مقالاتمقالات مختارة

عبد الباسط بدر.. رجل خدم الكلمة الطيبة

عبد الباسط بدر.. رجل خدم الكلمة الطيبة

بقلم أ. د. حلمي محمد القاعود

في مطار ابن بطوطة بمدينة طنجة المغربية منذ نحو عقد من الزمان، جلسنا في الاستراحة ننتظر إجراءات ركوب الطائرة. كانت السيارة قد حملتني مع الراحل الكريم الدكتور عبد الباسط بدر من مدينة تطوان حيث شاركنا في مؤتمر أدبي بكلية الآداب، كانت المسافة طويلة نسبيا، وكان علينا أن نحتاط للوقت فخرجنا مبكرين عقب صلاة الفجر والمطر ينهمر. في الاستراحة اكتشف أن جواز سفره ليس موجودا!

غامت الدنيا في أعيننا مثلما هي غائمة في الخارج! أن تفقد جواز سفرك فهذا أمر مزعج بلا ريب. وأن يكون جوازك المفقود صادرا من بلد آخر غير بلدك فهي محنة بكل المقاييس. أخذت أفتش معه فلم نعثر على الجواز، وكان علينا أن نفترق فقد أزف موعد الطائرة. تركته في الصالة الخارجية فجلس محبطا، يجرى اتصالات مع بعض الناس، وفي خلال ذلك فتح جيبا جانبيا بإحدى حقائبه، فوجد الجواز!

عادت إليه الروح، ولمحته يقبل عليّ، وراح يحكي عن الجواز المراوغ. فرحت وسعدت، وأشرقت الدنيا على وجهينا.. المفارقة أني افتقدت جوازي ونحن في طريقنا إلى الطائرة، فتشت جيوبي وحقيبتي لم أجده، ابتسم الرجل، وهو يقول: يبدو إننا في يوم الفقد! عدت إلى الأماكن التي جلست فيها بالصالة، فوجدت الجواز على كرسي كنت أجلس عليه .كان الحرص قد جعلني أمسك الجواز بيدي كي لا يضيع مني، ولكنني في غمرة الفرح بعودة الرجل إلي مشرقا، تركته بجانبي وقمت إلى الصف الذي سيدخل الطائرة. كانت النادرة مثار ضحكنا ونحن في الطائرة وفي الفندق بالدار البيضاء، حيث ودعته يومها ليركب عائدا إلى مقر عمله، ولم أره بعدها!

جاء نعيه في يوم الاثنين الرابع من رمضان المبارك1441هـ = السا بع والعشرين من إبريل 2020م، وورى جثمانه فى بقيع الغرقد بالمدينة المنورة التي أحبها وعاش فيها أكثر من نصف عمره.

كانت رحلته الإنسانية طويلة. بدأت من مدينة الباب بمحافظة حلب السورية التي ولد بها عام 1944م، في أسرة عُرِفَتْ بالتدين والاهتمام بالعلوم الشرعية، وانتهت بالمدينة المنورة 2020م، وتنقل مع أسرته بين منبج وجرابلس واستقر في حلب، حيث درس المراحل الابتدائية والإعدادية، ثم التحق بدار المعلمين، وتخرج عام 1963م ليبدأ مسيرة الحياة العملية المبكرة معلماً في قرى حلب، ويواصل في الوقت نفسه تعليمه العالي طالباً منتسباً بكلية الآداب قسم اللغة العربية- جامعة دمشق ، وطالباً منتسباً في كلية الحقوق بجامعة حلب. تخرج في كلية الآداب عام 1967م، وانتقل للتعليم في المرحلة الثانوية، وسجل الماجستير في جامعة القاهرة، وعمل مدرساً في معهد الخدمة الاجتماعية في بنغازي لمدة سنة، تلتها رحلة إلى أوربا استغرقت معظم السنة التالية، ثم عاد للعمل في سوريا مدرساً في المرحلة الثانوية. بعد حصوله على الماجستير سنة 1973م، عن شعر بدوي الجبل: دراسة في الفن والموضوع، سجل للحصول على الدكتوراه في جامعة عين شمس بالقاهرة، وسافر إلى الرياض ليعمل مدرساً، ومشرفاً على مادة اللغة العربية وتطوير مناهج دراستها. وعقب إحراز درجة الدكتوراه من جامعة عين شمس عام 1978م، حول قضايا الشعر الجديد في النقد الأدبي المعاصر، انتقل إلى المدينة المنورة، وعمل في الجامعة الإسلامية لمدة خمسة عشر عاماً. وشارك في تأسيس رابطة الأدب الإسلامي من خلال مؤتمرات الأدب الإسلامي، والمؤتمر التأسيس الأول لرابطة الأدب الإسلامي في الهند، برئاسة الشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله. وبعد إنشائها تولى الأمانة العامة لمجلس أمناء الرابطة لدورات عديدة، ونائباً لرئيسها ، ورئيساً لمكتب البلاد العربية حتى رحيله. وقبل ربع قرن انتقل إلى مركز خدمة السنة والسيرة النبوية،  ثم إدارة مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة عـام 1417هـ.، الذي استقطب له الباحثين والكتاب المميّزين.

لقد ترك عددا مهما ضمت آراءه وتصوراته الإسلامية ونشاطاته الأدبية والعلمية منها:

المنهج في اللغة العربية- شعر بدوي الجبل دراسة في الموضوع والفن. قضايا الشعر الجديد في النقد الأدبي المعاصر. ملاحظات حول تعريف الأدب الإسلامي- من قضايا الأدب الإسلامي- حداثة الشعر العربي- الأدب الإسلامي بين أنصاره وخصومه-  مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي: مذاهب الأدب العربي رؤية إسلامية- قضايا أدبية-دليل مكتبة الأدب الإسلامي الحديث- قضايا نقدية- التاريخ الشامل للمدينة المنورة (3 مجلدات)- المدينة المنورة في عهد الزنكيين والأيوبيين والمماليك: دراسة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية..

عرفته في أوائل الثمانينيات عند تأسيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية. كانت صفة الإسلامي مزعجة لبعض الجهات، فظهرت بعض العقبات التي حدّت من نشاطها، ولكنه مع المخلصين للفكرة بذلوا جهودا كبيرة، واستمروا في تقديم جهودهم وأفكارهم حتى صار للأدب الإسلامي نظرية وتطبيقا حضور ملموس، أعاد الأدب العربي وآداب الأمة الإسلامية إلى المسيرة الطبيعية التي بدأت منذ فجر الدعوة الإسلامية.

التقينا مرات عديدة في مناسبات أدبية تخصّ الرابطة داخل مصر وخارجها، وأمام الطوفان الهادر من الاعتراضات التي وجهها من لا يستريحون إلى كلمة إسلامي، أو يجهلون الفكرة أساسا، أو تشبعوا بآراء وتصورات بعيدة عن التصور الإسلامي. راح الدكتور بدر يدافع عن الفكرة الإسلامية مستلهما التاريخ والواقع المعاصر، وألقى في ذلك المحاضرات وأصدر الكتب، وكتب المقالات. وقدم برنامجا إذاعيا أسبوعيا بإذاعة نداء الإسلام استمر لمدة خمس سنوات، حيث شرح مفاهيم الأدب الإسلامي الذي كان بحق محاولة جادة لتجديد الأدب العربي وآداب الشعوب الإسلامية. ثم إنه دعا إلى منهج نقدي إسلامي يعبّر عن هوية الأمة وآدابها في استقلالها وتميزها،

في حوار مطول نشرته مجلة رابطة العالم الإسلامي، العدد 408، السنة 36 شوال 1419 هـ ـ يناير/ فبراير 1999م، تناول الدكتور عبد الباسط بدر قضايا الأدب الإسلامي بإسهاب. فقال مثلا عن المفهـوم المتمــيز للأدب الإسـلامي “هو كل عمل أدبي يتضمن عاطفة إيمانية، أو يعالج قضية إسلامية معالجة إيجابية بشكل من الأشكال. فالأدب الذي يعالج مشكلة اجتماعية من منظور إسلامي يدخل في الأدب الإسلامي”. الأدب الإسلامي أدب واسع وشامل؛ وكل عمل أدبي يعرض موضوعا ما من وجهة نظر إسلامية، أو يحمل قضية أو فكرة، أو عاطفة إسلامية أو يهدف إلى تعزيز قيمة من القيم الإسلامية فهو أدب إسلامي،… حتى الجنس ممكن أن يعالجه الأديب المسلم بنص أدبي جميل ونظيف.  وتناول الشعر الحديث  بوصفه أرضية واسعة، فيها كل شيء ،فالتجارب الشعرية ليست محظورة على الأديب المسلم على ألا يكون هذا بديلا عن التراث: قد يكون عندي شاعر يكتب قصيدة بالتفعيلة العروضية المعروفة، وقد يكتب قصيدة بدون ذلك، فعندما يملك الشاعر القدرة الشعرية، والموهبة يستطيع أن يكتب الشكلين، لكن الشاعر العاجز أو الشاعر الذي يريد أن يحطم التراث ويجعل شعره بديلا عن التراث هذا نرفضه.

وتطرق الحديث إلى سمات الأديب المسلم الذي يجب أن يكون مؤمنا ملتزما، وتوقف عند الجهة التي تقدم المساعدة للأدباء الإسلاميين في مقابل الجهات الكثيرة التي تساعد الأدباء والكتاب العلمانيين….

بيد أن عبد الباسط بدر، في سياق الدعوة إلى أدب إسلامي ركز أيضا على الدعوة إلى منهج نقدي إسلامي يصحح كثيرا من الأخطاء النقدية السائدة في حياتنا الأدبية، فقد تأثر نقدَنا العربي الحديث تأثرًا بالغًا بالنقد الغربي ومدارسِه، وأقبل عددٌ من النقَّاد على تياراته، وأخذوا منها دون منهجيَّةٍ أولَ الأمر، ثم توزَّعوا حولها في شيءٍ من المنهجية والالتزام باتجاهٍ معيَّن، وحاولوا أن يُعرِّبوا هذه الاتجاهات، ويُنشِئوا مدارس نقدية عربية موازية، يُطبِّقون فيها مناهج النقد الغربي في شيءٍ من التحوير والتغيير لتناسبَ طبيعة الأدب العربي، وقد رأى أن المنهج العقدي الغربي يمثل خطورة شديدة على أدبنا الحديث والمعاصر، فالنقد الماركسي، والنقد الوجودي، والنقد المسيحي، من أبرز أنواع النقد العقدي الذي يقوم على عقيدة فلسفية أو دينية.

وإذا كان النقد العقدي قد أثبت حضوره – مستوردًا من أصول غريبة عنا – واستطاع أن يؤثر تأثيرًا سيئًا في ساحاتِنا الأدبية، فماذا عن المواجهة العقدية؟

 إن تراثنا النقدي لم يبتَعِد عن العقيدة الإسلامية أبدًا، ولم يُغفلها، وأن نقَّادنا الأوائل – وكان منهم المحدِّث والقاضي والقارئ – صدروا بتلقائية كاملة عن عقيدتهم الإسلامية، واهتمُّوا بتطوير العمل الأدبي في ظل البلاغة القرآنية، واتَّخذوا من هذه البلاغة مَثلاً أعلى يُعلِّمون به الأدباء ما يصقل موهبتَهم، ولئن بحث بعضُهم عن رخصة لبعض مبالغات الشعراء وتجاوزاتهم، فقد أنكروا جميعًا أي خدش للقيم الإسلامية. ويطرح عبد الباسط بدر، مسوغات قيام منهج نقدي إسلامي:

  • فهناك أدب تأثَّر في صدورِه بالقضايا الإسلامية، بَدْءًا بقضية الخلافة وسقوطها، ووصولاً إلى آخر قضايا معاناة الفرد المسلم في عصرنا الحاضر.
  • وهناك أدب يُهاجِم – في وقاحة شديدة – القِيَمَ الإسلامية ويتَّهِمها بالرجعية والتخلف، ويُسقِط عليها كلَّ متاعب العرب والمسلمين.
  • وهناك أدب منافق يعتدي – من وراء ستار – على عقيدتنا وأصالتنا، بأن يرسم خريطةَ التطوُّر للأمة، ويجعل خطوتها الأُولى التفلُّت من الدين و”قيوده”.
  • وهناك أدب يردُّ على هذه الافتراءات بأسلوب أدبي ناجح حينًا، وبالصراخ والاندفاع البعيد عن “الفنِّيَّة” المؤثِّرة حينًا آخر، وهو أحوجُ ما يكون إلى الترشيد.
  • وهناك محاولات شابَّة تصدرُ عن تصوُّرات إسلامية صحيحة، وتنبئ عن مواهبَ واعدة، ولكنها محاولات تنتظر الصَّقْل والتوجيه.

هذه الأسباب وغيرها مسوِّغات قوية لمنهج نقدي إسلامي، يقوم بحاجات الساحة الأدبية، وحاجات الجمهور المسلم إلى الكلمة الجميلة النظيفة.

ويرتبط بنشاط عبد الباسط بدر الجم وخدماته الجليلة للأدب الإسلامي خدمته لتراث المدينة المنورة وتاريخها- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- فقد عمل من خلال أدارة مركز بحوث المدينة المنورة على نشر كثير مما يتعلق بالمدينة وحضارتها على مدى الأزمان، وقد أخرج كتابا ضخما في ثلاث مجلدات تحت عنوان ” التاريخ الشامل للمدينة المنورة”.

كان من حسن المفارقات أن آخر ما نشر  له موضوع مهم عن الدعاء والذكر، ويستشهد فيه ببعض القصائد الجميلة المفعمة بصفاء النفس والروح، ويذكر المتلقين بأن الدعاء ليس في معزل عن العمل الصالح، بل هو قرينه، فلابد لمن يرجو رضوان الله وجناته أن يقدم بين يديه من أعمال الخير والبر ما يزكي دعاءه، ويفتح له أبواب القبول.

لقد ترك رحيل عبد الباسط بدر فراغا كبيرا في المجال الثقافي والأدبي، وتأثر محبوه لفقدانه، ورثاه صديقه الشاعر حسن الأمراني بقصيدة تفيض بمشاعر الحب والحزن في آن، قال في مطلعها:

نــال الجــــــوارَ منـــــــعَّماً بحيــــاته        وغــدا البقيـــــــــع الــدارَ بعــد ممـــــــاته

مَنْ قال إنَّ البدر ينزل إن ثوى     لا بل علوت وصرت بعض لداته

يا بـــدْرُ بـــدرَ زمـــــانه ذكّــــرْتـــــــنا            يتــــلو علينا الشيــــخ من كلمــــــــــاته

فيضيء بيتُك من بديع بيانه         وتضـــيء بيتَــــك بالنـَّــــدى وصفاته…

رحمه الله وجعل الفردوس الأعلى مثواه بقدر ما خدم الكلمة الطيبة.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى