مقالاتمقالات مختارة

عذاب القبر .. وإشكاليات منهج الاستدلال التنويري

بقلم يونس نظيف

إن الإشكالية التي يعاني منها جُلّ دعاة التنوير –إن لم نَقُل كلَّهم، هي إشكالية منهجية بالدرجة الأولى، إشكالية كبيرة جداً في التعامل مع النصوص الشرعية وفهمِها وِفق ضوابط الشرع والاستدلال المنطقي الصحيح، ولعل الحلقة التي تم التَّطرُّق فيها لعذاب القبر مؤخراً – على قناة تيلي ماروك – تُعَدّ من أكبر الشواهد على هذه الإشكالية التي يعاني منها دعاة التنوير حديثاً وقديماً، فقد أبانت لنا هذه الحلقة بجلاء بروز هذه الإشكالية التي نحن بصدد مناقشتها، إذ أن القضية ليست متعلقة بعذاب القبر ولا بغيره من العقائد التي تؤمن بها الأمة الإسلامية، بقدر ما هي مسألة خللٍ كبيرٍ في المنهج الاستدلالي عند التنويريين عموماً. ودرءاً للإطالةِ في هذا التقديم، نسبُرُ أغوار الموضوع عسى أن تتضح من خلاله إشكالية المنهج لدى دعاة التنوير.

في معرض كلام ضيف الحلقة حول عذاب القبر، أفصح عن سبب تكذيبه لهذه العقيدة وهو انعدام وجود أي دليل على صحتها -حسب زعمه، ولكن السؤال المطروح هنا هو : ما طبيعة الدليل الذي يرتجيه للاستدلال على وجود عذاب القبر؟ يجيبنا التنويري قائلاً: (أنا أطرح أمراً غيبيّاً كبيرا، أريد مصطلحَ عذاب القبر بهذا اللفظ – في القرآن -)، وهو ما يؤكده في كلام آخر: (أعطني نصاً واضحاً صريحاً ذُكِر فيه عذاب القبر باللفظ).

فالإشكالية ليست في وجود دليل من عدمه، لكن في طبيعة الدليل نفسه، وجود عبارة [عذاب القبر] صراحةً في القرآن الكريم دون سواه، وهو للأسف مطلب لو التزم هذا المعترض به لما بَقِيَ له من الإسلام إلا الاسم، فليس من الضروري أن يَذكُر القرآن الكريم كلّ شيء لفظاً، خذ مثال الصلاة، التي هي في مراتب الدين أكبر أهميةً من عذاب القبر نفسه، والتي هي عماد الدين وروحه، هل ذُكِرت مواقيتها وكيفيتها في القرآن الكريم؟ لا، مناسك الحج، مقادير الزكاة، تطبيق الحدود…؟ إذ لو أَلزَم صاحبنا التنويريُّ نفسَه بهذه القاعدة لما بَقِي له من الدين شيء غيرُ أصول الإسلام المذكورة في القرآن وأسماء لا تدل على معنى ولا مدلول، فمِن أين له بالتنزيل والتطبيق لكليات الدين، والتي جاءت السُّنّةُ لبيانها؟!!

وإن حَصَر الأستاذ إشكاليته في مصطلح “عذاب القبر” فهذا شأن آخر، نقول له آنَئِذٍ كيف يُفسَّرُ قولُه تعالى عن آل فرعون: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖوَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر 44-45] في ظل التراتبية التي ختمها الله بيوم القيامة، فتأمل جيداً أيها القارئ، فالله في هذه الآية أخبر أنهم يُعذَّبون غُدوّاً وعشيّاً ثم يوم القيامة سيدخلهم النار – جنهم -، فأين آل فرعون الآن وأين عرضهم على النار قبل يوم القيامة؟ ألن ينحصر الأمر في فترة موتهم؟ فانتبه…!

لكن الملفت للنظر هنا، هو اعتراض ضيف الحلقة على وجود هذا العذاب بقوله: (متى يكون العذاب؟ العذاب يكون بعد الحساب)، غير أنّ العجيب في الأمر أيضاً أنّ قبل هذه الكلمات ببضع ثوان قال: (كل آيات القرآن التي تتحدث عن الحياة بعد الموت، تتحدث عن نوعين من العذاب، لا تتحدث عن عذاب القبر، “لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ۖ ” ) فلاحظ أيها القارئ هذا التناقض الواضح، كيف ينفي وجود عذاب قبل يوم الحساب ثم يثبت أن الدنيا فيها عذاب؟!! بل كيف نتعامل مع اﻵية السابقة بخصوص آل فرعون فهي ذكرت عذاباً بعد الموت وقبل الحساب؟! وهذا مأزقٌ منهجي ظاهر في مهارة الجمع بين النصوص الشرعية.

أيضاً من بين اعتراضاته قال فيما معناه: (لكي يتعذب الإنسان في القبر يجب أن يكون حياً، وهنا نتحدث عن حياة أخرى وهذا خطأ لأن الحياة في القبر لا زمن فيها)، وأيضاً مما جاء في نفس الصدد – فيما معناه: (كيف يُعذَّب في القبر من مات في البحر أو انفجر، لأنّ العذاب لا يكون إلا على الجسد؟). لكن هنا يناقض الأستاذ المُتَنوِّر نفسه مرةً أخرى:
– إذ ما المانع من وقوع العذاب على الروح دون الجسد؟ فليس من الضروري أن يكون المرء حياً حتى يشعر بالعذاب، هذا فرض لا نعلم كيف استنتجه المُعترض، أوليس الله على كل شيء قدير؟ ثم، من بين الازدواجية التي يتعامل بها هذا المعترض – هدانا الله وإياه للحق – هي مسألة الغارق والمُمَزَق أشلاء، إذ لنا أن نسأل: كيف سيبعثه الله من قبره وهو بدون قبر؟!! ونفس الجواب الذي سيجيبنا به الأستاذ هنا سنُجيبه به نحن أيضاً بخصوص اعتراضه.

– وأين ذُكِر في القرآن الكريم – صراحةً – أنّ القبر لا زمن فيه؟ كما طلب منا صراحةً وجود عذاب القبر؟
بل إن اﻵية التي يَستنبط نفسُه منها هذا الأمر هي في الحقيقة ضد استدلاله ومُنقلِبةٌ عليه، قال سبحانه وتعالى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) [الأحقاف 35]، فلو كان الزمن متوقفاً لما شعروا بهذه الساعة أصلاً، ولكان شعورهم أنهم بُعِثوا مباشرة بعد موتهم دون الشعور بهذه الساعة ابتداءً.
كذلك ممَّا اعترض به صاحِبُنا فيما معناه: (لو كانت قبورهم حفرة من حفر جهنم لما تحسروا على بعثهم، ولماذا يتفاجؤون بمصيرهم وقد علموه في القبر؟).
لِمَ لا يكون تحسرهم على بعثهم بسبب ما عاينوه في القبر؟ فعذاب القبر ليس إلا بدايةً فقط والعذاب الأكبر هو يوم القيامة، فيكون التحسر والندم على بعثهم لأنهم عِلِموا في قبورهم أنّ مصيرهم هو العذاب الأكبر. ولتبيين حجم النعيم والعذاب الأخروي مقارنةً بنظيره الدنيوي، نستحضر هنا الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيُصبَغ في النار صَبغة، ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيُصبَغ صَبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط”.
وهذا الجواب يُمكن أن يُستنتج ببساطة – إذا أمعنَ العاقلُ النظرَ – من كلام هذا المعترض نفسه، إذ يقول بعد بِضع دقائق: (لماذا يظن أنّه ملاقٍ حسابه، هو في القبر قد عرف إن كان من الصالحين أم إن كان من الطالحين)، وعليه فإن هذا التحسر بسبب علمه بمصيره الأكبر، كما سبق وأشرتُ لذلك.
ثم يسترسل الأستاذ في اعتراضاته على عذاب القبر، لكن هذه المرة على السنة النبوية، والتي يُمكننا إجمالها في اعتراضين:
– أحاديث عذاب القبر هي أحاديث آحاد: رواية واحد عن واحد.
وهذا قول غير صحيح البتة، لا من جهة الدعوى ولا من جهة تعريف حديث اﻵحاد نفسه.
إذ أن عذاب القبر من الأمور المتواترة – معنوياً – عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحسبنا فقط كتاب اﻹمام البيهقي رحمه الله (إثبات عذاب القبر) فقد ذكر رحمه الله أحاديث عن 39 صحابياً وذكر أكثر من ذلك العدد في طبقة التابعين وتابعيهم.

ثم إن تعريف حديث اﻵحاد بأنه رواية الواحد عن الواحد ليس صحيحاً البتة، بل هذا التعريف ينطبق على الحديث الغريب وهو قسم من أقسام الحديث اﻵحاد، فمثلاً الحديث المشهور – وهومن خبر الآحاد – هو رواية عن ثلاثة من الصحابة فأكثر ما لم يبلغ حد التواتر.

– سبب الرواية يهوديتين، كما أنّ النبي عليه السلام لا يعلم الغيب:
في الحقيقة لا نعلم المانع من كون سبب تحذير الأمة من عذاب القبر جاء متزامناً مع خبر اليهودية مع النبي صلى الله عليه وسلم، خصوصاً وأنّ أمور الدين كلها جاءت بالتدرج وبعد أسباب معينة، وإن كان هذا التنويري يرمي هنا إلى أنّها عقيدة يهودية غير إسلامية، فماذا تراه فاعلاً إذن بقصة أهل الكهف؟ أولم يكن السبب في وحي الله لنبيه بها سوى اليهود؟!.
وماذا عن قصة ذي القرنين، وسؤال الروح؟.نُلخقها بعذاب القبر ونعتبرها أيضاً خرافة وأسطورة؟!
أما كون النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب فهذا أمر لا دخل له هنا، فكما أوحى الله لنبيه كيفية الصلاة ومواقيتها فقد أوحى له أيضاً ما يحدث في القبر. أم أن القوم يؤمنون ببعض الكتاب – ويُعقلِنونَ – بعضَه؟!!

بعد تفكيك كلمات الأستاذ المحترَم، ظهر بجلاء مَكْمَنُ الخلل، إذ أنه يلامس إقصاء السنة والعشوائية في منهج التعامل مع النصوص، جمعاً وتأويلاً، وإن كان الأستاذ لم يأتِ بجديد، إلا أن كلامه ظهر متناقضا في كثير من فصوله وجزئياته، وهنا عقل الإنسان، كثيرا ما يقع في التناقض، وهذا في حقيقة الأمر هو مصير كل من يترك السنة جانباً أو يتعامل معها بتنقيص، كما لمس القارئ معنا ذلك في هذا المقال. ولولا أني خفتُ الإطالة – أكثر مما هو عليه – لذكرتُ كل التناقضات التي سقط فيها المتنور في تلك الحلقة.

(المصدر: مركز يقين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى