مقالاتمقالات مختارة

عبدالرحمن الحَجي: المؤرخ الفارس

عبدالرحمن الحَجي: المؤرخ الفارس

بقلم أحمد بن عبد المحسن العساف

إذا قُدّر للمرء أن يقف على ما سطره كتّاب ومفكرون وشعراء من شتى الاتجاهات عن الأندلس إبّان زياراتهم السياحية لها، فلن يكون عجيبًا لو ظنّ أن أولئك القوم من بقايا جيش طارق بن زياد وموسى بن نصير رحمة الله عليهما وعلى من معهما، بدلالة ما في نثرهم وشعرهم من اعتزاز وحنين وانبهار، ولو كان بعضهم من تيّارات تغضّ طرفها عن مآثر المسلمين الأخرى، وربما تستحي-انكسارًا وهزيمة نفسيّة- من ذكر الجهاد والفتوح، مع أنّ العالم كان ولا يزال وسيظلّ في حرب، ولا يعترف بغير القوة!

فإذا كان هذا هو صنيع أقلام لا تحمل عقول بعض أصحابها تصالحًا مع ثقافة الأمة ودينها وتاريخها ولغتها، فكيف سيكون شأن عالم كبير، تضلّع من علوم الشريعة والعربية، ونهل من تاريخ السيرة والخلافة الراشدة فما بعدها، ثمّ انكبّ بكليته على دراسة الشأن الأندلسي من الفتح إلى السقوط، ولم يحصر نفسه في التاريخ على سعة محيطه، بل شارك في دراسات بلدانية، وأدبية، وموسيقية، عن الأندلس التي خالطت روحه وصارت تجري مع دمه؛ حتى لكأنه أحد قادة جيش ابن زياد الداخلين معه، أو رفيق ابن زيدون في مهجره، وكلا الرجلين استودعا الله بغداد وما فيها من أقمار وشموس ونجوم، ومن الموافقات اللطيفة ارتباط تاريخ الأندلسي بأكثر من عبدالرحمن.

ذلكم هو حال المؤرخ الكبير الدكتور عبدالرحمن بن علي الحَجي (1935-2021م)، الذي ولد في مدينة المقدادية بمحافظة ديالى شرقي العراق الأشم، وتوفي في مدريد يوم الإثنين الخامس من شهر جمادى الآخرة عام 1442 الموافق للثامن عشر من شهر يناير عام 2021م، بعد أن ترك في المكتبة العربية إنتاجًا غزيرًا متينًا عبر أكثر من عشرين كتابًا عن الأندلس وتاريخها ورجالاتها وآدابها وآثارها وفنونها وطبيعتها البلدانية؛ فقد عشق كلّ شيء عن تلك البلاد الفردوسية الآسرة حتى غدا أحد فرسانها الكبار في زماننا هذا متشاركًا في الوصف مع المؤرخ المصري العَلم محمد بن عبدالله عنان (1896-1986م).

ومن كان هذا دأبه فليس بعجيب أن يؤلف كتابه الضخم عن الأندلس منذ الفتح حتى السقوط في ستّ سنوات، بالرجوع إلى ستّ لغات، حتى صدر في ستمئة صفحة، وأصبح المرجع المناسب للتاريخ الأندلسي سواءً للقارئ المختص أو غيره، وهذا الجهد المنصرف لشؤون الأندلس يجعل شيخنا حجة فيه وإمامًا لدرجة أن مشرفه أو أحد مناقشيه في رسالته للدكتوراة بجامعة كامبريدج العريقة في بريطانيا عام (1966م) بعنوان: العلاقات الدبلوماسية الأندلسية مع أوروبا الغربية خلال المُدَّة الأُموية قال -طبقًا لما سمعته من أحمد نجل الحَجي-: لن يستطيع أيّ بحث ان يأتي بمزيد عليها لمئة عام قادمة! ولن نعتقد أن هذا الحكم فيه مبالغة بل سوف نستيقن منه إذا علمنا أن المؤرخ الحجي عاد في رسالته تلك لمصادر متعددة باثنتي عشرة لغة، وعمل عليها بتفرغ تام، ومواصلة غير منقطعة، لمدة خمس سنوات متتابعة.

والذي يبدو أن المؤرخ الكبير درس هذا التاريخ وتعمق فيه بدافع من الديانة والانتصار لأمته وحضارتها، ويتأكد هذا الرأي حينما أقرأ قوله: “أزعم أن معرفة التاريخ الإسلامي من أكبر الروافد في فهم الإسلام نفسه، قرآنًا وسنةً وسيرة، لأنه هو التطبيق العملي للإسلام”، ويزيد إيماني بهذا الرأي عقب قراءة نظرته للتاريخ الإسلامي بأنه جزء من الإسلام غير منفصل عنه، وسماع حديثه عن الشبهات الواهية في تاريخنا، وكيفية دحضها، فحسّه العزيز الشريف منغرس في نفسه المؤمنة من تربية منزلية ومدرسية رشيدة بفضل الله وتوفيقه، فمثل هذه التربية تتغلب على جميع الأوضاع الفاسدة، والمفاهيم المضللة، المدرجة في حياتنا بسطوة القوة الغاشمة.

كما قاده هذا الاستبصار التاريخي إلى العكوف على تأليف كتاب بعنوان: إعجاز القرآن والنبوة، وظلّ منصرفًا نحوه حتى آخر ساعة في حياته كما يذكر نجله أيمن الذي قال: إن والده كان على وشك إنهائه، ويستعد لإرساله إلى المطبعة، وقد صبّ جهده كلّه خلال سنته الأخيرة في العمل على هذا الكتاب إلى منتصف الليل، وصرف لأجله أكثر من ثمان ساعات يوميًا في البحث والتأليف، والله يجعله له مع مؤلفاته الأخرى من الباقيات الصالحات المقبولات.

أما مقولات المؤرخ الجهبذ التي سكّها بعبارات قصيرة بعد أن استجمع علمه التاريخي، وخبرته اللغوية، ونظرته المستقبلية، فكثّف المعنى المراد بأقل قدر ممكن من الكلمات لتبقى محفوظة عنه ومروية، وهي جديرة بأن تُشاع في أجيال أمتنا لتبقى الفكرة حيّة في النفوس، فضلًا عن نفاستها وكأنها سبائك من ذهب؛ فمنها قوله: “المسلم في نصر دائم حتى في حالة الهزيمة العسكرية في الميدان مادامت نفسه المؤمنة لم تنهزم أما الهزيمة الداخلية فهي الهزيمة الحقيقية”.

كذلك مقولته الذائعة: “لولا الإسلام لما قامت الأندلس ولولا الأندلس لما قامت الحضارة الغربيَّة الحديثة”، وتكمن أهمية هذه الكلمة النفيسة في التنبيه إلى أن الأندلس نعمت بالازدهار والتقدم بينما غرقت أوروبا في عصورهم الوسطى-وليست عصورنا- بأمواج الجهل وظلمات الظلم، وإن رجلًا اختصر كثيرًا من القول بعبارة واحدة ليس بكثير عليه أن يستنهض الوعي بتغريدة واحدة كاتبًا: “مازلنا نقدِّم ماجلان البرتغالي وفاسكو ديغاما على أنهما مكتشفان جغرافيان، ولو سمع أحدهما بهذا الوصف لاستلقى على قفاه من الضحك على هذا الوهم، إذ لم يكونا سوى محاربَين صليبيين لملاحقة المسلمين في كل مكان”!

أيضًا يُروى عنه قوله وهو الخبير بنهوض الأندلس وقوته وخروجه من الأزمات ثمّ وقوعه في المحن والفتن: “وجود العلماء في قيادة الأمة إنعاش وإبلال وذهابهم تمزق وإذلال”، ويقول في تبيان رؤيته للعالم الإسلامي: “العالم الإسلامي واحد متوحد، حتى حين تنقطع أجزاء منه عن باقيه، سياسيًا أو إداريًا، فليست هذه سبب توحده، بل الإسلام عقيدة وعبادة، تشريعًا ووجهة، هو الموحد المتفرد دومًا”، وربما أنه يعترض على جفول بعض المغرورين عن التعليم الشرعي واللغوي مع أن الأساس في تعليم أيّ أمة أن يثبت مرتكزاتها، ويمتّن أسسها، ويصون هويتها، قبل أن ينطلق إلى مساحات رحبة في علوم أخرى، ولذا يقول د.الحجي: ” كان تعليم المجتمع الأندلسي يقوم أولًا على العلم الشرعي وقِوامُهُ القرآنُ الكريم، ثمّ بعده يأتي التخصُّص مهما كان ميدانُه”.

إن هذا الرجل الذي رفع الآذان في جامع قرطبة ذات يوم، وقاوم ندرة ما كُتب عن الأندلس بالتأليف والبحث والتدريس والتحقيق، معبّرًا بصدق وعلم عمّا يعتقده كي لا يظلّ هذا الحقل الخصيب حكرًا على الأجانب وفي فئام منهم قدر من التجني والظلم، لجدير بأن يشار إلى كتبه ومقولاته وموقعه وسيرته، وأن يُقام باسمه معهد عالٍ لدراسات التاريخ ووعيه وفهمه، ولو استثمرت أجواء التعليم عن بعد حتى يستفيد الدارسون في كلّ مكان من هذا المعهد المرتقب، ولو جُعل في الأندلس وفاءً لمحبها، وبعدًا عن أوضارٍ ولزوم ما لا يلزم، وهذه المقترحات غير ما أقيم أو سيقام عنه من ندوات، وما سيكتب عنه وعن منهجه من دراسات عليا في الجامعات التي أسسها أو كان من هيئة التعليم فيها، إضافة للمجلات التاريخية التي سوف تصدر عددًا كاملًا عنه.

وحين سكت قلب راحلنا الكبير لم يسكت قلمه، بل حجز لحامله مقعدًا في سجل الخالدين الكبار، وأصبح فارسًا في ميدان وعر وإن لم يشارك مع جيوش الفاتحين الأوائل، وفوق ذلك أكدّ د.الحجي بجهاده العلمي والمعرفي للأعداء قبل الأصدقاء، وثبّت في نفوس أبناء الأمة المحمدية، أننا قوم لا ننسى أمجادنا، ونعرف كيف بلغناها، ولم آلت إلى ما هي عليه، وإذا كان هذا حالنا مع الأندلس على بُعدها وخلوها من المقدسات؛ فكيف سيكون شأننا مع أرض عربية إسلامية، أُسري إليها بنبينا عليه الصلاة والسلام، ثمّ عرج فيه منها، وفتحها عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وفيها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين؟ وتلك إلماحة تجلب الغصص لحلوق، وتعصر بعض القلوب، وإنها لعبادة يحبها الله وترغم أنوف أعدائه.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى