عبر من التاريخ.. كيف تسقط الدول والممالك؟
بقلم وليد شوشة
جاء في مروج الذهب للمسعودي أن بهرام بن بهرام الملك الفارسي أقبل على اللذات والصيد والنزهة، لا يفكر في مُلكه، ولا ينظر في أمور رعيته. وأقطع الضياع- الأراضي- لخواصه وخدمه وحاشيته. فخربت البلاد وقلت العمارة، وضعفت الإمارة. وذات ليلة خرج الملك بصحبة وزيره، ولما مروا على إحدى الضياع الخربة، إذا ببوم يصيح وآخر يجاوبه. فقال الملك: ما يقول هذا الطائر؟ قال الوزير: هذا بوم ذكر يطلب الزواج من بوم أنثى. فأجابته بأن لها شرط. فقال بهرام: وما هذا الشرط؟ قال: أن يُعطيها من الضياع الخربة عشرين قرية مما خرب أيام الملك السعيد! قال الملك: وما أجابها؟ قال: إن دامت أيام هذا الملك السعيد أعطيتك مما يخرب من الضياع ألف قرية، فهذا أسهل أمر سألتينيه، وأيسر أمر طلبتيه مني، وقد قدمت لك الوعد وأنا مليء بذلك.
وقد علق العلامة ابن خلدون على ذلك وعَنْون في مقدمته الشهيرة بأن الظلم مؤذن بخراب العمران. وقال: “ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور، بل الظلم أعم من ذلك، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغُصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران”. “والمصيبة في حكام يمتصون رحيق المستضعفين ويجهلون معاني التنمية فيكون الفقر العام والهدم”. كما يقول محمد الراشد.
وفي التاريخ العبر. فهذا الإمبراطور الروماني بيوس (138-161م) كان عفيفاً محترماً للقانون وحقوق الإنسان، وعمل على تخفيض الضرائب عن كاهل الشعب، وقلل من نفقات سفره، ونشر الحرية، وأحدث نهضة تنموية عامة. فعمرت البلاد، وامتلأت الخزينة بالأموال، مع كثرة ما صرفه على الأبنية والشوارع والصحة والتعليم، ولما مات وُجد في خزينة الدولة 675 مليون دينار روماني. وعلى عكسه كان أنطونيو عشيق كليوباترا قبل قرن من ذلك. قاده طموحه الدنيوي وعشقه للسلطة، وفساده إلى تقسيم الدولة الرومانية إلى دولتين غربية وبيزنطية. فكثرت في عهده الحروب، والصراع على الحكم، وسالت الدماء وضاعت الأموال. وهكذا تفعل الشهوات والظلم في التخريب والسقوط.
نظر كيف أقام النبي محمد صلى الله عليه وسلم أمة الإسلام على العدل والتقوى والمساواة. حتى نجحت هذه الأمة البسيطة الزاهدة في إنشاء دول عظيمة مرهوبة الجانب، دامت لقرون طويلة، قال فاروقها عمر بن الخطاب ذات يوم: لو أن بغلة تعثرت في العراق لسُئل عنها عمر لِمَ لَمْ تمهد لها الطريق؟ يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: “ولكن لما أصاب هذه الدولة – الدولة العباسية – أخيراً داء الترف والتنعم، وأصبح ولاة أمورها الذين حملوا عبء الخلافة الإسلامية على أكتافهم مدة من الزمن، عالة على نفوسهم وأهوائهم، ينساقون معها، ويدورون في فلكها، وصاروا فريسة الحكم الطويل والمدنية الناعمة المترفة، وتكدست عندهم أسباب الراحة والهناء، وفاضت عاصمتهم بغداد بسيل جارف من الغفلة عن الله، والتهالك على الدنيا، وعبثت بكثير من رجال العلم والفضل. ظهرت نتيجة ذلك في غارة التتر الوحشية في زمن الخليفة العباسي المعتصم بالله، وتحولت عاصمة العلم والمدنية إلى مجزرة وحشية هائلة ينتكس عند ذكرها قلم المؤرخين”.
وقد صور أحد مؤرخي القرن العاشر الهجري المفتي قطب الدين النهروالي المكي بغداد وأهلها قبل الغزو المغولي فقال: “مُرفهون بلين المهاد، ساكنون على شط بغداد، في ظل ثخين، وماء معين، وفاكهة وشراب، واجتماع أحباب وأصحاب، ما كابدوا حرباً ولا دافعوا طعناً ولا ضرباً”. وفي الهند أسس ظهير الدين بابر التيموري (1482- 1530م) الدولة المغولية على الإصلاح والتضحية والعزم والعدل. يحكي المؤرخ الهندي محمد قاسم البيجابوري عن انتصار الحاكم العادل بابر بقواته قليلة العدد على رانا سانجا:” إن رانا سانجا توجه إلى بابر يقود مئتي ألف مقاتل، وساد الذعر في جيش بابر، ومنعه قواد جيشه وأركان دولته من الوقوع في الحرب معه، وتكهن منجم البلاد محمد شريف بأن الهزيمة محتومة، ولكن بابر صمم على القتال، وارتفع هتاف الجهاد في كل جانب من جوانب الجيش، وتاب الملك عن جميع المنكرات، وقاوم رانا سانجا بعشرين ألف مقاتل وانتصر عليه وكان ذلك سنة 933هـ”. ثم تحولت الدولة إلى حمأة الرذيلة والإسفاف، والظلم، والشهوات واتباع الرغبات، وإتيان المنكرات، تجلي ذلك واضحاً في عهد محمد شاه (1719-1748م) وما كان يجري في قصره، حتى سمى باسم الماجن. وكانت النساء في بيت قمر الدين خان- وزير محمد شاه- يغتسلن بماء الورد، وكان يرسل إلى بيت أحد أمرائه وروداً وأزهاراً تساوي ثمنها ثلاثمئة روبية كل يوم”. وما هي إلا سنوات حتى سقطت الدولة.
يقول محمد إقبال: “الملوكية تتحول بين يوم وليلة إلى جنون أو مجون، وليس التيمور أو جنكيز إلا آلات جراحية تستعملها – في حينها- القدرة الإلهية”. إن للممالك والدول أسباباً للنهوض، وعوامل للسقوط والانهيار. وكم من دولة ومملكة قامت وازدهرت وعمَّرت دٌهوراً ثم سقطت. ومما يُؤسف له بأن كثيراً من الدول والممالك الإسلامية التي سقطت والتي يصدق فيها قول أبي الدرداء: ألا إن قوماً بنوا شديداً وجمعوا كثيراً وأملوا بعيداً فأصبح بنيانهم قبوراً وأملهم غروراً وجمعهم بوراً. لم ينعقد مؤتمر واحد في طول العالم الإسلامي وعرضه لدراسة عوامل السقوط هذه، أو ليجيبوا عن سؤال لماذا سقطت؟!
وكما اشتهر بأن العدل أساس الملك، فإن الظلم يهدم الملك. وما سجن العلماء وقتلهم، والزج بآلاف المظلومين في غياهب السجون في بعض الدول والممالك العربية إلا نذير شؤم وعلامة سوء. وكلما أغفل هؤلاء القادة أسباب الوهن وبالغوا في تغييب صوت العلماء والعقلاء والناصحين، خربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي الأمريكان المفتحة عيونهم وأيديهم على أموالهم. والأمر مرهون بيد هؤلاء الحكام. فمن اتقي وأحسن ونشر العدل والمساواة واحترم القوانين دام ملكه، وأحبه شعبه. ومن ظلم وبغى وأفسد ونهب سقط عرشه، وثار عليه شعبه. وما مصير مبارك في مصر، والقذافي في ليبيا، وعلى صالح في اليمن، وبن علي في تونس منا ببعيد! فهل يسمع صوتنا أصحاب الممالك، أو يقرأون التاريخ إذ فيه العبر، أو يسقطهم ظلمهم وترفهم؟!
(المصدر: مدونات الجزيرة)