي من خلالها وإليها، والاعتبار الفكري الفلسفي لتهتم بالتراث الإنساني المشترك.
2. منهجية السؤال المعاصر عن إمكانية الوصل بين مقاصد الشريعة وأصول الفقه، وبينها والفقه من ناحية أخرى.
3. ضرورة الاستمداد لفكر المقاصدي من العلوم الاجتماعي بما يتلائم وطبيعتها ومن باب إتمام الواجب ولكي تلامس الجزئيات الإنسانية والقضايا الاجتماعية التي يعيش في كنفها الإنسان.
4. مقدمات التجديد: ومن أهمها الحسم عملياً مع المداخل التقليدية في التنظير المقاصدي.
5. الإمكان التشغيلي للمقاصد باستفراغ الجهد في تنزيل الأحكام الشرعية بمواقع الوجود وتصريفها وفق الوسع التكليفي
6. كونية الخطاب المقاصدي باعتباره خطابا إنسانياً كونياً يضمر بين تضاعيفه إشارات كونية ترتسم فيه الأبعاد العالمية التي شكلت المقصد الأعلى لخطاب الشريعة ورسالتها.
(المصدر: مركز البيان للبحوث والدراسات)