عبد العزيز الطريفي.. وافق قوله عمله فاعتقلوه
بقلم محمد قادري
جميعًا سمعنا قبلَ عدّةِ أيّامٍ خبرَ المحكمة السرّيّة التي أُعدِّتْ للشّيخ سلمان العودة والتي وجّهَتْ لهُ تهمًا هي في حدّ ذاتِها تهمةٌ على أصحابِ المحكمةِ، وانتهتْ هذه المهزلةُ بالدعوةِ إلى قتلِ الشيخ (تعزيرًا)، وما جعلَني أنأى عن الكتابة عنه وعن أفضاله التي لا تخفى وجودُ الكثير من محبّيه الذين سبقوني في هذا الميدان فقالوا وأفاضوا، ولن يكونَ كلامي إلّا تكرارًا لما قالوه، فجمهورُه واسعٌ وكتبُه بين يدي القرّاء، ولكنْ هناكَ علّامةٌ يخفى اسمه عن كثيرٍ من أهل العلم والثقافةِ هو الشيخ الجليل عبد العزيز الطريفي، الفقيه، الفصيح، قويّ الحجّة، الذي يرى أنّ كتمانَ الحقِّ كقولِ الباطلِ في حقِّهِ، اعتقلتْهُ السلطات السعودية منذ عامين، وكان من أحدِ أسبابِ اعتقاله أنّه أبرأ ذمّتَه للهِ تعالى حين طلبتْ منه متّصلةٌ زوجها مُعتَقلٌ منذ أعوامٍ على أحد البرامج أن ينصحَ أهل الحلّ والعقد في السعودية وأن يبيّنَ حكمَ السّجن في الإسلامِ، ففعلَ ذلكَ ونصحَ نصيحةَ مخلصٍ وقد أبرأ فعلًا ذمّتَهُ، فذاقَ السّجنَ والبلاء.
يقولُ هذا العالم الجليل في كتابه (العلماء والميثاق): “العلماءُ ورثوا العلمَ مَن أخذَه أخذَ بحظٍّ وافرٍ، وورثوا أيضًا تبعاته، ومن تبعاته ما يحصلُ للعلماء من أذيّة وابتلاء وامتحان والوقيعة في أعراضِهم”، فحصلَ ما قالهُ في كتابِه فيه، وكأنّهُ كتبَه تذكيرًا لنفسه ومن يخشى اللهَ حقًّا من العلماء، لذا، أقول إنَّ سبيلَ الدعوةِ إلى اللهِ سبيلٌ وعرٌ كثيرُ الشّوكِ، قليلُ الزّرعُ والأجر، فمن ابتغاهُ لكي يُقالَ عنهُ عالمٌ أخزاهُ اللهُ؛ فمثلُ هذا الطريقِ لا يكونُ إلَّا ابتغاءً لمرضاةِ اللهِ، ولا يستمسكُ به إلَّا من وعى الميثاقَ الذي أعطاهُ اللهُ لعبادِه العلماء، طريقٌ صَعبٌ، جزاؤه الدرجاتُ العُليا، والمرتبةُ الأسمى، ولنا في سيّد قطب -الذي مرّت علينا ذكرى إعدامه أيضًا قبل عدّةٍ أيّامٍ- موعظةٌ وعبرةٌ، فهو الذي عاشَ من أجلِ الشّهادَتَين حين تبيّن له الحقّ، فتركَ فِكرًا هو حجَّةٌ على كاهلِ من يقرأُه إن لم يعملْ به، وتركَ أمَّةً إسلاميّةً قائمةً بذاتِها في كتبِه، فذاقَ القتلَ شهيدًا كالذين سبقوه من أهل العلم وكالذين لحقوه أيضًا.
وقد ورد للعلّامة عبد العزيز الطريفي ذات مرّة سؤالٌ من أخوات مقهورات ومظلومات في السّجون العربيّة يقلن بما معناه: “هل حكمُ الانتحار بسبب الاغتصاب وتعاقب السّجّانين عليهنّ حلال أم حرام؟” فحوقلَ كثيرًا، ثُمَّ قبل أن يصدرَ فتواهُ بيّن أنّ مثلَ هذا السّؤال لا يردُ إلّا في أمّةٍ حالُها مزرٍ، ومصائبُها كثيرةٌ، فنصحَ الحكّامَ، ونصحَ كلّ من بيده مفتاح التغييرِ، ثمَّ أخبرها بحرمة الانتحار. فلم يسكت عن الحقّ بعدما رأى وجوب قولِه، فهو القائلُ: “إنّ كتمانَ الحقّ هو شبيهٌ بقول الباطلِ في حقّ العلماء” والقائلُ: “بعضُ العلماء يظنّ ما دام أنّه ما لم يقلِ الباطل فهو على سلامةٍ وأمانٍ وأمّا كتمانه للحقّ مع رؤيته الباطل لا يؤاخَذ عليه ما دام لم يتكلّم بالباطل، نقول بل إن هذا من أعظم الجُرْمِ عند الله تعالى فقد علمتَ الأمانةَ ثُمّ رأيتَ الناس يهلكون في الباطل ثمّ لا تبيّنه لهم، ووجودك في ذلك حجّة عند بعض العامّة أن يقولوا فلانٌ سكت فحينئذ سكوتك دليلٌ على أنّ لا منكرَ في الأمّة وهذا من الشرّ العظيم الذي بُليَ به كثيرٌ من المنتسبين إلى أهل العلم”.
وأذكر أنّ أحد “الدعاة” قبل عامٍ أو أكثر بقليلٍ كان ينشرُ على صفحتِه على (الفيسبوك) عن حكم المسح على الجوارب مُرفقًا صورًا توضيحيّةً بينما في الوقتِ ذاتِه كان الرّضيعُ والمُسِنُّ والشَّابُّ منتفضًا لأجلِ بلادٍ وعبادٍ تُبادُ في سوريّا، وفي مثلِ هذا كتب الطريفي في كتاب (العلماء والميثاق) يقول: “قال أحد علماء المغرب: حينما قدمتُ الشامَ، والاستعمارُ على بلادهم، دخلتُ مجلسًا من مجالس أهل العلم، فإذا هم يتدارسون حال المرأةِ حين يخرجُ لها لحيةٌ، هل يجوزُ أن تحلقَها أم لا؟، حتَّى حلَّ عليهم الدمار والوبال، وفرّطوا فيما أمرَ اللهُ بأخذِه والقيامِ به، فحلّ ببلاد المسلمين ودمائهم ومالهم وأعراضهم ما حلّ”. فهذا واللهِ من الخزي الذي ينزلُه اللهُ على أولئك المنافقين الذين ينتسبون إلى أهل العلمِ.
بعد هذا، إنَّ العالمَ الحقَّ لا يجوزُ له الأخْذُ بالرُّخَصِ، ومن ارتجى خفَّةَ الحملِ بدلًا من قوَّةِ الظَّهرِ فليبتغِ غيرَ هذا الطّريقِ، فما بينَ الحقِّ والباطلِ إلَّا شعرةٌ في القلبِ لا يجبُ لها إلَّا الميل إلى الحقِّ وإن انتصفتْ بينهما صارتْ مع الباطلِ حتّى إنْ لم تملْ إليه، وإنّنا في زمنٍ قولُ الحقِّ فيه صعبٌ عسيرٌ، ثمنُه الدَّمُ أو المالُ أو العِرضُ أو هذا كلّه، زمنٍ كثُرتِ الفتنُ وفاضتْ فيه فصارَ الإنسانُ تعيسًا على سِعَةِ رزقِه، ومهمومًا بلا سببٍ يُذكَرُ، وخوّارًا ورعَّاشًا في سكنِهِ وبيتِهِ، كما قال تميم البرغوثي:
كم من بلالٍ على أضلاعِه حجرٌ
قد راحَ منهُ على أشغالِهِ وَغَدا
لذا، إنَّ من سلَّمَ أمرَهُ للهِ واتَّكلَ عليه ما ضرَّهُ ما يُلاقيه من قولِ الحقّ، وما أكلَه خوفُه من تقلُّبِ دار الدنيا عليه وعلى بلدِه، وإنَّ مبدأَ التسليمِ للهِ سرُّ سعادةِ الإنسانِ، وسرُّ ارتياحِه، يقولُ ابنُ تيمية: “ما يفعلُ أعدائي بي، فسجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادةٌ” ومثلُ هذا الكلام لا يقولُهُ إلَّا مَنْ فوَّضَ أمرَهُ للهِ أمامَ الطّغاةِ والجبَّارِينَ، فإنَّ اللهَ مُنتقمٌ لعبادِه المخلصينَ، وإنَّ اللهَ مُنفِذٌ وعدَهُ، فسلامًا على كلِّ من صبرَ واحتسبَ للهِ، وسلامًا على كلِّ من عانى لأجلِ هذا الدينِ، وواللهِ إنَّ مِجمرَ هذا الدِّين لن ينطفئ يومًا مهما حاولَ أعداءُ الله.
(المصدر: مدونات الجزيرة)