عبد الرحمن الغافقي.. القائد المسلم الذي فتح فرنسا
بقلم باسل مصطفى
التابعي الجليل عبد الرحمن الغافقي هو أبو سعيد عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي العكي. عك بن عدنان بن عبد الله بن الأزد من كهلان من سبأ، قبيلة عربية مشهورة شارك أبناؤها في الفتوح وكانوا من الجنود والرؤساء في الفتح الإسلامي الأول لمصر والمغرب والأندلس، دخل جمع منهم الأندلس ودارهم فيها في قرطبة في حصن غافق، أهل منعة وأهل حرب لهم على الفرنجة صولة المستأسد الضاري.
في الأندلس
كان عبد الرحمن الغافقي ممن دخل الأندلس مع موسى بن نصير سنة 93 للهجرة، تولى الأمر بعد موسى ابنه عبد العزيز لكن قتل بنو أمية الاخير لاتهامه بالخروج عنهم واضطرب أمر الأندلس حتى تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز وقدم السمح بن مالك الخولاني واليًا على الأندلس في رمضان سنة 100 للهجرة وجعل عمر ولايتها تابعة للخلافة مباشرة لأهميتها وكثرة شؤنها فاستقام الأمر.
علم السمح بعبد الرحمن قبل أن يلقاه علم عنه الخير والعلم وعلم صحبته لعبد الله بن عمر بن الخطاب فلما جالس السمح عبد الرحمن وجده أعلم مما سمع عنه وفوق ما أخبر به وأصلح الله أمور الأندلس على يد السمح بن مالك الخولاني.
تولوز: (معركة يوم التروية)
ولاية السمح بن مالك الخولاني واحدة من حسنات عمر بن عبد العزيز التي لا تكاد تحصى. والسمح هو القائد الرباني المشهور في التاريخ الإسلامي المجاهد الورع قضى على الاضطرابات الداخلية وأقام العدل وأصلح الأمور الإدارية وأعد الجيوش وحرض الناس على الجهاد.
توجه السمح بجيشه إلى سرقسطة ثم إلى الشرق من جهة الساحل وعبر جبال ألبرت بطرقها الصعبة حتى دخل غالة من الجنوب الشرقي (فرنسا) وعندما وصل إلى أربونة حاصرها وفتحها عنوة وبدأ النشاط العسكري من الساحل الشرقي لغالة باتجاه تولوز حيث بسط سيطرته على كل الحوامي المحيطة وسيطر على سبتمانيا وتقدم حتى وصل إلى تولوز وضرب عليها حصارًا خانقًا حيث نصبت المنجنيقات وحفرت الخنادق في حين كان سكان تولوز المحاصرين ينتظرون الإمدادات من الشمال لفك الحصار.
كان الدوق أودو (دوق أكتانية) قد استعان بمعظم دول أوروبا وأعد جيشًا عظيمًا لمواجهة المسلمين في معركة حاسمة وزحف الفرنجة إلى تولوز عام 102 للهجرة وانفتح الجيشان بترتيب القتال وبدأت المعركة برشقات السهام.
أصيب السمح بسهم في بداية المعركة، كانت إصابته شديدة أدت لمقتله وكان لذلك تأثيرًا سلبيًا على المقاتلين المسلمين فقاتلوا قتالًا شرسًا عنيدًا وكان الفرنجة يخسرون رؤوس صناديدهم مع كل تقدم طفيف في المنطقة الحرام بين الجيشين وامتلأت الأرض بالأشلاء والدماء ولم يصمد المسلمون طويلًا بدون قائدهم الذي قتل حيث بدأت دفاعاتهم بالانهيار وكان الأمر الذي بات وشيكًا هو الخسارة الحتمية حيث فقدوا الكثير من المقاتلين أيضًا.
تقدم عبد الرحمن الغافقي أميرًا جديدًا للجيش… الجيش الذي بات فناؤه أمرًا محتومًا فانقذ الغافقي بقية الجيش وانسحب إلى الخلف باتجاه الحوامي الإسلامية القريبة وما لبث أن اتجه نحو عمق الأندلس وذلك عام 102 للهجرة.
حمل الأمانة
تولوز أعظم مصيبة حلت بالمسلمين منذ دخلوا الأندلس بعدها تعدد الولاة على الأندلس قبل أن يتم تولية عبد الرحمن وعهدت إليه الإمارة بالكامل.
بدأ أمير الأندلس الجديد يطمح لتحقيق الحلم الذي طمح إليه القادة المخلصون قبله طارق وموسى والسمح حلم الدخول إلى فرنسا وألمانيا وإيطاليا ليدخل إلى القسطنطينية من جهة الغرب تحقيقًا لوعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بفتحها.
بدأ بإصلاح النفوس وتزكيتها وإقامة العدل وقام يجوب مدن الأندلس بنفسه ويدعو الناس ويحرضهم على الجهاد ويدعو من كان له مظلمة فينصفه أو من علم بظلم أو بفساد فيرفعه لم يكتف بالمسلمين، بل أقام العدل لأهل الذمة المعاهدون من أهل الكتاب ثم دقق بالولاة واحدًا واحدًا حتى عزل من لم يكن أهلًا للولاية وولى كل تقي نقي وقرن الأقوال بالأفعال وأعد العدة والعتاد.
الشهادة العجيبة
“استدعى عبد الرحمن الغافقي يومًا شابًا من كبار المعاهدين وسأله: ما بال ملككم الأكبر شارل لا يتصدى لنا؟ فقال له الشاب لقد أوفيت لنا ما عاهدتنا عليه فمن حقك عليا أن أصدقك القول فيما تسألني عنه أن قائدكم الأكبر موسى بن نصير أحكم قبضته على إسبانيا كلها ثم طمحت همته أن يجتاح جبال ألبرت.
فخاف الملوك والقساوسة ولجأوا إلى ملكنا الأعظم وقالوا له أي خنزير لصق بنا وبأحفادنا أبد الدهر كنا نسمع بالمسلمين سماعًا ونخاف أن يردوا علينا من جهة مشرق الشمس وها هم اليوم قد جاؤوا من جهة مغرب الشمس واستولوا على إسبانيا كلها وامتلكوا ما فيها من عدة وعتاد وارتفعوا على قمم الجبال التي بيننا وبينهم مع أن عددهم قليل وسلاحهم هزيل وأكثرهم لا يملك حتى درعًا تحميه أو جوادًا يمتطيه فلماذا لا تواجههم وتقضي عليهم أيها الملك فقال الملك لهم: هل تظنون أني لم أفكر بذلك، لقد فكرت كثيرًا بهذا، وأمعنت النظر فيه، فقررت أن لا أهجم عليهم في وثبتهم هذه فإنهم الآن كالسيل الجارف.
وجدتهم قومًا لهم عقيدة ونية تغنيهم عن كثرة العدد وعن وفرة العدد لهم إيمان ولهم صدق يقومان مقام الدروع والخيول، ولكن اصبروا عليهم وأمهلوهم حتى تمتلئ بأيديهم الغنائم وتكثر لهم الدور والقصور وتكثر بين أيديهم الإماء والخدم ويتنافسون فيما بينهم عند ذلك تتمكنون منهم.”
أطرق عبد الرحمن رأسه إطراقة حزينة وتنهد تنهدًا عميقًا ونادى الصلاة جامعة وكلم الناس بما كلمه هذا المعاهد من أهل الذمة.
الجرح القاسي بلاط الشهداء: 732م
قام عبد الرحمن بتنظيم قوات كبيرة لغزو بلاد الغال (فرنسا) توجه بجيشه شمالًا وبدأ الحملة بفتح آرل وتوغل في أكتانيا والتقى بجيش دوق مرة أخرى في وادي غارون حطم فيها المسلمين جيش أكتانيا وتابعوا مسيرهم وفتحوا بوردو كان ملك ملوك الروم شارل قائدًا ذكيًا مدربًا على القتال ويشعر بخطر المسلمين الذين ندر أن يهزموا بمعركة.
تقدم جيش المسلمين ببطء نحو وسط فرنسا وكان الجيش يجر خلفه كمية كبيرة من الغنائم وأعدادًا من السبي وحصل خلاف بين الأمازيغ والعرب في توزيع الغنائم، تقدم جيش شارل جنوبًا مع 400 ألف مقاتل، التقى الجيشان في بواتييه في قصر يدعى البلاط.
كان شارل قد اختار المكان الأفضل للقتال وترك ظهره محميًا بفرعي نهر وغابة كثيفة، أخفى جيشه الضخم فيها بينما عسكر جيش المسلمين في أرض مفتوحة وترك مخيم النساء والسبي والغنائم خلفه.
بدأت المعركة في أوائل رمضان بمناوشات خفيفة ليس لها أهمية تذكر كان عدد جيش المسلمين 50 ألف مقاتل.
ركز شارل قواته في موقع الدفاع وهاجم المسلمون لكسر خط الدفاع عند الفرنجة التي وقفت بثبات، وبعد الهجمات العنيفة التي اندفع خلالها فرسان المسلمين تمكنوا من فتح ثغرات وبقي العمل غير مجدي بسبب كثرة عدد الفرنجة واستمر القتال بمحاولات المسلمين شق صف الفرنجة وأثناء القتال الدائر تسللت وحدات من الفرنجة لخلف جيش المسلمين وهاجموا معسكر السبي والنساء والغنائم فانسحبت بعض وحدات المسلمين لمواجهة الهجوم من الخلف بدون ترتيب وحاول عبد الرحمن أن يمنعهم لكن لم يستطع وجاءه سهم قاتل فخر على الأرض تاركًا جيشه تحت وطأة هجومين أمامي وخلفي.
لقد قاتل المسلمون ببسالة وانتهى اليوم العاشر للقتال بخسائر فادحة من كلا الطرفين وعندما خيم الظلام انسحب المسلمون إلى الخلف قليلًا، وتوقف القتال، أشعل المسلمين النار أمام خيامهم، وقرر أمراء الجند الانسحاب، لقد تخلو عن المعركة.
حضر جيش الفرنجة للقاء المسلمين في الصباح، ولكنه وجد أن الجيش انسحب. ولم يتجرأ الفرنجة على مطاردة المسلمين بالرغم من أن جيش المسلمين فقد 15 ألف مقاتل.
ولم يعد المسلمين إلى هذا المكان بعد ذلك اليوم.
وبالرغم من انسحاب المسلمين لكن لم تجرأ الفرنجة بأعدادها الكبيرة على اللحاق بهم ففي سنين الفتح صار جيش المسلمين مهاب الجانب شديد البأس.
لقد أبلى المسلمون بلاء حسنًا، قاتلو بعيدًا عن أقرب قاعدة إمداد (قرطبة) ب 700 ميل تحت راية قائدهم الذي جاد بدمائه نشرًا لدين الله عز وجل، هو القائد الذي لا يشق له غبار ولا يشك عاقل بإخلاصه ذلك بالرغم من إجماع التحليلات العسكرية القول أن عبد الرحمن أخطأ في مكان اختيار المعركة، المعركة التي تساوي يوم اليرموك بالعدة والعتاد حيث كان جيش الفرنجة كموج البحر عددهم للناظر كالذي لا يحصى بألوانه الحمراء والصفراء والصلبان المرفوعة وكثرة العدة والعتاد، حيث كان المقاتل يغص بالحديد في درعه ومعه سيف ومطرقة؛ لكسر الدروع ورمح وسهم وتتدلى من أذن خوذته بتلات المطاط التي يستعملها لقوسه.
لقد كان لهم مشهد مهيب في الحقيقة لم يعرف المسلمون عدد جيش الفرنجة إلا عند اندلاع القتال، لقد أخطأت عيون المسلمين وجواسيسهم معرفة العدد الصحيح وربما لم يعرف عبد الرحمن شخصية شارل الذي خاض معارك دموية مع قبائل الجيرمان شرقًا خلال سنوات طويلة من عمره وكان شارل قائدًا محنكًا انتظر هجمات المسلمين بحذر شديد وصد خيالة المسلمين بالجنود الراجلة كحالة نادرة لصد الخيالة.
كلمة الختام
لم يكن إخلاص عبد الرحمن وخبرته العسكرية كافيان لتحقيق النصر في معركة تحدد مصير القارة العجوز ربما احتاج الأمر إلى عبقرية خالد بن الوليد أو قتيبة المشرق لكن كان أمر الله قدرًا مقدورًا وارتقى البطل المخلص وأبرأ ذمته أمام الله وانتهى يوم بواتييه الدموي وبقيت سيرة عبد الرحمن العطرة ولم تنته الدروس العظيمة لبلاط الشهداء.
بذلك انتهت الحملات خلف جبال ألبرت وانشغل المسلمون بمشاكلهم الداخلية في الفترة التالية.
____________________________________________________________________
المصادر
-
البداية والنهاية لابن كثير.
-
تاريخ افتتاح الأندلس ابن القوطية.
-
تاريخ الأمم والملوك للطبري.
-
نت وكيبيديا، مقالات وتاريخ للسرجاني.