عالم السادة والعبيد.. كيف تلتقي الليبرالية الجديدة مع فلسفة نيتشه؟
إعداد شريف مراد
حمل العقد الأخير صورة بانورامية عن عالم يبدو أنه في مرحلة تحوّل كبير، فتحديدا منذ بداية الأزمة المالية العالمية في العام 2008-2009، يرى عدد من المراقبين أن العقد اللاحق لتلك الأزمة كان أكثر عقد شهد حراكا شعبيا وسياسيا اجتماعيا من حيث الكثافة وحجم الانتشار منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت التظاهرات الشعبية الواسعة واحتلال الشوارع والميادين والمساحات العامة هو شكلها الرئيسي، بداية من الاحتجاجات والمظاهرات في اليونان في العام 2010 والتي تجدّدت مع اندلاع الربيع العربي في الشرق الأوسط مع العام التالي، الربيع الذي كان أول الفتيل لحركة تظاهرات عالمية جماهيرية ضخمة في أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية، وظهور حركات احتجاجية منظمة على نمط حركة “احتلوا وول ستريت” استمرت لسنوات تلت، مرورا بمظاهرات البرازيل وبروكسل في 2014، والصعود الكاسح للشعبوية في الغرب كله، وصولا إلى مظاهرات السترات الصفراء في فرنسا نهاية العام الماضي، ثم تجدّد المظاهرات في مصر واندلاعها بقوة في السودان والجزائر ولبنان وتشيلي.
أتى هذا العقد الذي بدا حيويا ومثيرا جدا، على الرغم من قتامة العديد من مشاهده، بعد عقود طويلة من حالة موات سياسي وتفاؤل عالمي بانتهاء الصراعات السياسية الحادة واستقرار الأنظمة السياسية والاقتصادية القائمة، وهو التفاؤل الذي تعزّز بشدة بعد انتهاء الحرب الباردة قبل أن يتحطّم على صخرة الأزمة المالية الأعنف في تاريخ الرأسمالية في العام 2008، حيث يذهب عدد واسع من المحللين السياسيين والاقتصاديين إلى أن تلك الأزمة تحديدا كانت فاتحة العقد الصاخب الذي ما زلنا نعيشه ونسمع دويّ هتافاته.
وعلى الرغم من التباينات والسياقات المختلفة لكلٍّ من الأزمات والاحتجاجات الشعبية والبنية السياسية في كل بلد، بداية من اليونان والربيع العربي وحركات “احتلوا وول ستريت” وصولا إلى السودان ولبنان وتشيلي والجزائر، فإنها في تزامنها ومكوّناتها وحضور الجانب الاجتماعي والاقتصادي في مطالبها ليست منفصلة عن بعضها، بل تبدو -في أحد مكوّناتها- كحراك عالمي ممتد ضد سياسات عالمية لها فلسفة موحّدة ومتماسكة في كل بلد، سياسات ربما هدّدت شرائح الطبقات الوسطى على مستوى العالم وظلّت تدفعهم للخروج للشوارع طيلة عشرة أعوام، بداية من اليونان ومصر وتونس في بداية العقد إلى لبنان وتشيلي في نهايته، أطلق عليها جورج مونبوت “الأيديولوجيا التي تتجذّر في كل مشاكلنا”، وما عناه جورج تحديدا كان الأيديولوجيا النيوليبرالية.
العقيدة والأيدولوجية التي زحفت بخطوات جريئة وعنيفة وقاسية منذ سبعينيات القرن المنصرم كما تحكي نعومي كلاين، حيث شكّل صعود عقيدة النيوليبرالية الحاضر الذي نحياه الآن، فجاء ذلك الصعود مليئا بالعنف والقسوة والأزمات والكوارث ليُعيد تشكيل حاضر العالم ومستقبله، فالمستقبل ليس نبوءة في بلورة سحرية ولا حتمية نهائية، بل هو نتيجة ماضٍ قريب وحاضر يتشكّل من ردود أفعال البشر على ذلك الماضي، وخلال تلك السلسلة من الفعل ورد الفعل، ترسم مسارات التاريخ من نضال الشعوب واحتجاجاتهم القائمة والمستمرة، والتي تُعبِّر عن قوى اجتماعية أو سياسية موجودة أو قيد التشكّل تكافح من أجل عالم فيه مزيد من العدالة الاجتماعية التي نجحت الأيدولوجية الليبرالية الجديدة في محوها تاركة ملايين البشر في عجز وفقر مدقع.
“Neoliberalism was born in Chile and will die in Chile” pic.twitter.com/Gaa90j8zdH
— UptownBerber (@HishamAidi) October 28, 2019
يرى المؤرخ والأكاديمي ديفيد هارفي أن النيوليبرالية كأيديولوجيا سياسية مرتبطة بقدر كبير بفلسفة ما بعد الحداثة والحراك الثقافي العالمي الذي تم تشييده بناء على تلك الفلسفة، فمفاهيم مثل نسبية الحقيقة والتعددية الثقافية والثقافات المضادة أو ثقافة الأقليات ونقد المجتمع والبيروقراطية والدولة وتشجيع النزعة الفردانية كلها من تجليات ما بعد الحداثة، وتتقاطع مع الليبرالية الجديدة والعولمة كمشاريع سياسية بالقدر نفسه تقريبا، وهو ما يُفسِّر بحسب ديفيد هارفي سبب ازدياد الاهتمام بالفيلسوف الألماني “فردريك نيتشه” في الفترة الزمنية نفسها الذي يعدُّه البعض أفق ما بعد الحداثة، بل إن الدراسة الأكاديمية الفلسفية في الجامعات الغربية باتت عبارة عن حوار مع فلسفة نيتشه بالتحديد، فضلا عن الافتتان الأخلاقي والجمالي الواضح بالشخصيات النتيشوية العدمية التي تُعادي القانون والمجتمع في السينما والأدب.
يزداد هذا الكلام وجاهة حين نكتشف التشابهات بين الأسس الفلسفية لليبرالية الجديدة -وهي ليست بالكثيرة- وبين فلسفة نيتشه في رؤية كلا الطرفين للطبيعة الإنسانية والأخلاق والتاريخ وحتى لسلطة الدولة وفكرة المجتمع، نندهش من حجم المشترك الفلسفي المرعب بين الجانبين، حيث يرى الفيلسوف والاقتصادي النمساوي فريدريك فون هايك -المُنظِّر الأهم لليبرالية الجديدة وأستاذ ميلتون فريدمان- في كتابه “دراسات في الفلسفة والاقتصاد” “أن الطبيعة الإنسانية مُبهمة وغير محددة، وأنها في حالة تشكّل دائم لا ينقطع، وهي تترك المجال مفتوحا لأي تغيير، وفي اتجاهات لا يمكن التنبؤ بها سلفا، وباستثناء العوامل البيولوجية والفيزيقية لا توجد ماهية ثابتة للإنسانية ولا لحدودها”، بينما أكثر عبارة ظل يرددها نيتشه في غالبية كتبه هي: “الإنسان وهم لا بد من تجاوزه”، فمقولة الإنسان والإنسانية عند نيتشه هي فكرة ميتافيزيقية-دينية محضة من بقايا المسيحية في الوعي الغربي وتُخفي خلفها نزعة لإرادة السيطرة والقوة، وعلى البشرية -كما يرى نيتشه- أن تتحرّر من هذا الوهم تماما وتُعلن إرادة القوة وقوة الإرادة، كحكم وحيد على نظام العالم، فيرفض هايك وجود أي مفهوم سابق للإنسان، ويرفض نيتشه مقولة الجوهر الإنساني كمصدر للوعي والأخلاق ويعتبرها مجرد وهم مسيحي ونرجسية أوروبية.
يتفق هايك في نقطة محورية أخرى مع نيتشه رغم تباعد الغايات عند كلٍّ منهما، وهي رفض التقدم والحركة الغائية للتاريخ، يرى هايك أن مفهوم التقدم مفهوم دولتي وسلطوي، وأن التاريخ ما هو إلا حركة تطور تلقائي يحكمه عوامل لا دخل لأحد بها، “فالتاريخ ليس اقترابا من هدف معلوم، لأن التاريخ لا يتحرك بفعل عقل بشري يناضل باستخدام وسائل معلومة نحو تحقيق غاية معينة، ولكن حركة التاريخ موكولة للتطور التلقائي الذي يحدث بفعل الصراع بين الأفراد على الموارد وإشباع الحاجات”، وهنا يخالف هايك حتى الليبرالية الكلاسيكية التي تفترض أن حركة التاريخ تتقدّم للأمام باتجاه تحقيق أكبر قدر من الإشباع وأكبر قدر من السعادة، فهايك والليبرالية الجديدة هي أول أيديولوجيا سياسية في العالم لا تَعِدُ أي أحد بأي شيء، ولا حتى مجرد وعد كاذب بالسعادة، لا يوجد في تاريخ الفلسفة أي طرح شبيه بهذا سوى طرح نيتشه عن التاريخ، فحركة التاريخ عنده ليست أكثر من محافظة وتكرار، يقول نيتشه: “إن كل اتجاه يرى التاريخ على خط مستقيم تقع الحقيقة في نهايته إنما هو اتجاه مكذوب، فالحقيقة منحرفة، لأن الزمان نفسه خط مستدير لا أول له ولا آخر”، ويرى نيتشه أن القول بالتقدم وخطية التاريخ أوهام إنسانية تؤسس لوهم العدالة والسعادة والنهاية السعيدة، ومثل هايك والنيوليبرالية لا يعد نيتشه أي أحد بأي شيء، ولا حتى بالعدالة.
ونقطة الالتقاء الأكثر جذرية بين فلسفة الليبرالية الجديدة وبين نيتشه وما بعد الحداثة عموما تقبع في نظرة كلٍّ منهم إلى فكرة الحقيقة، فبينما كانت الليبرالية الكلاسيكية مُحمَّلة بأفكار عصر التنوير ترى قدرة الإنسان على الوصول إلى الحقيقة والمعرفة الموضوعية، عبر العلم وتحرير العقل الإنساني من خرافات اللاهوت والتعصب المذهبي، بشكل يسمح للإنسان للوصول إلى أفضل طريقة لإدارة مجتمعه وحياته، وتحقيق أفضل استغلال للموارد، فعبر العقل والعلم وحدهما يمكن للإنسان القضاء على كل المشكلات التي واجهته طوال تاريخه، ليصل إلى المجتمع المثالي حيث تتجسّد المعرفة الموضوعية النهائية داخل مجتمع طوباوي خاضع لسلطة العقل والعلم فقط؛ تذهب الليبرالية الجديدة مع نيتشه إلى استحالة الوصول إلى الحقيقة أو المعرفة الموضوعية، والحجج المقدمة تصل إلى حد التطابق، حيث يرى فون هايك أن الحقيقية والأخلاق “ليست مقولات فطرية وأنطولوجية معطاة سلفا وتنتظر اكتشافها والوصول إليها، بل هي مفاهيم يتم بناؤها عبر تراكم مفتوح من عمليات اجتماعية واقتصادية متنوعة، يتم من خلال هذا التراكم تشكيل وتعديل مفهوم الحقيقة ومفهوم الأخلاق والعلم مع تغيّر السياقات المنتجة لتلك المفاهيم”.
يكتفي هايك بالإشارة إلى التراكم والتطور التلقائي المحايد الذي تتشكّل من خلاله الحقيقة والمعاني، دون التفصيل في الكيفية التي تتشكّل بها تلك الرموز والمقولات المؤسسة للعالم الذي يعيشه الأفراد، خاصة بعد أن قام بإنكار أي جوهر ثابت للطبيعة الإنسانية وأي غاية للتاريخ، وحيث يسكت هايك يرمي نيتشه وفلاسفة ما بعد الحداثة بكل ثقلهم، فإذا كنا قد فقدنا صلتنا بالإله، وحطّمنا الأصنام التي حاولت أن تحل محله كالعقل والإنسان والتقدم، فإن كل حقيقة هي في التحليل الأخير غطاء لإرادة قوة وسيطرة تقبع وراءها.
إرادة القوة والسيطرة والصراع هي التي تُشكّل الحقيقة والمعنى وتبرّر بها ومن خلالها هيمنتها، فإرادة القوة والسيطرة عند نيتشه هي جوهر الحياة ومحرّكها الأساسي، والحقيقة كما وضّح عدد من فلاسفة ما بعد الحداثة مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا هي صنيعة علاقات القوة وشبكات السلطة والهيمنة في فترة تاريخية معينة، وهو ما سكت عنه فون هايك الذي بدا هنا ليبراليًّا كلاسيكيًّا لا يأبه بإرادة القوة ولا بعلاقات السلطة والصراع والهيمنة ودورها في إنتاج الحقيقة والمعنى داخل أي مجتمع أو أي سياق تاريخي معين، فبعد تفكيك الوعي الذاتي الخلّاق للإنسان، ماذا يبقى للفيلسوف الليبرالي ليقوله؟
يبدو الاختلاف بين فيلسوف الليبرالية الجديدة فون هايك ونيتشه اختلافا في الصياغة ليس أكثر، فالمفاهيم المجردة تكشف عن بنيتها الداخلية الحقيقية عند دخولها العالم الاجتماعي المُعاش، فبعد تفكيك هايك لكثير من الأُسس التي قامت عليها فلسفات التنوير والحداثة والليبرالية الكلاسيكية، تظهر مفاهيم مركزية في كتاباته تُعَدُّ هي المركز الذي يدور حوله مشروعه الفلسفي والسياسي، فنجد التنافس الاقتصادي على الموارد والثروة والسوق الحر الخالي من أي تدخل حكومي هي المفاهيم والآليات التي من شأنها تعزيز رفاهية الأفراد والمجتمعات وتحقيق أكبر قدر ممكن من الحرية والإشباع.
ويُعلِّق الدكتور الطيب بوعزة أنه مع الانتشار الأيديولوجي للنيوليبرالية في سبعينيات القرن الماضي على حساب الليبرالية الاجتماعية، التي عملت على تحقيق توازن بين حرية السوق ودور الدولة والمجتمع في تحقيق سياسات العدالة والتشغيل، أخذ يُطرح مفهوم السوق بصيغة فاعل مطلق واحد لا شريك له، مردفا أن “المنظور الليبرالي الجديد يدفع برؤية لا تجعل من السوق عاملا اقتصاديا فقط، ولا فاعلا أو مؤسسة من بين فعاليات ومؤسسات أخرى، بل كيان مقدس، يحرم التدخل فيه أو حتى توجيهه من قِبل سلطة خارجية عليه أو مجرد التشارك مع أي مؤسسة أخرى”.
فبعد نزع السحر والقداسة عن الأخلاق والفطرة الإنسانية والتاريخ، كان السوق والتنافس الاقتصادي هو الشيء السحري أو الجوهري في الليبرالية الجديدة، وهنا تحديدا تكمن أهمية الربط بين نيتشه والليبرالية الجديدة بصفة عامة، فنيتشه تحديدا قام بتقويض النزعة الإنسانية تماما في كتابه “ضد المسيح”، ثم أعلن أنه بنهاية قداسة الإنسان والأخلاق والتقدم باتت البشرية بحاجة إلى إحداث انقلاب في نوعية القيم والأخلاق، فما يسميه هايك أخلاقيات السوق والتنافس على الموارد والثروة سماه نيتشه على حقيقته بإرادة القوة، حيث دعا في كتاب بالعنوان نفسه إلى إحداث انقلاب في القيم يستبدل بموجبه قواعد أخلاقية تدافع عن حقوق الأقوياء وذوي البنية السليمة في وجه جمهور العبيد والفقراء والمعدمين والضعفاء وهزيلي البنية وذوي الإعاقة والعجائز من كبار السن، عملاء العدم كما أطلق عليهم، بالقواعد الأخلاقية التقليدية والقيم المسيحية.
أتت الليبرالية الجديدة لتقضي على كل إنجازات دولة الرفاه الاجتماعية لتنشر الفردانية وتحطم شبكات الدعم والتضامن الاجتماعي
وخلال ذروة صعودها في تشيلي ثم في الولايات المتحدة وبريطانيا ووصولا إلى الصين ثم أغلبية دول العالم، قامت الأنظمة الحاكمة التي امتثلت للأجندة النيوليبرالية بإلغاء السياسات العامة وتفكيك المؤسسات الحكومية التي حمت المواطنين من مخاطر وتقلبات الأسواق، وألغت الدعم على السلع الأساسية المعززة للرفاه -كالسكن والرعاية الصحية ومعاشات التقاعد لكبار السن والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة ومعاشات التأمين ضد البطالة- التي كانت توفرها دولة الرفاه وأنظمة الليبرالية الاجتماعية بشكل ملائم.
كان نيتشه خلال كل ما كتبه، خاصة في كتابه الأخير “إرادة القوة”، يظهر دائما عدوًّا للديمقراطية والمرأة والمساواة والرحمة والحب والأغلبية والعبيد والزهد والعجزة والمرضى والعقل والعدالة، أي ضد كل ما تُمثِّله فلسفة دولة الرفاه الاجتماعية تقريبا، حيث الإنفاق الحكومي الضخم والأسواق التي تعمل وفق سياسات أوسع تهدف لتحقيق أكبر قدر ممكن من عدالة التوزيع والقضاء على الفقر والبطالة وتقليل التفاوت الطبقي وتحقيق قدر كبير من الأمن الاجتماعي، أتت الليبرالية الجديدة لتقضي على كل إنجازات دولة الرفاه الاجتماعية لتنشر الفردانية وتحطم شبكات الدعم والتضامن الاجتماعي وتعزز الداروينية الاجتماعية وتعمم أخلاقيات السوق وإرادة الأقوياء على الفضاء الاجتماعي بأسره، تماما كما كان يحلم نيتشه قبل أكثر من قرن.
“ليس ثمة شيء اسمه المجتمع، بل إن هناك أفرادا فحسب”
(مارجريت تاتشر)
في العام 2005، قبل وقوع الأزمة المالية بعامين، كتب الأكاديمي والمؤرخ الاقتصادي ديفيد هارفي كتابه الأهم “الليبرالية الجديدة: موجز تاريخي”، يرى هارفي أن النيوليبرالية منذ صعودها انتهجت خطا رئيسيا في تحطيم العالم الاجتماعي الذي سمح لها بالصعود، أي إحداث تغيير جذري في بنية العلاقات السياسية-الاجتماعية التي قامت النيوليبرالية على أنقاضها، وهو يظهر -بحسب هارفي- في تقاطعها مع خطابات ما بعد الحداثة لتفكيك مفاهيم العالم الاجتماعي القديم، كرفضها لمفهوم أولوية المجتمع باعتباره سحقا لفردية الإنسان، ولمفاهيم التكافل والضمان الاجتماعي التي ترعاها الدولة باعتبارها هيمنة، وتشجيع صيغ العمل الهش والعمل الحر والمرن لتفريغ أشكال التكتلات المهنية الجماعية من محتواها مثل الاتحادات العمالية والنقابات المهنية وآليات التعبئة السياسية التقليدية عبر تفكيك الاقتصاد الصناعي الضخم الذي قامت على أساسه وفي مواجهته تلك التنظيمات، ثم تجزيئه ونشره عبر العالم، بمشاريع وتعاقدات قصيرة ومتوسطة الأجل وغير ثابتة، فضلا عن تفكيك سلطة الدول الفعلية ونقلها إلى المؤسسات الدولية غير المنتخبة كصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والاتحاد الأوروبي والسلطة السياسية المتنامية للمصارف والبنوك المحلية والعالمية، وأخيرا إضعاف الطبقات الوسطى ذات الثقافة المحلية المحافظة في أي مكان استطاعت النيوليبرالية السيطرة عليه لصالح ثقافة فردانية كوزمولبوليتانية متحررة، بما يعنيه ذلك من إضعاف للمجال السياسي المحلي بتفريغه من قواعده الاجتماعية.
مما أدّى إلى خلق حالة اجتماعية عالمية غير مسبوقة من الفردانية والتشظي الاجتماعي وضعف التنظيم باتت هي سمة عصر ما بعد الحداثة والليبرالية الجديدة، حيث سادت أشكال تنظيمية هشة وغير فعّالة سياسيا واجتماعيا كالمؤسسات الخيرية والمنظمات الحقوقية بوصفها وسائل التضامن الاجتماعي والنضال السياسي الوحيدة في العصر النيوليبرالي، قضت حالة الفردانية والسيولة تلك على أي حياة اجتماعية ذات معنى، وفرّغت المجال العام المحلي والدولي من أي وعي جماعي قابل للبناء عليه لمقاومتها، وتحت وقع انهيار العالم الاجتماعي “أصبح التقصي النرجسي عن الذات والهوية والميول الجنسية والتحقق الفردي هو الحراك الرئيسي، وهو حراك ما بعد حداثي وما بعد سياسي بامتياز، وأصبحت الآمال والرغبات والهموم الفردية، وخيارات سبل وأساليب الحياة والعادات والتوجهات الجنسية والهوية الجندرية وصيغ التعبير عنها وعن الذات وأنماط السلوك تجاه المغايرين جنسيا، هي مواضيع الصراع الاجتماعي والأيديولوجي الرئيسية، مما عزّز من حالة التفكك والسيولة مع انهيار كل روابط التكافل والتضامن الاجتماعي، لأن المجتمع نفسه أصبح هو المتهم وليس رأس المال، لنصبح أمام وضعية تقترب من شفا الفوضى الاجتماعية والعدمية”.
فوق هذا الركام السياسي والاجتماعي يظهر جانب نيتشوي جديد في الليبرالية الجديدة، فبعد تحطيمها للعالم الاجتماعي القديم تمضي النيوليبرالية في صنع عالمها الخاص، فتمجّد عالم رواد الأعمال والذوات الريادية الاقتصادية، وتدعو إلى الاعتماد المطلق على الذات والفردية الصارمة وحب المغامرة واقتناص كل الفرص، وتساوي السعي غير المقيّد وراء المنفعة الذاتية وتحقيق الثروة بحرية الإنسان، وتمجّد تراكم الثروات الخاصة، فرائد الأعمال الشاب أو الملياردير الرأسمالي العجوز هو الإنسان الأعلى الذي نادى به نيتشه وصنعته له الليبرالية الجديدة، واللا مبالاة الاجتماعية والأخلاقية والأنانية والتمركز حول الذات هي سمات رئيسية في الذات الريادية النيوليبرالية، وكذا الإنسان الأعلى الذي يريده نيتشه ليس عنده ما يسميه نيتشه أخلاق العبيد، مثل مشاعر التضامن والتعاطف والرحمة والإيثار، إنسان أعلى یحطم كل القیم وكل المعايير البشریة ويمضي نحو مجده الخاص بلا عقبات، ليس لطموحه حدٌّ فهو دائم التطور، يعمل على تحسين ذاته ويستثمر في نفسه، فهو خالق ذاته لا فضل لأحدٍ عليه.
في كلٍّ من تظاهرات تشيلي ولبنان، وبدرجة أقل كثافة ووضوحا في مصر هذا العام، تُرفع شعارات ومطالب تبدو متشابهة، فالثوار في كلٍّ من لبنان وتشيلي يهتفون بسقوط سلطة المصارف وصندوق النقد وضد سياسات التقشف العام، وقد سبقهم ورفع هذه الشعارات نفسها المتظاهرون في حركة “احتلوا وول ستريت” ومتظاهرو اليونان والبرازيل وبروكسل وطلاب الجامعات الأميركية على امتداد الولايات المتحدة، هاتفين بسقوط الدَّين العام وسقوط سلطة الديون والبنوك، بل إن المتظاهرين في لبنان بدؤوا بالفعل في الاحتشاد أمام المصارف، وفي تشيلي قاموا بمهاجمتها بشكل متكرر تماما مثل متظاهري وول ستريت، في تشابه دال وبليغ على الأيديولوجيا والهيمنة التي تتحرك فئات عالمية واسعة ضدها الآن.
في كتابه “دراسة في الوضعية النيوليبرالية” يرى الفيلسوف والأنثروبولوجي الإيطالي موريزيو لازارتو إن القروض وصناعة الديون ليست أزمة عرضية أو نتيجة لسياسات خاطئة، بل “إن صناعة الدَّين هي المحرك الأساسي للاقتصاد النيوليبرالي، فالقروض والديون هي في جوهرها بناء لعلاقة قوة سياسية بين الدائنين والمَدينين، علاقة سياسية وسلطوية تم تطويرها وتصميمها بوصفها القلب النابض الإستراتيجي لهيمنة السياسات النيوليبرالية”، فعبر الديون العامة للدول تصبح المجتمعات كلها مَدينة تحت رحمة المؤسسات المالية الدائنة كالمصارف وصندوق النقد. فالدَّين يشتغل كآلة لاستنزاف المجتمع وافتراسه في عمومه والاستيلاء على الأملاك العامة للمجتمع، فيجد الأفراد أنفسهم وقد أصبحوا دون أي ضمانات من أي نوع؛ لا ضمان صحي ولا وظيفي ولا معاش للشيخوخة ولا دعم لأي سلعة أساسية حتى الماء، فيتحطم المجتمع بكل أشكاله ويصبح الفرد وحيدا في العراء تماما، وعليه أن يعمل ويكدّ كالعبيد في العصور الوسطى حتى يجد طعاما وشرابا وعلاجا وتعليما، وإلا فأسوأ كوابيسه واردة الحدوث فعلا لا مجازا.
كتاب “دراسة في الوضعية النيوليبرالية” للفيلسوف والأنثروبولوجي الإيطالي موريزيو لازارتو (مواقع التواصل) |
في حقبتها البطولية قامت الليبرالية الكلاسيكية والرأسمالية المبكرة بتفكيك العالم الإقطاعي التقليدي وتحرير العبيد من عبوديتهم، والسماح للجميع بحرية الحركة والتصرف والحياة في مجتمع حديث برجوازي وصناعي، وفي العديد من الأطروحات الاجتماعية والليبرالية الكلاسيكية كانت ترى أن تشكيل مجتمع حديث يقوم على أساسين، الأول هو التشارك، حيث يجتمع أفراد لهم ثقافة وهوية ومصالح مشتركة ليديروا مصالحهم واختلافاتهم البينية بصورة مدنية، والثاني هو التبادل الرمزي والمادي حين يقرر هؤلاء الأفراد الأحرار المتساوون تبادل وتشارك مواردهم وقوة عملهم لتحقيق أكبر قدر من الإشباع والمنفعة، صبغت تلك النظرية العديد من أسس العلوم الاجتماعية كالاقتصاد السياسي والعلوم السياسية والنفسية.
على النقيض كانت مساهمة نيتشه تحديدا تكمن في قلب تلك النظريات رأسا على عقب، موضحا أن تشكيل المجتمع يتم بشكل رئيسي بترويض الإنسان وفرض السلطة الرمزية ثم المادية داخله، يستخدم نيتشه في مقالته الثانية “في جينالوجيا الأخلاق” مفهوم الذنب كمفهوم رئيسي في تشكُّل أي مجتمع حديثا وقديما، فعبر الشعور بالذنب ووطأة الإحساس بالنقص وعدم الاندماج يقبل الإنسان أن يروض ذاته وغرائزه ونزعاته الأنانية البربرية ورغباته ليتم قبوله داخل وسط اجتماعي ما، فينال الإحساس بالاعتراف والتقدير ويتحقق له وجوده الاجتماعي والأخلاقي، هكذا يجعل نيتشه من تخليق الشعور بالذنب عند الأفراد “براديغم” لفهم العديد من العلاقات الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع لحظة تشكُّله ولحظة التحولات الجذرية داخله، فالقانون والأخلاق الاجتماعية والخطاب العام والأديان والآلهة كلها عند نيتشه هي أحد أشكال تخليق الشعور بالذنب والنقص وتعميمه عند الأفراد لفرض سلطة رمزية ما قبل أن تمتلك القوة المادية فتصبح سلطة مادية لها قدرة على العقاب بصورة شرعية.
هنا يظهر الوجه النيتشوي الأكثر إظلاما ووحشية في النيوليبرالية التي تحكم الناس عبر علاقة سلطة الدائن-المَدين، وهي علاقة كونية تسعى المؤسسات النيوليبرالية لإدراج العالم كله داخلها، فعلاقة سلطة الدائن-المَدين تعني الحكم عبر الذنب لترويض الذات الإنسانية ونزوعها الفطري نحو العدالة والسعادة التي لا تؤمن الليبرالية الجديدة بأيٍّ منهما، لتفرز علاقات خاصة مخالفة لعلاقات وأخلاقيات العمل وفي الوقت نفسه مُكمِّلة لها، فالمفهوم القديم للعمل “الجهد مقابل الجزاء” تم تطويقه بمفهوم الذنب والتقصير والسمعة الأخلاقية والوعد بالوفاء بالدَّين واستشعار الذنب والهشاشة الأصلية لأنك شخص مَدين ولست طرفا في عملية تفاوضية حول الراتب والأجر وشروط العمل.
الأمر نفسه ينطبق على المجتمعات في اليونان ومصر وتشيلي ولبنان وغيرها، فالنظر إلى الدَّين بوصفه النموذج الجديد للعلاقة الاجتماعية يعني من جهة إعادة تأسيس الاجتماع السياسي بعلاقات قوة وهيمنة خارج العقد الاجتماعي الليبرالي الكلاسيكي الذي يفترض تساوي المواطنين والمؤسسات أمام القانون والسلطة القضائية، حيث تظهر الديون العامة كأدوات حوكمة سيادية في شكل مرجعية سياسية وأخلاقية وقضائية وحيدة، على عكس الفكرة الدستورية الليبرالية الأولى التي تقوم على التساوي الأخلاقي والقانوني بين المواطنين والمؤسسات فإنه يتم تطويق هذه الفكرة بتحويل المواطنين في مجملهم إلى مَدينين واقعين تحت رحمة المؤسسات الرأسمالية التمويلية والتي باسم الدَّين لها الحق في تحديد شكل الحياة والاستهلاك والإنفاق والدعم وتقييمها أخلاقيا وسياسيا وقضائيا ومعاقبتهم طبقا لمعايير يحددونها بأنفسهم بلا تفاوض مع أحد.
رجل يحمل لافتة أثناء الاحتجاجات ضد حكومة تشيلي تقول “أنا لا أخاف أن أموت، لكني أخشى أن أتقاعد” (رويترز) |
في صورة بليغة ودالة، يشبّه موريزيو لازارتو الحكم بشرعية الديون بالحكم الإقطاعي، لا سيما أن الدائن بات يمكنه تسليط عقاب على جسم المَدين عبر كل أشكال الإهانة وتحطيم الوجود الأخلاقي والاجتماعي، أو حتى عبر السجن أو نزع الممتلكات الخاصة، أو كل ذلك معا طبقا لقانون يُحدّده الدائن، تماما كما السيد الإقطاعي في العصور الوسطى وهو يعامل رعيته وعبيده، ويدعم ذلك أيضا مقولة الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جان بودريارد: “مع هيمنة القرض، هناك عودة إلى وضعية فيودالية إقطاعية حقيقية، حيث يُحتسب العمل كاستحقاقات سابقة للسيد، لعمل السخرة”.
يُعيدنا كل هذا إلى مفارقة مثيرة للسخرية، ففي نهاية العام 1944، نشر فون هايك كتابه الأشهر “في الطريق إلى العبودية” يحذر فيه من التوجهات السياسية والاقتصادية التي سادت عقب نهاية الحرب العالمية، من دعوة الدولة للتدخل في إدارة الأسواق، وقيام الدولة بأدوار اجتماعية واقتصادية، ما عُرف وقتها بدولة الرعاية الاجتماعية أو دولة الرفاه، على النقيض حذّر هايك من أن ذلك هو الطريق إلى الشمولية والعبودية، وأن تضخم أدوار الدولة يسحق الحرية والإبداع والفردية لدى الناس ويضع الناس تحت رحمة هتلر جديد وستالين جديد، ودعا إلى تحجيم دور الدولة وفتح الحرية التامة أمام الأسواق وأمام المؤسسات المالية ورواد الأعمال للتحرك بلا أي عوائق، لم يتخيل أبدا هايك أن هذا الطريق الذي يدعو إليه ربما على نقيض الذي حذّر منه، هو تحديدا، أكثر من غيره، الطريق إلى العبودية.
(المصدر: ميدان الجزيرة)