مقالاتمقالات مختارة

عامر الشعبي العالم العامل الزاهد

عامر الشعبي العالم العامل الزاهد

بقلم محمد عادل فارس

بطاقة:
هو أبو عمرو عامر بن شراحيل الشعبي. نسبته إلى “شَعْب”، وهو بطنٌ من همدان.
وُلد في الكوفة عام 19هـ، ونشأ فيها، ومات فيها فجأة عام 103هـ، فكان عمره 84 سنة.
كان يؤمُّ المدينة المنورة من حين لآخر ليلقى صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويأخذ عنهم. كما كان يلقى الصحابة الذين يؤمّون الكوفة منطلقين للجهاد في سبيل الله. وبهذا هيّأ الله تعالى له أن يلتقي نحو خمسمئة منهم.
كان ضئيل الجسم، عظيم العلم، من رجال الحديث الثقات، فقيهاً، شاعراً…
اتصل بعبد الملك بن مروان فكان نديمه وسميره، ورسوله إلى ملك الروم.. كما أن عمر بن عبد العزيز اتخذه قاضياً.
حفظه وذاكرته:
وكان ممن يُضرب المثل بحفظهم. وقد سُئل مرةً عما بلغ إليه حفظُه فقال: “ما كتبتُ سوداء في بيضاء (أي ما كتبت كلمة على ورق)، ولا حدّثني رجل بحديث إلا حفظته، ولا سمعتُ من امرئ كلاماً ثم أحببتُ أن يعيده عليّ!.
خصاله:
وكان ذا ذكاء حاد، وتواضع جمّ، ومروءة نادرة، وحِلم وأناة، وعلم غزير، وزهد في متاع الحياة الدنيا، ويقظة في مراقبة الله تعالى.
كان كل همّه ألا يتخلّف عمَلُه عن عِلمه، بغفلةٍ أو كِبْر… وذاك مرتقى شاقّ لا يبلغه إلا مَن جعل قلبه وعاء لما أوتي من عمل، فإذا كلُّ جوارحه تنقاد له مسرعات. ويا له من علم واسع تلقّاه عامر عن كبار أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى شهد له سيّد التابعين الحسن البصري “أنه كان واسع العلم، عظيم الحِلم، وأنه من الإسلام بمكان عظيم”، وحتى قال ابن شهاب الزهري: “العلماء أربعة: سعيد بن المسيب في المدينة، وعامر الشعبي في الكوفة، والحسن البصري في البصرة، ومكحول في الشام”.
وكانت تُعقد له حلقة في جامع الكوفة، فيلتفّ الناس حوله زُمَراً زمراً، وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحياءٌ يروحون ويغْدون بين أظهُر الناس.
بل إن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، سمعه ذات مرة يقُصّ على الناس أخبار المغازي بخفاياها ودقائقها. فأرهف إليه سمعه وقال: لقد شهدت بعض ما يقصُّ بعيني… ومع ذلك فهو أروى له منّي!.
لم يبتغِ بعلمه شيئاً من الدنيا، إنما كان حَسْبه منها أن ينال رضى الله، وينفع عباد الله. من أجل ذلك يوصي أحد أصحابه: “بهاءُ العلم السكينة. فإذا علّمتَ أحداً فلا تعنّف، وإذا علّمك أحد فلا تأنَف، ولا تمنع العلم أهله فتأثم… وتذكّر أنه لا يُعرف ذوو الألباب في حين الرضا، إنما يُعرفون في وقت الغضب”.
العلم عنده سكينة وتواضع، وحِلم وخشية.
يناديه رجل يوماً: أيها العالم الفقيه! فتعتريه رعدة خوف، ويقول: ما أنا بعالم ولا فقيه! لكنني سمعتُ علماً فأنا أحدِّثُ به. إنما الفقيه مَن تورّع عن محارم الله، والعالم مَن خشي الله. وأين أنا من ذلك؟.
وكان يرى العُمُر رخيصاً في طلب العلم النافع، ويرى اللحظة الواحدة أغلى من أن تُصرف في معصية. وكان يقول: لو أن رجلاً ذهب إلى أقاصي الأرض في طلب كلمة تنفعه، ما رأيتُ عملَه ضائعاً، ولو مشى خطوة في ابتغاء شهوة لرأيتُ مَشيَه عقوبة وضياعاً.
وكان، على جلالة قدره، يتلقى الحكمة عن أهون الناس شأناً. فلقد رأى أعرابياً يدأب على حضور مجلسه، وكان يلوذ بالصمت. فقال له الشعبي: ألا تتكلّم؟! فقال الأعرابي: “أسكتُ فأسلَم، وأسمعُ فأعلَم. وإنّ حظّ المرء من أُذنه يعود عليه، أما حظّه من لسانه فيعودُ على غيره”. فظلّ الشعبي يردّد كلمة الأعرابي ما امتدّت به الحياة.
ولقد امتدّ به العمر حتى أظلّه زمنٌ كثُرت فيه الفتن، فهو يخشى أن تزِلّ به قدمٌ بعد ثبوتها، وهو يحِنُّ إلى أيام شبابه حين كان يتلقى العلم غضّاً نقياً من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم،

فيعظّم الذين تلقّى عنهم العلم، ويقدر هذا العلم قَدره.
يسأله رجل يوماً: ما قولُك في هذين الرجلين: عليّ وعثمان؟. فيكسو الشحوب محيّاه، ثم يقول في أناة: “إني والله لفي غنى عن أن أجيءَ يوم القيامة خصيماً لعثمان أو لعليّ، رضي الله عنهما”.
ويسأله آخر مسألةً فيجيبه: “قال فيها عمر كذا، وقال فيها عليّ كذا…”. فيقول السائل: وأنت ماذا ترى؟. فيُطرق في ذُهول ثم يقول: “وما تصنعُ برأيي بعد قول عمر وعليّ؟!”.
ويحنّ إلى أيام كان يجالس فيها شُريحاً بن الحارث القاضي، فيستمدُّ من عِلمه وحِلمه وحِكمته… سمِعَه مرةً يقول: “ما خُضت في فتنةٍ قط، ولا تتبّعتُ خُطاها، ولا ظلمتُ مسلماً ولا معاهداً… وأخاف ألا أكون نَجَوت”!. فقال له عامر: “لو كنتُ مثلك لما باليتُ متى أموت. قال شُريح: “بل أخاف أن يكون قد لابسَ قلبي من ذلك كلّه شيء”.
رحمَ الله عامراً وشُريحاً، ونضّر الله مدرسةً تَخَرّج فيها أعلام كِرام بهم تَعمُرُ الدنيا إلى يوم القيامة، وبهم تزهو جنة الخُلد.

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى