عبدالرحمن الداخل .. عقل الدولة المهاجر
بقلم سراج دغمان “باحث ليبي” (خاص بالمنتدى)
في فصول التاريخ وأحداثهِ البعيدةِ والقريبةِ كنوزٌ كثيرة في معرفة تجارب الأمم الماضية والأفراد المُجددين وصُنَّاع الفكر والبناء الحضاري ودورهم الكبير في نهضة الإنسان والعمران وإنشاء الدول وكيفية صناعة الاقتصاد القوي والمعرفة وإدارة الحكم والكفاح والنضال الإنساني من أجل الغايات النبيلة والقضايا العادلة في مواجهة الظلم والاستبداد وإقامة العدل.
يقول ابن خلدون في مقدمتهِ: “فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياساتهم حتّى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا”.
ولعل من أعظم شخصيات التاريخ السياسي عبر الزمن هي شخصية أبو المطرّف عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك الأموي الذي ولد بتدمر من أُمٍّ أمازيغية سنة 113 هـ , ذلك القائد الذي أطلق عليه خصومه لقب صقر قريش من عظمة إنجازهِ الذي كادَ أن يكون من العجائب والمستحيلات فكيف لشابٍّ طريد مهاجر وحيد لم يتجاوز عمره أثناء هجرتهِ تسعة عشر عامًا تتعقبهُ السيوف والعسعس وعيون السلطان والكيد والمؤامرات أن يؤسس دولةً عظيمة في أرضٍ بعيدة ذات تضاريس اجتماعية وسياسية صعبة ومتداخلة استطاع أن يصنع حكمًا ودولة عظيمة وفكرًا مستنيرًا واصلاحًا اجتماعيًا حكم بهِ المسلمين الأندلس لمئات الأعوام كانَ جُزءً منها أمويٌّ والباقي تقاسمتهُ حقب مختلفة من الدولة العامرية التي كانت دولة الرجل الواحد الوزير محمد بن أبي عامر وليست دولة الأمة مرورًا بملوك الطوائف وصولاً إلى امتداد الدولة المرابطية والموحدية في الأندلس.
قال ابن حيان القرطبي واصفًا عبدالرحمن الداخل بأنهُ كان كثير الكرم عظيم السياسة يلبس البياض ويعتم به ويعود المرضى ويشهد الجنائز ويصلي بالناس الجُمع والأعياد ويخطب بنفسه .. كما وصفهُ بأنهُ وافر العزم والدهاء والحزم والصرامة شديد الحذر قليل الطمأنينة.
سقوط الخلافة الأموية وهجرة الأمير عبد الرحمن بن معاوية
لاشك أن حدث سقوط الخلافة الأموية في المشرق عام 132 هـ هو حدثٌ ليس بالبسيط ولا بالسهل فالشرق الأوسط في تلك الحقبة كانَ قد صنعهُ الأمويون على أعينهم وقد امتدوا من اقصى الشرق إلى أقصى الغرب ولكن لم يستطيعوا أن يُطيلوا من أمد بقاء دولتهم أمام الصراعات الايدلوجية والعرقية والفكرية والطبقية والسلطوية التي كانت سَدًا دائمًا يمنع الاستقرار الطويل في تلك المنطقة المهمة والاستراتيجية حيثُ تلتقي أفكار الأمم وسيوفها من شتى المشارب وكذلك كان لسلوك بعض من بالسلطة في ذلك الوقت أثرهُ على سقوط دولة بني أمية في المشرق.
استطاع عبد الرحمن الداخل أن يفر من سيوف بني العباس الذين تعقبوا أمراء بني أمية في رحلة طويلة بدأت من العراق حيثُ حُوصر مع أخيه من جنود بني العباس مما اضطرهُ إلى أن يعبر نهر الفرات سباحةً وفي تلك الواقعة فقد عبد الرحمن آخيه الوليد بن معاوية عندما تعب من السباحة وأنصت لأمان العباسيين الذي كانَ أمانًا يخلوا من المصداقية حيثُ تظهر أخلاق الرجال في النصر وعندما يكونون في مركز القوة وتظهر مبادئهم في الهزيمة والشدائد والمحن.
لم ينصت الوليد لكلام أخيه فعندما عاد قتلوه مباشرةً ولاشك أن هذهِ الحادثة الأليمة من الحوادث المختلفة التي أثرت في شخصية الأمير عبدالرحمن حيثُ جمع قلبهُ حزن فقدان دولتهم العظيمة والأهل والرفاق وثم الملاحقة والمطاردة وفقدان أخيه حيثُ صقلت الأزمات شخصية هذا القائد وصنعت التجربة منهُ رجل الدولة بالرغم من صغر سنهِ وقُرب عهدهِ من النِعم وقوة خصومه وأعدائهِ فقد تعرَّف في رحلة هجرتهِ الطويلة إلى المغرب العربي مع مولاه ورفيق دربهِ بدر التي دامت لست سنين قبل دخول الأندلس إلى أحوال الأمصار والشعوب والثقافات والأفكار المختلفة ومذاهب الناس ويبدو أنهُ فهم أن الصراع الذي بدأ في الشرق الأوسط منذُ عقود طويلة انتقل إلى شمال أفريقيا بحيث كانت نزعة الثورة أكبر من سلطان الدولة وتقلبات الأمزجة والأفكار والأيدولوجيات وصراع العرقيات والعصبية القبلية كلها أمراض فتكت بالاستقرار واشعلت وميض الفتن.
فكان المشهد السياسي في شمال أفريقيا ليس ببعيد عن الشرق الأوسط فكان يعج بالصراع منذُ وفاة الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك سنة 125 هـ حيثُ استقر الأمر لعبد الرحمن بن حبيب والي الأمويين على أفريقيا ليستقل عن الدولة الأموية ليحكم معظم شمال أفريقيا وعند سقوط دولة بني أمية وافقهُ العباسيون على حكمهِ في بادئ الأمر ولم ينازعوه وكان يتتبع الأمراء الأمويين لقتلهم خوفًا على شرعيةِ حكمه مما أعاق بقاء عبد الرحمن الداخل في القيروان فقد كادَ لهُ القوم هناك وكادوا أن يقتلوه فعاد إلى برقة واستقر بها قرابة الأربعة أعوام إلى سنة 136 هـ وفي هذه الأثناء كانت تعج الأندلس بالثورات والصراعات المختلفة بين القبائل والأعراق التي شاركت في الفتح فكان صراعًا بين مراكز القوى ومفهوم المغالبة والاستقواء بعصبية القبيلة والعرق وبمفاهيم تنافي مفهوم الدولة وتذهب إلى تفتيت كيانها والقضاء على مستقبل امتدادها وكان عبد الرحمن الداخل قد وجد الحماية من أخوالهِ الأمازيغ بنو نفزة وثم نزل في مكناسة ومنها إلى سبته ذات الجغرافية الاستراتيجية من ناحية التضاريس فهي مطله على مضيق جبل طارق بالبحر المتوسط والقريبة من الأندلس حيثُ يفصلها مسافة 26 كيلو متر وكذلك هي المركز الذي أقام فيه عبدالرحمن الداخل تحالفاتهِ العسكرية والسياسية التي جمعت بين أخوالهِ الأمازيغ وكذلك الموالي المواليين لبني أمية وقبائل اليمانية التي كانت تشكوا الهزيمة من القيسيين وتبحثُ عن حليف ونصير لرد اعتبارها , وكان الداخل في تلك المرحلة في حماية الأمازيغ من قبائل زناتة وكان عمرهُ في ذلك الوقت خمسة وعشرون عامًا معبئة بمخزون رهيب من التجربة الإنسانية الدراماتيكية فهو ابن الدولة التي كانت تحكم الدنيا في ذلك الزمن وشاهدًا على سقوطها وأسباب زوالها من المشرق وكذلك ابن التجربة في مواجهة الخصوم والملاحقات والهجرة والتي مكَّنتهُ من معرفة أحوال الشعوب وسلوك الإنسان ومذاهب الناس الفكرية والدينية وأخلاقهم وقد عرَّفتهُ التجربة بأصحاب الولاء الصادقين وميزتهم عن المخادعين ولا شك أن عبد الرحمن الداخل امتلكَ عقلاً عبقريًا جمع بين عقل الثورة والتغيير والصراع على الحكم والغلبة والظفر بهِ وعقل الدولة في تفتيت عصبيات القبيلة والعرقيات المختلفة لصالح الولاء للدولة ومشروعها ومداركها وخلق مفاهيم المختلفات المتعايشة وليس الأحاديات المتنازعة وفرض الاستقرار في الأندلس بعقل السياسي الفريد السابق عصره صاحب مشروع الدولة الذي دعمتهُ قوة الجند والسيف ولم تكن حروبهِ العسكرية حروبًا فارغة المحتوى بل كانت تسير ضمن خطة استراتيجية متكاملة لصناعة دولة الأمة الحضارية متعددة المشارب الفكرية والعرقية وليست دولة الفرد أو الفئة الاستبدادية.
دخوله للأندلس وصراع الحكم وبناء الدولة
لقد كان في الأندلس شخصيات قوية متحكمة ذات نفوذ سلطوي عنيد ولها امتداد قبلي ومالي وعسكري ولكنها كانت تسيرُ في التيه فهي من مكونات السُلطة منزوعة المشروع السياسي والثقافي والفكري الاستراتيجي ولعل من أبرز هذه الشخصيات القوية يوسف بن عبدالرحمن الفهري القرشي وهو من أحفاد عقبة بن نافع رضي الله عنه وكان مركز قيادتهِ وولائهِ في مدينة ألبيرة التي كانت مَقرًا لعزلتهِ قبل أن يستفيد من الصراع القائم بين المُضرية واليمانية بقطربه ويصبح هو الشخصية التوافقية التي يجتمع حولها الفرقاء المتصارعين حيثُ نادوا بهِ أميرًا للأندلس في سنة 129 هـ واستمر حتى سنة 138 هـ عندما هُزم في معركة المُصَارة أمام الأمير عبد الرحمن الداخل الذي دخلَ مُنتصرًا عزيزًا لقرطبة بعد سنوات المحنة.
وكانت الشخصية الثانية حليف يوسف الفهري الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن الضبابي الملقب أبو الجوشن شيخ القبائل المُضرية في الأندلس وأحد القادة العسكريين وهو حفيد شمر بن ذي الجوشن قاتل الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما في كربلاء وكان الصميل قد تحالف مع يوسف الفهري ضد قبائل اليمانية وتم هزيمتهم في معركة شقندة في سنة 130 هـ.
وقد استطاع عبدالرحمن الداخل أن يصيغ تحالفات حكمه على أخطاء خصومهِ فقد صنعَ تحالفًا فريدًا يجمع الموالي لبني أمية في الأندلس مع قبائل اليمانية والأمازيغ ليشكل جبهة قتال عسكرية وحاضنه اجتماعية تُدير مشروعهِ مركزها إشبيليا وثم استطاع أن يهزم جيش يوسف الفهري والصميل بن حاتم في موقعة المُصَارة وأن يدخل قرطبة سنة 138 هـ دخول المنتصرين وكان أول ما فعل صلى في جامعِ قرطبة حيثُ بايعهُ أهلها , وقد استطاع الأمير الأموي أن يُروض الداخل الأندلسي لصالح مشروعهِ فقد قضى على ظواهر النِزاعات وأخمد بواطن الفتن ونزع فتيل الثورات المضادة عليه واستطاع أن يغرس جذورًا متينة لدولة المسلمين في الأندلس.
لقد ظهر سلوك الحكم لدي عبدالرحمن بن معاوية ونُبل شخصيتهِ منذُ اللحظة الأولى لانتصارهِ حيثُ فرَّ الفهري والصميل فجمع اليمانية أنفسهم للحاق بهم وقتلهم فقال لهم جملة خالدة عبر التاريخ لا تتّبعوهم اتركوهم لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم واستبقوهم لأشد عداوة منهم فكانَ هنا يصلح المفاهيم العامة في الصراع بين المسلمين ويوحد صفوفهم أمام العدو الحقيقي للأمة.
استطاع في فترة حكمه التي امتدت أربعة وثلاثين عامًا متصلة من سنة 138 هـ وحتى سنة 172 هـ أن يخلق مناخًا ثقافيًا جديدًا صنعَ بهِ مفاهيم التعايش الإيجابي داخل المجتمع الأندلسي الذي كان مزيجًا من الأندلسيين أهل البلد والقبائل العربية الوافدة والأمازيغ.
ونشر العلم وجعل للعلماء مكانة مُقدرة ومُقدمة ورسَّخ مفهوم الدولة العادلة عبر تكوين نظام قضائي نزيه وأسَّسّ جيشًا أندلسيًا قويًا ذابت فيهِ عصبية القبيلة والعرق للولاء للدولة ومشروعها واهتم بالعمران وبناء الحصون والقلاع في مختلف الأندلس وبنى المسجد الكبير في قرطبة وأنشأ الرصافة على نفس الطراز الذي أنشئها بهِ جده هشام بن عبد الملك في الشام رحمه الله.
واستطاع أن يوحد الأندلس ويلغي الاقتتال الداخلي ويؤمن الثغور ويصنع مناطق عسكرية متقدمة لحماية المسلمين من الدول النصرانية المحيطة وبذات مملكة ليون وقد اهتم بتكوين اسطول بحري عسكري وشيد العديد من الموانئ مثل ميناء برشلونة وإشبيلية وألمارية وجعل مصانع للأسلحة في الأندلس في ذلك الوقت.
وكان لعبدالرحمن الداخل نفسًا رقيقة ترقُّ إلى الشعر والأدب بالرغم من شخصيتهِ القيادية العظيمة الفذة فكان قد اشتد بهِ الحنين للشام ولبعض أهلهِ هناك فبعث إليهم موفد ليأتي بهم إليه فأنشد أبياتهِ الشهيرة:
أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُيَمِّمُ أَرْضِي *** أَقْرِ مِنْ بَعْضِي السَّلامَ لِبَعْضِي
إِنَّ جِسْمِي كَمَا عَلِمْتَ بِأَرْضٍ *** وَفُؤَادِي وَمَالِكِيهِ بِأَرْضِ
قُدِّرَ البَيْنُ بَيْنَنَا فَافْتَرَقْنَا *** فَعَسَى بِاجْتِمَاعِنَا اللهُ يَقْضِي
وكانَ يشعرُ بالغربة والحنين للشام موطنهِ بالرغم من كونهِ الأمير الحاكم لدولة من أعظم الدول عبر التاريخ فعندما اشتد نخل الرصافة أنشد أبياتهِ الشهيرة:
يَا نَخْلُ أَنْتِ غَرِيبَةٌ مِثْلِي *** فِي الْغَرْبِ نَائِيَةٌ عَنِ الأَصْلِ
فَابْكِي وَهَلْ تَبْكِي مُكَيَّسَةٌ *** عَجْمَاءُ لَمْ تُطْبَعْ عَلَى خَيْلِ؟
لَوْ أَنَّها تَبْكِي إذًا لَبَكَتْ *** مَاءَ الْفُرَاتِ وَمَنْبِتَ النَّخْلِ
لَكِنَّهَا ذَهِلَتْ وَأَذْهَلَنِي *** بُغْضِي بَنِي الْعَبَّاسِ عَنْ أَهْلِي
رحم الله الأمير المُجدد عبدالله بن معاوية بن هشام الأموي الذي أنتج بعقلهِ دولة المسلمين في الأندلس وأسس لقواعد حضارة زاهرة ورائدة ومستقرة.
وستبقى من مفارقات التاريخ العجيبة أن كررت حركة التاريخ المشهد مع ادريس الأول مؤسس دولة الأدارسة الذي دخل المغرب من آل علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم في السنة نفسها التي توفي بها عبدالرحمن الداخل سنة 172هـ عن عمر يناهز التسعة والخمسون عامًا وبتكوين الأندلس الجديد ودولة الأدارسة بالمغرب تكون العقل المغاربي السياسي والثقافي والاجتماعي والمعرفي الخاص الذي كانَ لهُ إضافة خاصة في تاريخ الأمة.