سامي بن عيضة المالكي – الألوكة
الوقوف مع حاجات المنكوبين، والعيش مع معاناة الآخرين، خلق عربي نبيل، ومبدأ إسلامي أصيل، ومن أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- المشهودة له قبل البعثة: أنه كان يحمل الكلَّ، ويقري الضيف، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق.
فكم نحن بحاجة أن نستشعر هذه المبادئ ونعززها في زمن تعالت فيه صرخات اليتامى، وسمعت فيه تأوهات الثكالى!!
ما أجمل أن نتحدث عن إغاثة الملهوف، وتفريج المكروب!!
وما أروع أن نتكلم عن نجدة المظلوم، ومواساة المكلوم!!
ولكن أجمل من ذلك وأروع أن نرى هذه القيم مثالاً، وهذه المُثُل فِعالاً.
نراها في شخصيات عاشت ذلك واقعًا محسوسًا، وشاهدًا ملموسًا.
ونحن في هذه السطور مع حديث الأزمات، وخبر من أخبار المجاعات، مع عمر – رضي الله عن ه- وخبره عام الرمادة، فحياته – رضي الله عنه- مع هذه المأساة عجب من العُجاب، ومواقفه مع هذه المحنة عبرة ورسالة لكل صاحب مسؤولية وولاية خاصة أو عامة، أن يستشعر عِظم المسؤولية، وأمانة التكليف.
في السنة الثامنة عشرة من الهجرة كانت مدينة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وما حولها من البوادي على موعد مع مجاعة لم تعرفها العرب في تاريخها، وقعتْ هذه المسغبة بعد انقطاع المطر عن أرْض الحِجاز مدةً طويلة، فحصل القحْط، ومات الزَّرْع، وقلَّتِ اللقمة، وعُدِم أطايب الأكْل، ونزر الكلام، وكفَّ السائلون عن السؤال، وهزلتِ المواشي، فكان الرجل يذبح الشاةَ فيعافها مِن قُبْحها، وجعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، وحصلتْ مسغبةٌ ما عرفتْها العرب في أيَّامها؛ حتى كان الرجلُ القويُّ يتلوَّى بيْن أهله من شدَّة المخمصة، ومات كثيرٌ من الأطفال والنِّساء في تلك السَّنة.
وانجفل أهلُ البادية إلى المدينة، لعلَّهم يجدون عندَ الخليفة ما يسدُّ حاجتهم، ويُسكت بطونَهم، وكانت أعدادهم تزيد على ستِّين ألفًا، وبقوا أشهرًا عدَّة، ليس لهم طعامٌ إلا ما يُقدَّم لهم من بيت مال المسلمين، أو مِن أهل المدينة آنذاك.
روى ابن كثير في “تاريخه”: أنَّ عمر -رضي الله عنه- عسَّ ذات ليلة عام الرَّمادة، وقد بلغ بالناس الجهْد كلَّ مبلغ، فلم يَسمع أحدًا يضحك، ولم يسمع متحدِّثًا في منزله، ولم يرَ سائلاً، فتعجَّب وسأل، فقيل: “يا أميرَ المؤمنين: قد سألوا فلم يجدوا، فقطعوا السؤال، فهم في همٍّ وضِيق، لا يتحدَّثون ولا يضحكون”.
أمَّا حال عمر -رضي الله عنه- مع تلك المجاعة، فلا تسلْ عن حاله؛ تغيَّرت عليه الدنيا، وأظلمتْ عليه المدينة، طال كمدُه، وتغيَّر لونُه، وذبل جسمُه، وحمل همًّا لا تتحمله الجبال الرواسي.
كان -رضي الله عنه- أكثرَ الناس إحساسًا بهذا البلاء، وتحملاً لتبعاته، فكان لا ينام إلا غِبًّا، ولا يأكل إلا تقوتًا، ولا يلبس إلا خَشِنًا.
عاش كما يعيش الناس، تنفَّس همومَهم وغمومَهم، وذاق حاجتَهم وفاقتَهم، بل كان أولَ مَن جاع وآخِرَ مَن شبع، ما قَرُب امرأة من نِسائه زمنَ الرمادة، حتى أحيا الناس من شدَّة الهمِّ.
قال عنه خادمُه أسلم: “كنَّا نقول: لو لم يرفعِ الله تعالى المَحْل عام الرمادة، لظننا أنَّ عمر يموت همًّا بأمر المسلمين”.
خطَب الناسَ عام الرمادة، فقرقر بطنُه وأمعاؤه من الجوع، حتى سَمعتِ الرعية قرقرةَ بطنه، فطعن بإصبعه في بطنه، وقال: “قرقِرْ أو لا تقرقِر، والله لا تشبع حتى يشبعَ أطفالُ المسلمين”.
هذا هو الفاروق، هذا هو ابن الخطَّاب، الذي حَكَم ديارَ الإسلام من مشرقها إلى مغربها، فليأتِ لنا التاريخ، ولتحضر لنا البشرية بمِثْل عمر، عقمتِ النساء أن يلدنَ مثل عمر.
أما أخبارُ عمر وقصصه مع هذه الخَصَاصة، وتلك المسْكَنة، فأمر لا ينقضي عجبُه، وشيء يعزُّ نظيرُه في تاريخ البشرية، ولعلَّنا نتلمس طرفًا منها، فاستقصاؤها مقام يطول.
ها هي العيون قد هدأتْ، والجفون قد نامتْ، والنجوم قد تلألأتْ، فلا تكاد تَسمع في المدينة أنيسًا، ولا متحدِّثًا ولا ماشيًا، إلا رجلاً طوالاً لم تكتحلْ جفونه بنوم، أخذ دِرَّته، وجعل يجوب سِكك المدينة، يتفقَّد حاجاتِ المحتاجين، ويرى بنفسه تضرُّعاتِ البائسين، إنَّه الفاروق -رضي الله عنه-، نَما إلى علمه أنَّ جماعة في أقْصى المدينة، قد نَزَل بهم من الضُّر أكثرُ مما نزل بغيرهم، فحمل الفاروق -رضي الله عنه- جِرابينِ من دقيق، وأمر خادمَه أسلم أن يلحقه بقِرْبة مملوءة زيتًا، وأسرع عمرُ في الخُطا، حتى وصل إلى أولئك المحتاجين، ورقَّ لحالهم، وتأثَّر من خماصتهم، فوضَع بنفسه الطعامَ في القِدر، ونفَخ في النار، حتى كان الدُّخَان يخرج من بيْن لحيته البيضاء، فطبخ للقوم طعامَهم، ووزَّعه عليهم حتى شَبِعوا، وطابتْ عينُه بعدَ ذلك، ثم أمر بهم، فحُملوا إلى داخلِ المدينة حتى يكونوا قريبًا منه.
كان -رضي الله عنه- دائمًا ما يقول: كيف يعنيني شأن الرعية، إذا لم يمسَّني ما مسَّها؟!
لقد كان بإمكان الفاروق -رضي الله عنه- أن يؤثِر بنفسه وأهله ما في بيْت المال، ويَعيش حياةً رغيدة بعيدةً عن هؤلاء وشأنهم، ولكن الإيمان الذي بيْن جنبيه، والخوْف من ربِّه الذي فتَّ فؤاده فتًّا، جعله يترك هذه الأثرَة، ويذوق آلامَ الآخرين.
بل أبعد مِن ذلك، أنَّ عمر -رضي الله عنه- كان يحمل أهلَه، وأولاده زمنَ الرمادة، على شدَّة وشظف العيش؛ دخل يومًا على ابنه عبد الله، فوجدَه يأكل شرائحَ لحم، فلامه، وقال له: ألا إنَّك ابن أمير المؤمنين، تأكل لحمًا، والناس في خَصاصة! ألا خبزًا ومِلحًا، ألا خبزًا ومِلحًا؟!
ورأى يومًا بطيخة في يد ولدٍ من أولاده، فصاح به: بخٍ بخٍ يا ابن أمير المؤمنين، تأكل الفاكهة وأمَّة محمَّد هزلَى؟!
كان -رضي الله عنه- يؤثِر بطعامه الآخرين على نفسه، أمَرَ يومًا بنَحْر جزور وتوزيع لحمِه على أهل المدينة، وعندما جلس عمرُ لغدائه، وجد سنامَ الجذور وكبدَه على مائدته، وهما أطيبُ ما في الجَذور، فسأل: من أين هذا؟! فقالوا: مِن الجزور الذي ذُبِح اليوم، فأزاحه بيده، وقال: بئس الوالي أنا، إن طعمتُ طيبَها، وتركتُ للناس كراديسَها؛ يعني: عظامها، ثم أمر بمأدبته المعهودة، خبز يابس وزَيْت، فجعل يكسِر الخبز ويثرده بالزَّيت، ولم يكملْ هذه الوجبة المتواضعة؛ لأنَّه تذكر أهل بيتٍ لم يأتهم منذ ثلاثة أيام، فأمر خادمَه بحمْل الطعام إلى ذلك البيت.
كان -رضي الله عنه- في تلك المَخْمصة كثيرَ التضرُّع لربِّه، منكسرَ الحال، ملازمًا للصلاة، لم ينقطع لسانُه عن الاستغفار.
لقد فقه الفاروق -رضي الله عنه- أنَّ هذه الصِّعابَ ليس لها كاشف إلا مسبِّبها، فعجَّ إلى ربه بالدعاء، وسعى بعد ذلك إلى إصلاح نفسه، ومحاسبتها، وإصلاح رعيته وتذكيرها.
ذكر ابنُ سعد في “الطبقات”، عن سليمان بن يسار قال: خطب عمرُ الناسَ في زمن الرمادة، فقال: “يا أيُّها الناس: اتَّقوا الله في أنفسكم، وفيما غاب عنِ الناس من أمرِكم”، إلى أن قال: “هلمُّوا فلندعُ الله أن يصلحَ قلوبنا، وأن يرحمَنا، وأن يرفعَ عنا المَحْل”، قال الراوي: فرُئي عمر -رضي الله عنه- يومئذ رافعًا يديه يدعو، والناس يدعون، حتى بكَى، وأبْكى الناس مليًّا.
قال عنه ابنه عبد الله: “سمعتُ أبي في السَّحَر يقول: اللهمَّ لا تجعل هلاكَ أمَّة محمَّد على يدي”. وكان يقول: “اللهمَّ لا تهلكْنا بالسنين، وارْفع عنَّا البلاء”.
وخرَج -رضي الله عنه- إلى المصلَّى يستسقي، ومعه الناس، والضَّعَفة والأطفال، فخرج متواضعًا متضرِّعًا متخشعًا، فصلَّى بالناس ركعتين، لم يدرِ الناس ما يقول من البُكاء، ثم وعظ الناسَ وذكَّرهم، ثم ألحَّ في الدعاء، والمسألة، وكان من سؤاله: “اللهم عجزتْ لنا أنصارُنا، وعجزتْ عنا حَوْلُنا وقوتنا، وعجزت عنَّا أنفسنا”، ثم أخذ بيد العباس بن عبد المطلب، فقال: “اللهم إنا كنَّا نستسقي إليك بنبيِّنا فتسقينا، وإنا نتوسَّل إليك بعمِّ نبينا فاسْقنا”، وكان العبَّاس قد طال عمرُه، ورقَّ عظمُه، فجعلت عيناه تذرفان، وهو يقول: “اللهمَّ أنت الراعي فلا تُهملِ الضالَّة، ولا تَدعِ الكسير بدار مضيعة، فقد صرَخ الصغير، ورقَّ الكبير، وارتفعتِ الشَّكْوى، وأنت تعلم السِّرَّ وأخفى، فأغْنِنا بغناك”.
واستجاب الله الدعاء، وعمَّت الرحمة، وأرسلتِ السماء خيراتِها، فلم يكد ينصرف الناس إلى منازلهم حتى خاضوا الغدران، واستبشر المسلمون خيرًا، وعَرَفوا أنَّ المدد الإلهي قد قرب.
بيْد أنَّ الفاروق -رضي الله عنه- بعدَ هذا الخير العميم، لم يقفْ موقفَ المتواكِل؛ لأنَّ الأرض لن تخرج بركتَها إلا بعد أيام كثيرة، والناس حوله يتضاوون من الجوع ويموتون، فسلك كلَّ طريقة فيها إغاثةُ الناس، وما ترك وسيلةً فيها إصلاحُ الناس إلا سعَى إليها.
تَرَك أخْذ الزكاة من الناس ذلك العام، وأنْفق كلَّ ما في بيت المال من الطعام والكساء، واشترى كلَّ ما في السوق من الأكل، حتى نفد الطعام، وأصبحَ المال لا قيمةَ له بعد ذلك.
ذكر ابنُ كثير أنَّ عمر عام الرَّمادة قد غفل عن طلب الغَوْث من أمراء المناطق، حتى أشار عليه بعضُ الصحابة فقال عمر -رضي الله عنه-: “الله أكبر! بلغ البلاء مدته”. ثم كتب إلى عُمَّاله في المناطق: الغوثَ الغوثَ، كتب إلى أبي عُبيدة بالشام، وإلى عمرو بن العاص بمصر، وإلى معاوية بن أبي سُفيان بالعِراق، يستغيثهم ويستمدُّهم، فأسرع الولاةُ لنجدةِ خليفتهم، وعاصمة إسلامهم، فجاءتْ قوافلُ المسلمين تزحف كالسيل، محمَّلة بالطعام والكِساء.
كتب إليه عمرو بن العاص: “أتاك الغوث -يا أمير المؤمنين-؛ لأبعثنَّ إليك بعِيرٍ أولُها عندَك، وآخرُها عندي”.
ووصلت تلك الإغاثات إلى عمر -رضي الله عنه- فسُرِّي عنه، وخف همُّه، وبرد غمُّه، وقسم على كل ناحية من نواحي المدينة أمراء، يتولَّوْن إطعام الناس، ومتابعة حاجاتهم، ثم يجتمعون عندَه في المساء؛ ليوافوه بأخبار الناس، بل كان عمر -رضي الله عنه- يُشرِف بنفسه أحيانًا على إطْعام الناس، فيقول: أطعموا هؤلاء، وزِيدوا مرقةَ أولئك.
ذكر ابن سعد أنَّ عمر -رضي الله عنه- سأل يومًا: أحصوا مَن تعشَّى عندنا، فأحصوهم فكانوا سبعةَ آلاف، وفي ليلة أخرى عشرة آلاف.
واستمرَّتِ القدور العُمرية الضخْمة تستعر نارُها من بعد الفجر إلى المساء، وكان عمر -رضي الله عنه- يُرسِل إلى الناس مؤنةَ شهر ممَّا يصله من الأمصار.
ثم بعد تسعة أشهر، أخرجتِ الأرض خيرَها، وعمَّتْ بركتُها، وزال الضِّيق، ورُفِعتِ الكربة، ولهجتِ الألسن بحمد الله وشُكْره، فجعل الناس يترحَّلون من المدينة بعدَ أيام عَنَت ومشقَّة عاشوا فيها، وفقدوا فيها أحبابَهم.
وجعل الفاروق – رضي الله عنه – يسير معهم، ويودعهم بدمعات حارَّة، يرى تلك الوفود التي آوتْ إليه جائعةً متهالكة خائفة، ها هي الآن تعود إلى دِيارها ومساكنها، آمنةً مطمئنة، معها الزادُ والخير الكثير، فقال رجل لعمر في هذا المظهر المهيب: أشهد أنَّها انحسرتْ عنك، ولستَ بابن أَمَة، فقال له عمر: “ويلَك! ذلك لو كنتُ أنفقتُ عليهم من مالي أو مِن مال الخطَّاب، إنما أنفقتُ عليهم من مال الله – عزَّ وجلَّ -“.
إنَّ النفوس بعدَ سماع هذه الأخبار، ونوادر المواقِف، لا يسعها إلا أن تقِفَ خاشعة، مترضيةً عن فاروق الأمَّة، عارفةً فضلَه وفضائلَه، وقِدَمَه وأياديَه على أهل الإسلام، نسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يجمعنا وإيَّاكم مع هذه الصفوة الصادقة في دار كرامته، ومستقر رحمته.
لقد علَّم الفاروق -رضي الله عنه- الأمَّةَ من بعده دروسًا كثيرةً عام الرمادة:
فعلَّم الأمَّة استشعارَ عظمة المسؤولية لكلِّ صاحب ولاية عامة أو خاصَّة، تتعلَّق بمعاش الناس وعيشهم ورزقهم.
وعلَّم عمرُ الأمَّةَ أيضًا صِدْقَ اللجوء إلى الله تعالى في الملمَّات، وشكاية الحال إليه في الأزمات.
وعلَّم عمرُ الأمَّة من بعده مبدأَ التضامن الإسلامي، وأن يسعى المسلِمون في مواساة إخوانهم المنكوبين والمحصورين، “فالمسلِم أخو المسلِم”، “والمسلِمون كالجَسد الواحد، إذا اشْتكى منه عضوٌ تَدَاعى له سائرُ الجسد بالسهر والحُمَّى”.
كم يعيش المسلمون اليومَ في مناطقَ شتى، حالة تُشبِه حالةَ الرمادة في عهْد عمر!! كم يذوق إخواننا في أرْض الشام من ضِيق وضَنْك، وحصار مِن أرذل الخَلْق، وأنذل الخليقة، حتى كثُرت مناداتهم، وعَلَت تأوهاتهم، وبُحَّتْ أصواتهم من كثرة المسألة، وبلاد المسلمين تُنفق المليارات، لا نقول: في الأمور الضروريَّة، بل في الأمور الكمالية والتافِهة!!
وإذا كان الفاروقَ -رضي الله عنه- يعتبرُ نفسَه مسؤولاً عن الدابةِ تموتُ في أرضِ العراق: لِمَ لَمْ يُمهِّد لها الطريق؟ فكيف بموتِ آلافٍ؛ بل ملايين من البشرِ المسلمين لا تصلُ إليهم حاجتُهم من الطعامِ أو الكساء، أو تصلُ إليهم بجهودِ اليهود والنصارى والمشركين فيسدُّون جَوْعةَ بطونهم، وتظلُّ قلوبُهم من الإيمانِ والإسلام جَوْعى؟!.
اللهمَّ أغْنِ فقراءَ المسلمين، وسُدَّ حوائجَهم، وثبِّتْ على الحقِّ أقدامَهم، وانصُرهُم على القومِ الكافرين.