عرض كتاب (أوائل ترجمات معاني القرآن الكريم في اللغات الأوروبية)
عرض د. علي عفيفي علي غازي
الكتاب: (أوائل ترجمات معاني القرآن الكريم في اللغات الأوروبية)
المؤلف: محمد همام فكري
الناشر: مكتبة التراث العربي والإسلامي – قطر
تاريخ النشر: 2011
عندما استقر المسلمون في بعض البلاد المجاورة للغرب (أوروبا)، وخاصة في بلاد الشام وفلسطين ومصر، ثم بعد ذلك في قلب أوروبا في الأندلس، بدأ الاهتمام يتزايد بما جاء به هؤلاء العرب من مفاهيم دينية جديدة تُغاير المفاهيم اليهودية والمسيحية المنتشرة في تلك البلاد حتى ذلك الحين، ومن هنا بدأ الأوروبيون في السعي وراء معرفة ما جاء به هؤلاء القادمون من قلب صحراء شبه الجزيرة العربية، لأجل تفسيره التفسير الذي يحقق مصالحهم وحاجاتهم لأجل دحض ما جاء به هؤلاء الجُدُّد على الخريطة العالمية، ومن ثم تمت ترجمة معاني النص القرآني إلى الكثير من اللغات، واحتوت النصوص المترجمة على تشويه عن وعي أحيانًا، وعن غير وعي أحيانًا أخرى، ولكن هذه الأنواع من الترجمة حملت بداخلها أهداف وأبعاد سياسية بالدرجة الأولى. ولأن القرآن يمثل جوهر الإسلام، فلم تكن محاولة الغرب تفسير وترجمة معاني القرآن الكريم إلا محاولة لتفسير الإسلام، ومن ثم الشرق.
غير أن دراسة ترجمات القرآن الكريم المختلفة، تكشف لنا عن أن هناك تحولات في تفسير النص القرآني اختلفت باختلاف الحضارات والأزمان، التي تمت فيها الترجمة، وذلك بقصد أن تفي بأغراض مُعينة، ذلك أن كل مُترجم هو أيضًا مُفسر، ولا يمكن لتفسيره أن يجئ محايدًا أو موضوعيًا، ولهذا جاءت كل ترجمة محكومة بقيود اجتماعية وحضارية وسياسية معينة، فقد تمت مثل هذه الترجمات من أجل خدمة مصالح وأهداف معينة، ويتضح ذلك من التغيرات التي طرأت على موقف الغرب من القرآن الكريم والإسلام، عبر العصور التاريخية المتطورة.
ففي العصور الوسطى، التي شهدت ظهور الإسلام كقوة سياسية على المسرح العالمي، ثم زحف الإمبراطورية الإسلامية تجاه قارات ثلاث في وقت واحد، وفي فترة زمنية قصيرة نسبيًا (القرنين السابع والثامن الميلاديين) بدأت تظهر إشكالية موقف أوروبا من الإسلام، كنتيجة لوصول الفتوحات الإسلامية لقلب أوروبا الشرقية، ثم تطورت تلك المواقف إلى مرحلة الصدام عندما فتح المسلمون أسبانيا في القرن الثامن الميلادي، وكان أول رد فعل للمسيحيين الأسبان أساسه عدم معرفتهم بالإسلام، فقد بدا الإسلام للمسحيين في العصور الوسطى نظامًا حياتيًا ومُجتمعيًا ودينيًا مختلفًا، وأصبح بالنسبة لهم تحديًا، ثم أصبح يمثل مشكلة عميقة الأغوار، وصارت معرفة بعض الحقائق عن تلك المشكلة من الأهمية بمكان.
ولما تغلغل الإسلام بين الناس، عمد رجال الدين المسيحي، بصفة خاصة، إلى مناقشة تعاليمه ودحضها، ولهذا لا نتعجب أن تمت أول محاولة لترجمة القرآن الكريم في أسبانيا وعلى يد رجال الدين أنفسهم، فقام الراهب بطرس المبجل Peter the Venerable بالمحاولة الأولى لإزاحة الجهل الغربي عن القرآن الكريم، في القرن الثاني عشر الميلادي، بهدف إعلام المسيحيين الغربيين بالإسلام، كمحاولة في مساعدة الإرساليات التي ذهبت لإعادة تنصير الأهالي في الأراضي التي أُعيدت للمسيحية، ولهذا عند زيارته لبعض الأديرة (دير كلوني) في عامي 1141 و1142، قام بإعداد خطة لدراسة القرآن الكريم، وترجمة الكتاب المقدس للمسلمين، ورغم ادعائه أنه لم يُغير شيئًا من المعنى؛ إلا لكي يوضح النص، إلا أنه قام بحذف أجزاء بأكملها، وأخطأ في الترجمة، وأعاد ترتيب السور، وأضاف من عنده ليشرح السور المنفصلة ويصلها بعضها البعض، واستخلص نتائج لا وجود لها ولا صلة بينها وبين القرآن الكريم البتة، ولم تكن هذه الترجمة أبدًا، ترجمة مخلصة صادقة، وكاملة للنص القرآني، ورغم عدم تداولها بسبب عدم ظهور الطباعة، إلا أنها ظلت الترجمة الوحيدة حتى القرن الرابع عشر الميلادي، حينما قام “ريمون ليل” بترجمة أخرى للقرآن إلى اللغة اللاتينية، إلا أنه بعد العثور على ترجمة أخرى باستانبول القديمة بتركيا في مكتبة القديسين المبشرين بالمسيحية بعنوان (القرآن أبيتوم Alcorani Epitome)تبين أن ترجمة دير كلوني لم تكن الوحيدة.
وكانت هناك محاولة ثانية لترجمة معاني القرآن الكريم بالأندلس في طليطلة، حيث قام (دون أبراهام) بناء على طلب الملك الفونس العاشر (1252 – 1248) بترجمة سورة المعارج إلى اللغة الأسبانية، ومن وقتها أخذت الكنيسة الكاثوليكية تهتم بما جاء به الإسلام، ليس بهدف التعرف على هذا الدين الجديد ودراسته موضُوعيًا، ولكن بغرض دحض هذا الدين الجديد، ومحاربة أفكاره وقيمه، ومفاهيمه، وإقناع الناس بأن الرسول محمد الذي جاء بهذا الدين الجديد ليس نبيًا، وإنما قام بتأليف القرآن، بعد أن تتلمذ على أيدي بعض الرهبان والأحبار المسيحيين، وأخذوا يصورون الرسول محمد بأنه المسيح الدجال، مُدعي النبوة، وساعده على تأليف القرآن راهب نصراني خبير بفحوى الإنجيل والتوراة.
ثم خفقت الاهتمامات الجادة للإسلام في الغرب خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، بسبب الصراعات الداخلية في أوروبا نفسها، بينما كانت إمبراطورية الإسلام قد اتسعت رقعتها إلى حدود الصين والهند، بعيدًا عن أوروبا، الأمر الذي جعل الأوروبيين لا يعودون يرون فيه القوة الخطرة التي تهدد أوروبا، إلا أن خطر الإسلام على أوروبا عاد مرة أخرى، وازداد هذه المرة اقترابًا على يد العثمانيين، الذين أصبحوا مُحكمين قبضتهم على البلقان، وسقطت القسطنطينية عام 1453، وباتت المجر مُهددة، ومن ثم بات على الأوروبيين أن يقوموا باحتواء هذا الخطر الإسلامي العائد هذه المرة بقوة، والعمل على تحجيمه، فظهرت عدة محاولات لترجمة القرآن الكريم، قام بها كل من: جون السيجوفي John Of Segovia، ونيكولاس القوصي Nicholas Of Cusa، واينياسس سيلفياس Aeneasis Silvius، وجون جيرمين Jean Germain.
وبعد اختراع الطباعة عام 1450، انتشرت ترجمات القرآن، بلغات أوروبية مختلفة، ومنذ ذلك الحين تتابعت الترجمات، فظهرت الترجمة الإيطالية عام 1547، التي كانت أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم كاملا إلى لغة أوروبية حديثة.
وعاد الإسلام في القرن السادس عشر قوة عالمية، إذ شهد هذا القرن ثلاث إمبراطوريات إسلامية كبيرة: العثمانيون في آسيا الصغرى وشرق أوروبا، والصفويون في إيران، والمغول في الهند، وكان خطر العثمانيون هو أشد الأخطار بالنسبة لأوروبا المسيحية، وكان ارتقاء السلطان سليمان القانوني (1520-1566) العرش بداية لسلسلة هجمات عثمانية على المجر والنمسا، فتم له فتح بلغراد عام 1521، وحوصرت فيينا عام 1529، وبحلول عام 1541، كان جزء كبير من المجر تحت الحكم العثماني، وفي عام 1542 بات سقوط ألمانيا قاب قوسين أو أدنى، الأمر الذي دفع الكثير من الكُتاب ورجال الدين الأوروبيون إلى الاعتقاد بقرب نهاية العالم.
ومنذ منتصف القرن السابع عشر بدأ اهتمام بعض الدبلوماسيين الأوروبيين الذين عاشوا في البلاد الإسلامية بدراسة اللغة العربية وبدراسة كتاب المسلمين في بلاد الشرق، وبدأت تظهر مؤلفات جديدة، وبرزت ظاهرة أدبية أطلق عليها فيما بعد “الاستشراق Orientalisme” فظهرت عدة ترجمات للقرآن الكريم باللغة الفرنسية، ولعل أولها ترجمة (أندريه دو ريير) عام 1647، الذي كان قنصلا لفرنسا في مصر بين أعوام (1647-1775).
وفي القرن الثامن عشر ظهرت بفرنسا واحدة من أكثر الترجمات الفرنسية انتشارًا وشهرة، وهي ترجمة الكونت (دي بولتفيليه)، والتي صدرت عام 1730، تلك الترجمة التي انتقلت إلى معظم اللغات الأوروبية بالرغم من عدم دقتها العلمية، ولا أمانتها التي ندد بها بعض علماء عصر التنوير، وخاصة في إنجلترا، وفي عام 1783 ظهرت بفرنسا ترجمة مهمة بالفرنسية لكلود سافاري عام 1783، الذي عاش في مصر خمس سنوات ليتعلم اللغة العربية ويُترجم القرآن، وكانت هذه الترجمة الوحيدة التي نقلت عبقرية الأسلوب والصيغ النبوية للنص الأصلي، وظهرت أول ترجمة إلى اللغة الإنجليزية على يد ألكسندر روس عام 1648، نقلا عن ترجمة (أندريه دو ريير) الفرنسية، ومن ثم لم تكن هذه الترجمة دقيقة، واحتوت على أخطاء كثيرة، ومُغالطات واضحة عن الإسلام.
وفي القرن العشرين ظهرت كثير من الترجمات للقرآن الكريم باللغات الأوروبية، واتسم أغلبها بالحيادية، وتخلص المترجمون الأوروبيون من عقدة «دحض ومحاربة الدين الإسلامي»، وتشويه صورة الرسول محمد ، بل حاول أغلبهم نقل النص القرآني بأمانة وصدق، ودقة علمية ولغوية، مع بعض الشروحات الجانبية للمزيد من التوضيح. وفي أواخر القرن ظهرت أحدث الترجمات للمترجم الفرنسي المشهور (جاك بيرك) عام 1990، وترجمة الكاتب اليهودي (أندريه شواركي) في العام نفسه، وقد أحدثت كل منها ضجة في العالم الإسلامي والغرب، وخاصة بالقاهرة، حيث أمر شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق بتشكيل لجنة علمية عام 1995؛ لمراجعة ترجمة (جاك بيرك)، وخلصت اللجنة إلى أن هذه الترجمة غير أمينة واعتبرتها مُحرمة، واتهمت مؤلفها بالجهل باللغة العربية، بالرغم من أنه كان عضوًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة لمدة عشرين عامًا.
وربما أحدث ذلك صحوة من جانب المترجمين المسلمين فشهد القرن العشرين بعض الترجمات من قبل المسلمين، والتي بدأت عام 1936؛ عندما أصدر مجلس الوزراء المصري قرارًا رسميًا بموافقته على ترجمة معاني القرآن الكريم ترجمة رسمية تقوم بها مشيخة الأزهر بمساعدة وزارة الأوقاف العمومية، وذلك وفقًا لفتوى جماعة كبار العلماء أساتذة كلية الشريعة، وكانت مشيخة الأزهر برئاسة محمد مصطفى المراغي، الذي كان أيضًا رئيس جماعة كبار العلماء التي أصدرت قرارها بالموافقة على ترجمة معاني القرآن الكريم. وكانت هذه أولى المحاولات من قبل المسلمين لأجل ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية، ثم الألمانية، والأسبانية، والفرنسية، والإيطالية، وفيما بعد لمعظم لغات العالم.
وفي هذا الإطار يسعى محمد همام فكري في مؤلفه المعنون (أوائل ترجمات معاني القرآن الكريم في اللغات الأوروبية)، إلى التعريف ببعض النماذج من الترجمات التي تهجع بسلام على أرفف مكتبة التراث العربي والإسلامي التابعة لمؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، مُقسمًا إياه إلى أجزاء تبعًا للغات التي تُرجمت لها، مُراعيًا في داخلها الترتيب التاريخي تبعًا لتاريخ الطباعة الموجود على غلاف الترجمة، فعرض للترجمات اللاتينية، باعتبار أن اللغة اللاتينية كانت أول لغة يُترجم إليها القرآن الكريم، ثم الفرنسية، والإيطالية والأسبانية والإنجليزية والهولندية والألمانية، واختتم بترجمات المسلمين، وترجمات القاديانية إلى اللغة الإنجليزية باعتبارها أصبحت اللغة الأكثر انتشارًا في العالم.
ومؤلف الكتاب، هو مساعد مدير مكتبة التراث العربي والإسلامي، ومدير مركز حسن بن محمد آل ثاني للدراسات التاريخية، ومدير مركز قطر الفني، وله أكثر من 120 مقال ودراسة منشورة بالعديد من المجلات العربية في مجالات: الرحالة الغربيون في الجزيرة العربية، والتراث العربي والإسلامي، وتبسيط العلوم، والفن والثقافة، والعلوم البيئة، هذا بخلاف عروض الكتب الكثيرة وخاصة كتب سلسلة عالم المعرفة.
وسبق له أن قام بتقديم نماذج من المخطوطات العربية التي تقتنيها مكتبة التراث العربي والإسلامي في كتاب بعنوان (كنوز من التراث العلمي العربي في أوروبا)، وكتب عن (ابن سينا: أمير الأطباء وفيلسوف الحكماء). كما حقق كتاب (الرحلات الحجازية)، الذي جمع بين دفتيه مؤلفات اللواء محمد صادق باشا. وبالإضافة إلى ذلك فهو أديب وقاص، له مجموعتان قصصيتان منشورتان: (الخروج من الهامش)، و(يا شجرة التوت). وهو عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو اللجنة التنفيذية لاجتماع إعلان وثيقة الشارقة (ذاكرة العالم العربي)، وعضو الشبكة الإقليمية للإعلاميين البيئيين العرب (اليونيب)، وعضو لجنة تحكيم المسابقة السنوية لبرنامج لكل ربيع زهرة، التي ينظمها مركز أصدقاء البيئة بالدوحة، وعضو الصالون الأدبي للقصة القصيرة بنادي الجسرة الثقافي والاجتماعي بالدوحة بإمارة قطر.
ويؤكد من خلال مُؤلفه هذا على أن تاريخ أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم يعود إلى سلمان الفارسي، الصحابي الجليل، الذي «يُقال أنه ترجم القرآن الكريم إلى اللغة الفارسية في عهد الخلفاء الراشدين»، ومن بعدها تُرجم إلى معظم اللغات الأسيوية والأوروبية والأفريقية، مشيرًا إلى أن معرفة الأوروبيين بالقرآن الكريم، قد تمت على يد الرهبان، «عندما أعلنوا الحرب على الإسلام بحجة الدفاع عن المسيحية ضد الإسلام الظافر»، فاتجهوا إلى محاربته «بإظهار أنه ليس كلام الله بل من وضع محمد بهدف زعزعة القوة الإيمانية لدى المسلمين أو الذين ينبهرون به من أبناء جلدتهم، وهو الهدف التبشيري». ثم دخل المستشرقون مجال الترجمات «محاولين أن يؤولوها تأويلا ينال من الإسلام والمسلمين، ومن تاريخهم وحضارتهم، فبذلوا جُهدًا كبيرًا لإثارة الشكوك حول الإسلام لأجل تحقيق أهداف استراتيجية لضربه وتشويهه، بترديد أنه انتشر بحد السيف وليس بالقرآن»، ومن ثم خرجت هذه الترجمات غير منصفة، وغير أمينة، وتفتقد إلى الدقة العلمية واللغوية، والموضوعية.
وقد أوضح أن الترجمات الأوروبية لمعاني القرآن الكريم قد مرت بأربع مراحل متداخلة، بدأت المرحلة الأولى في القرن الحادي عشر الميلادي، وامتدت إلى القرن الثاني عشر، وتم خلالها ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية، أعقبتها مرحلة الترجمة من اللاتينية إلى اللغات الأوروبية الحديثة، ثم كان دخول المستشرقين لهذا المجال أن أوجد مرحلة جديدة تمت خلالها الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأوروبية مباشرة، وأخيرًا مرحلة دخول المسلمين ميدان الترجمة، وعلى هذا فقد شهدت العديد من اللغات الأوروبية الحية ترجمات لمعاني القرآن الكريم، فقد ترجمت معانيه إلى اللغات: اللاتينية، الإيطالية، الألمانية، التشيكية، الهولندية، الفرنسية، الإنجليزية، اليونانية، اليوغسلافية، البلغارية، الدانمركية، الألبانية، الفنلندية، النرويجية.
وقبل الخوض في التعريف بالمترجمين وبسيرهم الذاتية ومسيرتهم العلمية، وعرض ترجماتهم وما قاموا به وبذلوه في سبيل الترجمة، والنقض الذي وجه لترجماتهم، استهل بتوضيح رأي علماء المسلمين في ترجمة معاني القرآن الكريم، مُوضحًا أن هناك اتفاق بين جميع علماء المسلمين على تحريم ترجمة القرآن الكريم اللفظية، لاستحالة تحقيقها، ولقصورها عن توصيل الإعجاز اللفظي. أما ترجمة المعاني فقد اختلفوا فيها فالبعض حرمها والبعض أجازها، «حتى لا يبقى القرآن الكريم محجوبًا عن المسلمين في الأمم غير العربية»، إلا أنه من المؤكد أنه كتاب الله المتعبد بتلاوته لفظيًا وليس معنى، فلا تجوز الصلاة بالمعنى، ولا تجوز التلاوة بالمعنى.
وعرض لآراء بعض علماء المسلمين وموقفهم من ترجمة معاني القرآن الكريم، حيث كان الشيخ محمد مصطفى المراغي أول من أثار هذا الموضوع مع مجلس الوزراء المصري عام 1936، وتبعه على نفس النهج الشيخ محمد فريد وجدي، والشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ محمد شاكر، والدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور حسن المعايرجي، ثم تناول جهود بعض المؤسسات الإسلامية التي تصدت لترجمات معاني القرآن الكريم، كرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ومركز أبحاث التاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باستانبول (إرسيكا)، وأوضح دور الشيخ حسن بن محمد بن علي آل ثاني مؤسس المكتبة في جمع هذه الترجمات من مختلف أنحاء أوروبا والعالم، وجهوده التي بذلها لأجل أن تقتني دولة قطر النسخ الأولى الرئيسة لهذه الطبعات التي تضمنت أولى الترجمات الأوروبية لمعاني القرآن الكريم للغات الأوروبية.
واستهل الكتاب بعنوان (الترجمات اللاتينية)، حيث تناول أول ترجمة قام بها رهبان دير كلوني، عام 1143، تلك الترجمة التي ظلت رهن الأرفف، متداولة مخطوطة فقط، حتى أقدم مارتن لوثر وفيليب ميلانختون عام 1543 على نشرها، وكتابة تقديم لها، ثم ظهرت طبعتها الثانية بعناية ببلياندر في بازل عام 1550، وعرض لأول تفسير للقرآن الكريم باللاتينية للأب دومينيك جرمين عام 1660، وترجمة الأب لودفيكو ماراكيوس ميراتشي التي طبعت عام 1691 بروما وعام 1698 بمدينة بادوا الإيطالية، وترجمة جيوركيوز باور الجزئية، والمطبوعة في نورمبرج عام 1775، وطبعة إبراهام هنكلمان للنص العربي بمقدمة لاتينية في هامبورج عام 1694، والتي حظيت بالتقدير من جانب المتخصصين مدة تزيد على قرن من الزمان بالرغم مما تعرضت له من طعن وهجوم.
وعندما تناول (الترجمات الفرنسية) لمعاني القرآن الكريم، أوضح أن هذه الترجمات قد مرت بثلاث مراحل رئيسة، مرحلة الترجمة من اللاتينية إلى الفرنسية، وضمت ترجمة أندريه دو ريير التي صدرت طبعتها الأولى في باريس عام 1647، وتوالت طبعاتها بعد ذلك حتى بلغت خمس طبعات آخرها عام 1806، ومرحلة الترجمة من العربية إلى الفرنسية مباشرة، وضمت ترجمة كلود ايتيان سافاري المطبوعة في باريس عام 1783، وترجمة كازيميرسكي التي ظهرت لأول مرة عام 1840، وتقتني المكتبة نسخة من طبعتها الثانية المنشورة بباريس عام 1852، وترجمة ريجيس بلاشير في ثلاثة أجزاء ظهر الجزء الأول منها عام 1947، والثاني 1948، والثالث 1949، وترجمة جوزيف شارل ماردروس بباريس عام 1926، وتضمنت المرحلة الثالثة مرحلة دخول المسلمين ميدان الترجمة إلى الفرنسية، كترجمة فاطمة زايدة المطبوعة في لشبونة عام 1864، والتي مالت إلى التفسير الشخصي في بعض الأحيان، وترجمة الدكتور صبحي الصالح سنة 1979، وأخيرًا ترجمة زينب عبد العزيز في أوائل القرن العشرين.
وكغيرها من الترجمات الأوروبية اعتمدت (الترجمات الإيطالية) على الترجمة اللاتينية كأصل للترجمة، وتعد ترجمة آريفابني المنشورة عام 1547 الترجمة الأولى للقرآن الكريم باللغة الإيطالية، ثم كانت ترجمة كارل ألفونسو نللينو، المطبوعة في ليبزج 1893، بعنوان (مختارات من القرآن العربي) المحاولة الثانية لترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإيطالية، وهي ترجمة غير كاملة إذ تضمنت 29 سورة فقط.
وتحت عنوان (الترجمات الأسبانية) أوضح أن أسبانيا كانت مهد الاستشراق، وأساس جميع المدارس الاستشراقية الأوروبية، وفيها أُنجزت أول ترجمة لمعاني للقرآن الكريم في أوروبا في بداية القرن الثاني عشر الميلادي، بدير كلوني، وتناول الكاتب بالعرض أحد المصادر– على حد تعبيره- «النادرة التي شنت هجومًا على القرآن من منطلق النظرة العدائية لترجمة دير كلوني»، وهي ترجمة لوبي أوبيرجون التي تعود إلى القرن السادس عشر الميلادي، وتقتني المكتبة نسخة منها مطبوعة عام 1560، ومن الواضح أنها لم تكن الطبعة الأولى، حيث تضم المكتبة البريطانية نسخة أخرى مؤرخة في 1555، والتي توضح مقدمتها أنها موجهة إلى القسيسين الأسبان الذين يدعوهم واضعها إلى توعية المتحولين إلى الإسلام.
أما (الترجمات الإنجليزية)، لمعاني القرآن الكريم، فتنقسم إلى ترجمات كاملة لمعاني القرآن الكريم، وترجمات لبعض السور، ومن الترجمات الكاملة ما هو مرتب حسب ترتيب المصحف الشريف المأثور، ومنها ما هو مرتب حسب النزول ظنًا أن الترتيب النزولي يبين التطورات الفكرية للرسول صلى الله عليه وسلم على حد زعمهم. وهذه الترجمات بدأت في أواخر القرن السابع عشر الميلادي بالترجمة التي قام بها ألكسندر روس عام 1688، نقلا عن الترجمة الفرنسية لدو ريير، واعتبرت أول ترجمة للغة الإنجليزية للقرآن الكريم، وتوالت الترجمات الإنجليزية التي استند الكثير منها على الترجمة اللاتينية التي قام بها ميراتشي عام 1668، ثم ظهرت في القرن الثامن عشر ترجمة جورج صمويل سيل عام 1734، التي عُدت أشهر ترجمة على الإطلاق، بالرغم مما شابها من الغموض في فهم معانيها باللغة الإنجليزية، ربما بصورة متعمدة بهدف تشويه الكتاب المقدس للمسلمين. وإلى جانب هذه الترجمة وجدت ترجمات أخرى منها ترجمة رودوبل عام 1861، وترجمة إدوارد هنري بالمر الشهير بعبد الله أفندي التي طبعت طبعتها الأولى بأكسفورد ولندن في جزأين عام 1880، وترجمة ريتشارد بل في عام 1937، وترجمة آرثر جون آربري عام 1955 في مجلدين، والتي لم تكن ترجمة حرفية بل تفسيرية تعطي المعنى في أسلوب رشيق جميل، وترجمة السير وليم مُوير عام 1878، وترجمة جون ميدوس رودويل المطبوعة بلندن عام 1876، وترجمة اليهودي من أصل عربي عراقي نسيم يوسف داوود التي نشرت لأول مرة عام 1956 ثم طبعت أكثر من 15 طبعة آخرها عام 1990، لكن ما يؤخذ على هذه الترجمة أن صاحبها أطلق لنفسه العنان ليُعبر عن فهمه للنص.
أما (الترجمات الهولندية) فقد أُخذت عن الترجمة الفرنسية التي قام بها دو ريير، وكان أول ظهور لترجمة كاملة لمعاني القرآن الكريم، باللغة الهولندية عام 1641، قام بها يان هندريك جلازيماكر، وتقتني مكتبة التراث العربي والإسلامي نسخة من طبعتها الثانية في أمستردام 1685، ونسخة أخرى طبعت عام 1721، وهذه الترجمة لا تخلو أيضًا من التهجُم على الإسلام.
أما أقدم (الترجمات الألمانية) فقد نشرت في برلين عام 1701 بعنوان (مختارات من القرآن الكريم بالعربية والفارسية والتركية واللاتينية) قام بنشرها أدريا أكولوثوس أستاذ اللغات الشرقية في براتسلافا، ثم قامت محاولة أخرى على يدي دافيد فريدرش لترجمة معاني القرآن الكريم من العربية إلى الألمانية مباشرة عام 1772، بعنوان (الكتاب المقدس التركي الإسلامي)، وفي العام التالي ظهرت ترجمة أخرى عن الأصل العربي قام بها قربوريش أبر هرد بعنوان (القرآن أو التشريع عند المسلمين لمحمد بن عبد الله مع بعض الدعوات والصلوات القرآنية الاحتفالية)، أما الترجمات الألمانية التي تضمها مكتبة التراث العربي والإسلامي فهي، ترجمة جوستاف ليبرشت فلوجل المطبوعة في ليبزج عام 1841، واشتملت على النص العربي للقرآن والترجمة بخط اليد، وترجمة فريدريش ديتريشي في صورة معجم عربي ألماني للقرآن الكريم نشر في ليبزج عام 1894 الذي يقدم النص العربي ومقابله ترجمة معانيه بالألمانية، وترجمة إجناتس جولدزيهر المطبوعة في مطبعة (بريل – ليدن – هولندا) عام 1920، بعنوان (تاريخ تفسير القرآن)، وترجمة جوستاف فيل المعنونة (مقدمة نقدية للقرآن) والمنشورة عام 1844، والتي وضع فيها نظام نقدي للقرآن الكريم عُرف (بمنهج الفترات الأربع) أعاد فيه ترتيب القرآن الكريم وفق وقت النزول، مقسمًا حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى أربع فترات.
ودخل المسلمون ميدان ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية في القرن العشرين، وأهم ما يميز ترجماتهم أنها كاملة ومطابقة لترتيب المصحف الشريف بالرسم والترتيب العثماني، وموضوعية وعلمية حيادية، ولعلها كذلك تنقسم إلى ترجمات كاملة، وأخرى جزئية، وأهم وأشهر هذه الترجمات: ترجمة عبد الله يوسف علي التي طبعت طبعتها الأولى في لاهور عام 1934، وترجمة محمد مرمادوك بكثال المنشورة بلندن عام 1969، وأثنت عليها لجنة من علماء المسلمين بأنها خير الترجمات لحرصه على مدلولات الألفاظ وتمكُنه من لغته الإنجليزية، وترجمة الرحالة النمساوي محمد أسد التي يؤخذ عليها تأثره بمنهج التأويل في تعليقاته وترجمته لبعض الآيات التي تنطوي على معجزات.
واختتم الكتاب بـ(الترجمات القاديانية)، والتي جاءت مُحرفة وبعيدة عن المعنى تمامًا لخدمة أهداف ومعتقدات القاديانية، ولهذا تضمنت تأويلات فاسدة ومخالفة لإجماع علماء المسلمين، ومن الترجمات القاديانية ذائعة الصيت ترجمة محمد علي اللاهوري المطبوعة في ووكنج بإنجلترا عام 1916، والتي جاءت ترجمة تفسيرية تعتمد على مبادئ القاديانية الباطلة، وترجمة محمد ظفر الله خان المطبوعة في لندن عام 1971، وأعيد طبعها عام 1991 في مطبعة كيرزون، وترجمة ميرزا بشير الدين محمود أحمد المطبوعة في لندن عام 1949، وترجمة خواجة كمال الدين المعنونة (التفسير العصري للقرآن الكريم) والمطبوعة في لندن عام 1948، وتضم النص القرآني بالخط العربي ثم يليه المعنى بالحروف اللاتينية، وعلى الحاشية تفسير عام لمعناها حسب مرئيات المترجم ومعتقداته الخاصة.
وتضمن الكتاب قائمة بالمصادر والمراجع العربية والأجنبية التي اعتمد عليها الباحث، وكذلك ترجمة إنجليزية لملخص الكتاب، وما يضُمه من مختارات من أوائل ترجمات معاني القرآن الكريم في اللغات الأوروبية، وبقي أن أشير إلى أن الكتاب قام في معظم جوانبه على المصادر الأولية بلغاتها الأوروبية، ومن الجدير بالذكر أن النتائج التي توصل إليها الباحث تُعد إضافة لحقل تاريخ ترجمات معاني القرآن الكريم، كما أنه التزم بالموضوعية والحيدة، الأمر الذي يجعل كتابه عمل علمي قيم، يُعد إضافة للمكتبة العربية في حقل العلوم الإنسانية، وخدمة للباحثين في مجال الدراسات القرآنية.
(المصدر: مجلة فكر الثقافية)