عاصوف ضد (العاصوف)
الأدلجة قد تنتج إبداعاً، وقد تفشل، والتجارب الأدبية والفنية تشهد على هذه الحقيقة، وتشهد أن الإيغال في الأدلجة يهضم الجانب الإبداعي؛ لأن الفكرة يجب أن تكون مخدومة لا خادمة، وخادمها خارج عنها، يدفع بها إلى الأمام برشاقة، حتى كأنها غير مندفعة أو مدفوعة.
كل تيار يروم التغيير في مجتمع يتوسل الكتابة والحجة والإقناع وحشد مبررات التغيير، كرصد التحولات في اختيارات الناس من وإلى؛ لذلك ينجح المنظّرون والمفكرون في العالم في إحداث التحولات التي يعتقدونها الحق؛ ذلك أنهم يتكئون على فكرة تمخضت عن مقدمات تم رصدها بدقة، ولم يكن للفن حتى الآن دور الناقد أو الهامشي في زخرفة الفكرة وتصميم فستانها وتصفيف شعرها، وما إن يدخل الفن حتى يجازف في ثنائيته مع الفكرة، فإمّا أن يخدمها أو يخذلها، ولا وسط بين النجاح والفشل.
وقد مرت الدراما العربية والسعودية بهذه التجارب الحرجة، يتصدرها مؤلف وكاتب سيناريو ومخرج وطاقم من الممثلين التأموا حول مشروع أجمعوا على أنه إبداعي استثنائي، أو هكذا صورته لهم حالة التلقي لمفهوم الفن ذاته، ولعل مسلسل (العاصوف) يمضي في هذا الاتجاه.
(العاصوف) نص حواري يروي حالة المجتمع السعودي قبل خمسين عاماً تقريباً بتفاصيل البساطة والتلقائية التي كان يعيشها السعوديون آنذاك، حسب ما يراه الكاتب المعروف بصدامه للتيار الديني وثقافة الفتوى السائدة، ويؤطره زمنياً بـ(ما قبل الصحوة)، راصداً مواقف درامية وشعورية سادت في مرحلة ما قبل (العاصوف)، وكان المغزى الرئيس من العمل هو إحداث مقارنة صادمة للمتابعين الذين عاشوا ذاك الزمن أو بعده، فكلاهما مستهدَف، فالأول يتذكر والثاني يتفاجأ، ولا بد للتذكر والتفاجؤ أن يكونا إيجابيين لإضفاء مصداقية على المسلسل وواقعيته وأهليته لتوعية الأحياء بمقارنة تنتهي إلى تعزيز فكرة، مفادها أن البساطة عُصف بها إلى التعقيد، والفطرة انقلبت تطرفاً، والمحبة تردّتْ إلى إرهاب، ومرده إلى العاصوف الصحوي، كما يجليه النص والأداء.
الإبداع أزمة تستبد بالذي يحاول أن يكتب باستفاضة عن فكرة ضامرة الحجم، ويحجب التلقائية الإلهامية في تناول ظاهرة ثقافية، فيحرم القارئ لذةَ المفاجأة داخل العمل الذي لن تتحقق ما بقي الكاتب يكتب ليهزم ويكتسح ويدمّر ويفضح ويثور… إلى آخره من طابور عُصابيات تخيل نعومة الفن إلى صراع لا تطيقه الذائقة الشفيفة.
تهمة الضعف الفني لازمت ناصر القصبي وفريقه منذ (طاش) إلى (العاصوف)، والحشو والابتذال والالتفاف على الحقيقة عناصرُ ثابتة في مجمل الأعمال التي يشارك فيها، غير أن الاحتقان ضد الحالة الدينية يبلغ بالنص والأداء مبلغ التشنج وفقدان التوازن الضروري للظهور أمام المشاهدين بمظهر المبدع المحايد الذي يقدم الخطأ بلطافة ويعالجه بوقار.
ردُّ الفعل ضد (العاصوف) لم يكن دينياً فحسب، بل طال كافة شرائح المجتمع وأطيافه الفكرية والشعبية، وامتدّ للمرة الأولى إلى المؤيدين لدراما القصبي وتوجهاتها، بل رفاق دربه الذين يضمرون ذات التوجه المتصادم مع التيار الديني (العاصوف)، وأدلوا بتعليقات حادّة ضد هذا العمل، تنال من واقعيته أو فنيته.
العمل يخفق في معادلة حساسة تنتهي إلى أن الواقع السعودي قبل 40 عاماً كان فطرياً دون أن يحدد ما هي الفطرة وملامحها ومظاهرها وتماسها مع الدين، واستطال الأمر إلى أن القصبي صرّح إعلامياً بأن الهوية السعودية محددة في السنوات ذوات العدد، وما قبلها وبعدها خارج الهوية، ولا شك أن هذا تجنٍّ على مراحل سعودية خرجت عن الهوية، لكن لا نعرف إلى أين ذهبت؟
الإعلام الذي يدافع عن فكرة (العاصوف) نال منه فضجّت الصحافة والمقاطع المرئية بالنقد اللاذع للمحتوى المعلوماتي والكتابة الفنية والأداء الدرامي في انتفاضة وطنية عارمة شملت الفرقاء، واستوت بهم على صعيد واحد، فكانت عاصوفاً ضد (العاصوف)، وصدىً مدوياً لما كتبه نقّاد عن العمل السابق (طاش)، وسطحية التناول وغياب الابتكار، وكأنه مسرح مدرسي، أو مقال تحول إلى مسلسل، قدّم نفسه فنّاً وطنياً اصطدم بالوطنية والوطنيين الذين صنفوه عملاً يشوه التاريخ السعودي الجميل، ويلوث المعاني والفطرة الحقيقية، فما كان يعتبره المسلسل قيماً نبيلة (مندثرة) عُرضت في أسوأ حال وأبشع تصوير واحتل الطارئ مكان الطبيعي والشاذ محل السائد.
المفاجأة الصادمة دفعت المجتمع بأطيافه إلى الاحتجاج والانفعال ضد (العاصوف)، فبادروا إلى الكتابات اللاهبة، والهاشتقات المضادة، مثل هاشتاق (ما كنا كذا). لعل العاصوفيين يستفيدون من أن تصفية الحسابات مع الخصوم لا مكان لها في القيم الوطنية، وسمعة المجتمع وتاريخ الوطن.
(المصدر: موقع المثقف الجديد)