عاصفة فقد الأمل
(حقيقة العدوان السُّعودي الإماراتي على اليمن)
بقلم/ أنور بن قاسم الخضري (خاص بالمنتدى)
وا.. غوثاه:
في 24 مارس 2015م، وإثر هجوم الحوثيين على عدن، بعد سقوط صنعاء في 21 سبتمبر 2014م، توجَّه الرئيس اليمني، عبدربه منصور هادي، بخطاب إلى قادة مجلس التَّعاون الخليجي، يطالبهم فيه بالوقوف إلى جانب اليمن. وشكا هادي في خطابه مِن “الأعمال العدوانيَّة المستمرَّة، والاعتداءات المتواصلة على سيادة اليمن، الَّتي قام -ولا يزال يقوم بها- الانقلابيُّون الحوثيُّون، بهدف تفتيت اليمن وضرب أمنه واستقراره”، “ما جعل الجمهوريَّة اليمنيَّة تمرُّ بأحلك الظُّروف العصيبة في تاريخها”، منبِّها إلى أنَّ “التَّهديد” لم يعد مقتصِرًا على أمن اليمن، “بل أصبح التَّهديد لأمن المنطقة بأكملها، وطال التَّهديد الأمن والسِّلم الدُّوليِّين”.
لم يكن أمام هادي إزاء التَّطوُّرات الخطيرة، سوى أن يستنجد بالأشقاء، “حرصًا على أمن اليمن، واستقراره، وأمن المنطقة، والسِّلم والأمن الدُّوليِّين”، وحماية للشَّعب اليمني، مِن منطلق مسئوليَّاته الدُّستوريَّة، الَّتي تحتِّم عليه –حسب خطابه- رعاية الشَّعب، والمحافظة على وحدة الوطن، واستقلاله، وسلامة أراضيه، للوقوف إلى جانب الشَّعب اليمنيِّ لحماية اليمن.
واستنادًا إلى نصِّ خطاب هادي، فإنَّه طلب مِن القادة الخليجيِّين، “استنادًا إلى مبدأ الدِّفاع عن النَّفس، المنصوص عليه في المادة (51) مِن ميثاق الأمم المتَّحدة، واستنادًا إلى ميثاق جامعة الدُّول العربيَّة، ومعاهدة الدِّفاع العربي المشترك[1]، تقديم المساندة الفوريَّة، بكافة الوسائل والتَّدابير اللَّازمة، بما في ذلك التَّدخُّل العسكريِّ لحماية اليمن، وشعبه مِن العدوان الحوثي المستمرِّ”.
كان هادي يعرف أنَّ دخول الحوثيِّين إلى صنعاء تمَّ بتواطؤ إقليميٍّ ودوليٍّ، وأنَّ مِن بين الأطراف الَّتي ساندت الحوثيِّين لاقتحام صنعاء عواصم خليجيَّة لتحقيق أجندات خاصَّة بها، تقاطعت مع أهداف وأجندات دوليَّة في المنطقة. لكنَّ خروج الأحداث عن السِّياقات الَّتي كان يخطَّط لها، وعن المسارات الَّتي رسمت، أعطى هادي جرعة مِن الأمل في صحوة ضمير أو نخوة عروبة لا تزال باقية في مَن يخاطبهم؛ وكان يظنُّ بأنَّ موقف دول الخليج مع دولة الكويت إبان اجتياح العراق لها سيتكرَّر مع اليمن ودولته.
عاصفة النَّجدة:
جاء الرَّدُّ الخليجيُّ على طلب هادي في بيان صادر عن قادة مجلس التَّعاون، يقولون فيه: “انطلاقًا مِن مسئوليَّاتنا تجاه الشَّعب اليمنيِّ الشَّقيق، واستجابة لما تضمَّنته رسالة فخامة الرَّئيس، عبدربه منصور هادي، مِن طلب لتقديم المساندة الفوريَّة بكافَّة الوسائل والتَّدابير اللَّازمة لحماية اليمن وشعبه مِن عدوان الميليشيَّات الحوثيَّة، المدعومة مِن قوى إقليميَّة هدفها بسط هيمنتها على اليمن وجعلها قاعدة لنفوذها في المنطقة، ما جعل التَّهديد لا يقتصر على أمن اليمن واستقراره وسيادته فحسب، بل صار تهديدًا شاملًا لأمن المنطقة والأمن والسِّلم الدُّولي”،.. “فقد قرَّرت دولنا الاستجابة لطلب فخامة الرَّئيس، عبدربه منصور هادي، رئيس الجمهورية اليمنيَّة، لحماية اليمن وشعبه العزيز، مِن عدوان الميليشيَّات الحوثيَّة الَّتي كانت ولا تزال أداة في يد قوى خارجيَّة، لم تكفَّ عن العبث بأمن واستقرار اليمن الشَّقيق”. داعين الله تعالى أن يحفظ اليمن وشعبه، وأن يحميه مِن “التَّدخُّل الخارجيِّ الَّذي لا يريد الخير لليمن”.
وعلى إثر ذلك، انطلقت عمليَّات “عاصفة الحزم” العسكريَّة بقياد المملكة العربيَّة السُّعوديَّة، ومشاركة دول الخليج ودول عربيَّة أخرى. وفرض على اليمن بالتَّزامن مع انطلاق العاصفة حصار تامٌّ على جميع المنافذ: البريَّة والبحريَّة والجويَّة. وبدأت العمليات الحربيَّة بدكِّ مخازن السِّلاح والقواعد والمباني العسكريَّة دون هوادة، لكنَّها شيئا فشيئا بدأت تنحرف عن مسارها وتقصف مبان مدنيَّة وتستهدف ضحايا مدنيِّين.
ومع امتداد العمليات والحصار لستِّ سنوات برزت العديد مِن الوقائع والأحداث والمؤشِّرات الَّتي تؤكِّد على أنَّ اليمن في حالة عدوان فعليٍّ مِن دول النَّجدة، وبالأخص المملكة العربيَّة السُّعوديَّة والإمارات العربيَّة المتَّحدة. وهذا بدوره أجبر عددًا مِن الدُّول العربيَّة والخليجيَّة لإعلان انسحابها مِن التَّحالف أو تجميد مشاركتها في العمليَّات معه. كما أجبر العديد مِن المنظَّمات الأمميَّة والدُّوليَّة الإنسانيَّة والحقوقيَّة لاستنكار جرائم التَّحالف، والتَّنديد بالحصار وما ترتب عليه، والمطالبة بوقف العدوان على اليمن.
لقد أصبحت التَّقارير المختلفة، السِّياسيَّة والأمنيَّة والاستخباريَّة والعسكريَّة والحقوقيَّة والإعلاميَّة، تتواتر في إقرار حجم الأضرار والخسائر والكوارث الَّتي لحقت باليمن وشعبه نتيجة هذه الحرب الَّتي لم تُستعد بموجبها شرعية الدَّولة اليمنيَّة، فضلا عن أن تساهم في الحفاظ على أمنه وسلامته ووحدته واستعادة سيادته! وأصبح الموقف الدُّولي قلقًا مِن استمرار الحرب ومستجيبا للمطالب الشَّعبيَّة والمدنيَّة لإيقاف الدَّعم اللُّوجستي الَّذي تقدِّمه بعض الدُّول، وبيع السِّلاح لدول التَّحالف لما ينتج عنها من استخدام ينتهك حقوق الإنسان ويسقط العديد مِن الضَّحايا.
مفهوم “العدوان” في الشَّريعة الإسلاميَّة:
لن نقف كثيرًا عند مفهوم العدوان في اللُّغة، إذ هو واضح وبيِّن المعنى. فالعُدوَانُ لغة مُجاوزةُ الحقِّ والحدِّ، وهو مصدر من عَدَا يَعْدُو عَدْوًا، وعُدُوًّا، وعُدْوَانًا، وعَدَاءً، ومِنه: الاعتداء، والتَّعدِّي، وهو تجاوز ما ينبغي الوقوف عنده. فكلُّ مجاوزة للحقوق والحدود تعدٍّ عليها، وعدوان مِن صاحبها.
وعندما تحدث القرآن الكريم عن “العدوان” كمفهوم تحدَّث عن صور متعدِّدة له، وأعطى للعدوان دلالات واسعة تنطبق على كلِّ معاني العدوان العرفيَّة واللُّغويَّة. فمجاوزة الحدود الشَّرعيَّة في اصطلاح القرآن عدوان، يقول تعالى: ((تِلكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))، البقرة: 229. وقد نهى عن العدوان فقال: ((وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ))، المائدة: 2.
وميَّز القرآن بين نوعين مِن العدوان: العدوان الخارجيِّ القادم مِن غير المسلمين على المسلمين؛ والعدوان الدَّاخليِّ الَّذي يقع مِن المسلمين بعضهم على بعض، وهو ما وصفه بـ”البغي”، وقد قال تعالى في مثل هذا النَّوع مِن العدوان: )(ثُمَّ أَنتُم هَؤُلَاءِ تَقتُلُونَ أَنفُسَكُم وَتُخرِجُونَ فَرِيقًا مِنكُم مِن دِيَارِهِم تَظَاهَرُونَ عَلَيهِم بِالإِثمِ والعُدوَانِ))، البقرة: 85. كما جعل القرآن كلَّ إضرار وإساءة وإيذاء للمؤمنين تعدٍّ، قال تعالى: ((لَا يَرقُبُونَ فِي مُؤمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الـمُعتَدُونَ))، التوبة: 10. فالإضرار بالآخرين وجه مِن وجوه الاعتداء، يقول تعالى: ((وَلَا تُمسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعتَدُوا وَمَن يَفعَل ذَلِكَ فَقَد ظَلَمَ نَفسَهُ))، البقرة: 231.
وأجاز مقاتلة البغاة جزاء بغيهم، فقال سبحانه: ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِن الـمُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا فَإِن بَغَت إِحدَاهُمَا عَلَى الأُخرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَت فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا بِالعَدلِ وَأَقسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الـمُقْسِطِينَ))، الحجرات: 9. وأذن في ردِّ العدوان على المعتدين، فقال تعالى: ((فَمَنِ اعتَدَى عَلَيكُم فَاعتَدُوا عَلَيهِ بِمِثلِ مَا اعتَدَى عَلَيكُم))، البقرة: 194. وقال –أيضا: ((فَلَا عُدوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ))، البقرة: 193، وقال: ((فَمَنِ اعتَدَى بَعدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ))، البقرة: 178.
مفهوم “العدوان” في القانون الدُّولي:
“العدوان” جريمة قديمة في العلاقات الدُّولية والصِّراعات الإنسانيَّة؛ وقد ظلَّ تعريف “العدوان” محلَّ شدٍّ وجذب بين القوى المتصارعة. ومع زيادة الوعي الإنسانيِّ بخطورة الحروب والصِّراعات وضرورة تجفيف منابعها، ومعاقبة المتسبِّبين فيها، ترسخت الحاجة إلى وجود معيار قانوني واضح ومحدَّد، ليكون مقياسًا للأعمال والانتهاكات والجرائم باعتبارها عدوانًا في النِّزاعات الدُّوليَّة. وقد جاء تأسيس منظمَّة أمميَّة لتمثِّل مرجعًا لضبط العلاقات والصِّراعات، أو التَّحاكم إليها عند النَّزاعات ولفضِّ الصِّراعات، خطوة باتِّجاه تحقيق السِّلم والأمن العالمي.
وقد نصَّ القانون الدُّولي على ضرورة احترام سيادة واستقلال الدُّول، وحفظ أمنها وسلامتها، كونه يعدُّ مدخلًا للأمن والسِّلم الدُّوليِّين؛ ويعطي الدُّول حقَّ ممارسة سيادتها والحفاظ على استقلالها والدِّفاع عن أمنها وسلامتها ومصالحها. ويقيم القانون الدُّولي العلاقة بين الدُّول على أساس من هذا الاعتراف والاحترام والالتزام المتبادل بين الأعضاء.
كما يتضمن القانون الدُّوليُّ الإنسانيُّ مبادئ وقواعد تحكم وسائل وأساليب الحروب، لتوفير الحماية الإنسانيَّة للمدنيِّين والمقاتلين المصابين أو الأسرى أثناء الحروب، إذ يشمل القانون الإنسانيَّ الصُّكوك الدُّوليَّة الرَّئيسة مِنها اتِّفاقيَّة جنيف لعام 1949م لحماية ضحايا الحرب، والبروتوكول الإضافي الملحق باتِّفاقيَّة جنيف المبرم عام 1977م.
ويعدُّ العدوان أحد الجرائم الَّتي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائيَّة الدُّولية[2]، وينصُّ التَّعديل المدخل على النِّظام الأساسي للمحكمة (المقرِّ في 1998م)، والمتَّفق عليه بين الدُّول الأطراف، المؤسِّسة للمحكمة، في النِّظام الأساسيِّ على تعريف “جريمة العدوان” بأنَّها: “قيام شخص ما، له وضع يمكِّنه فعلًا مِن التَّحكُّم في العمل السِّياسيِّ أو العسكريِّ للدَّولة، أو مِن توجيه هذا العمل، بتخطيط أو إعداد أو بدء أو تنفيذ، عمل عدوانيٍّ، يشكِّل بحكم طابعه وخطورته ونطاقه انتهاكًا واضحًا لميثاق الأمم المتَّحدة”، المادة (8)، فقرة (1). وأنَّه “لأغراض الفقرة (1)، يعني العمل العدواني استعمال القوَّة المسلحة، مِن جانب دولة ما، ضدَّ سيادة دولة أخرى، أو سلامتها الإقليميَّة، أو استقلالها السِّياسيِّ، أو بأيِّ طريقة أخرى تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة. وتنطبق صفة العمل العدواني على أيِّ عمل مِن الأعمال التَّالية، سواء بإعلان حرب أو بدونه، وذلك وفقًا لقرار الجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة (3314/ د-29)، المؤرَّخ في 14 ديسمبر 1974م:
أ) قيام القوَّات المسلَّحة لدولة ما بغزو إقليم دولة أخرى، أو الهجوم عليه، أو أيِّ احتلال عسكريٍّ، ولو كان مؤقَّتًا، ينجم عن مثل هذا الغزو أو الهجوم، أو أيِّ ضمٍّ لإقليم دولة أخرى أو لجزءٍ مِنه باستعمال القوَّة؛
ب) قيام القوَّات المسلَّحة لدولة ما بقصف إقليم دولة أخرى بالقنابل، أو استعمال دولة ما أيَّة أسلحة ضدَّ إقليم دولة أخرى؛
ج) ضرب حصار على موانئ دولة ما، أو على سواحلها، مِن جانب القوَّات المسلَّحة لدولة أخرى؛
د) قيام القوَّات المسلَّحة لدولة ما بمهاجمة القوَّات المسلَّحة البريَّة أو البحريَّة أو الجويَّة أو الأسطولين التِّجاريِّين البحريِّ والجويِّ لدولة أخرى؛
ه) قيام دولة ما باستعمال قوَّاتها المسلَّحة الموجودة داخل إقليم دولة أخرى بموافقة الدَّولة المضيفة على وجه يتعارض مع الشُّروط الَّتي ينصُّ عليها الاتفاق، أو أيِّ تمديد لوجودها في الإقليم المذكور إلى ما بعد نهاية الاتفاق؛
و) سماح دولة ما وضعت إقليمها تحت تصرُّف دولة أخرى بأن تستخدمه هذه الدَّولة الأخرى لارتكاب عمل عدوانيٍّ ضدَّ دولة ثالثة؛
ز) إرسال عصابات أو جماعات مسلَّحة، أو قوَّات غير نظاميَّة، أو مرتزقة، مِن جانب دولة ما أو باسمها، تقوم ضدَّ دولة أخرى، بأعمال مِن أعمال القوَّة المسلَّحة، تكون مِن الخطورة بحيث تعادل الأعمال المذكورة أعلاه، أو اشتراك الدَّولة بدور ملموس في ذلك”.
والنَّتيجة هي أنَّ جريمة العدوان تتحقَّق عندما يُعتدى على أيٍّ مِن حدود أو حقوق الدَّولة الأساسيَّة، لاسيِّما حقَّها في الحفاظ على سيادتها ووحدتها وسلامتها واستقلالها السِّياسيِّ، ويدخل في ذلك: تهديد عودتها إلى أراضيها، وتعطيلها مِن القيام بمهامها وواجباتها، والتَّصرف في ثرواتها، فهذه الأمور يمثِّل الاعتداء عليها مساسًا بسيادة الدَّولة واستقلالها بل وبوجودها. فالاعتداء على حقوق الدَّولة السِّياديَّة ووجودها يشكِّل جوهر فعل الاعتداء على سيادة الدُّول الَّذي أشار إليه قرار التَّعريف.
ويخوِّل ميثاق الأمم المتَّحدة مجلس الأمن الدُّولي بالمهمَّة الرَّئيسة في مواجهة جرائم العدوان الدُّولي، للحفاظ على السِّلم والأمن الدُّوليِّين، وهو ما أشارت إليه المادة (24، فقرة 1)، مِن الميثاق؛ كما خوَّل المجلسَ صلاحيَّة فرض الجزاءات الَّتي يراها مناسبة على الدُّول الَّتي يثبت ارتكابها لأعمال عدوانيَّة، أو أيَّ أعمال أخرى يكون مِن شأنها تهديد السِّلم والأمن الدُّوليِّين، أو الإخلال بهما.
وتنصُّ المادة (51)، مِن الميثاق، في الفصل السَّابع مِنه، على أنَّه: “ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحقَّ الطَّبيعي للدُّول، فرادى أو جماعات، في الدِّفاع عن أنفسهم، إذا اعتدت قوَّة مسلَّحة على أحد أعضاء الأمم المتَّحدة، وذلك إلى أن يتَّخذ مجلس الأمن التَّدابير اللَّازمة لحفظ السِّلم والأمن الدُّولي، والتَّدابير الَّتي اتَّخذها الأعضاء استعمالًا لحقِّ الدِّفاع عن النَّفس تبلغ إلى المجلس فورًا، ولا تؤثِّر تلك التَّدابير بأيِّ حال فيما للمجلس -بمقتضى سلطته ومسئوليَّاته المستمرة مِن أحكام هذا الميثاق- مِن الحقِّ في أن يتَّخذ -في أيِّ وقت- ما يرى ضرورة لاتِّخاذه مِن الأعمال، لحفظ السِّلم والأمن الدُّوليِّ، أو إعادته إلى نصابه”.
مفهوم “العدوان” في الأدبيات العربية:
بحسب نصِّ معاهدة الدفاع العربي المشترك (1950م)، في (المادة الثَّانية)، مِنه: “تعتبر الدُّول المتعاقدة كلَّ اعتداء مسلَّح، يقع على أيَّة دولة أو أكثر مِنها، أو على قوَّاتها، اعتداء عليها جميعًا”؛ كما نصَّ في (المادة الثَّالثة) مِنه، فإنَّ الدُّول المتعاقدة تتشاور فيما بينها، بناء على طلب إحداها، كلمَّا “هدِّدت سلامة أراضي أيه واحدة مِنها، أو استقلالها، أو أمنها”[3].
في 2019م، أطلقت الحكومة التُّركيَّة عملية عسكريَّة شمال شرقي سوريا، أطلقت عليها اسم “نبع السَّلام”، ما دفع السُّعودية للتَّنديد بهذه العمليَّة بوصفها “عدوانا” تركيًّا على مناطق الأكراد، وأنها تهدِّد أمن المنطقة، وتقوِّض جهود محاربة تنظيم الدَّولة الإسلاميَّة، وقال مصدر مسئول في وزارة الخارجيَّة السُّعوديَّة، حسبما نقلت عنه وكالة الأنباء الرَّسميَّة: إنَّ المملكة تدين “العدوان الَّذي يشنُّه الجيشُ التُّركيُّ على مناطق شمال شرق سوريا، في تعدٍّ سافر على وحدة واستقلال وسيادة الأراضي السُّوريَّة”.
وفي 18 يونيو 2020م، وصفت الخارجيَّة السُّعوديَّة العمليَّات العسكريَّة الَّتي نفذتها إيران وتركيا داخل الأراضي العراقيَّة بأنَّها “عدوان” يهدِّد الأمن العربيَّ والإقليميَّ. وقالت وزارة الخارجيَّة -في بيان لها: إنَّ المملكة تعرب عن إدانتها وشجبها “للعدوان الترُّكي والإيراني” على الأراضي العراقيَّة، معتبرة أنَّ “ذلك العدوان يعدُّ تدخُّلًا مرفوضًا في شأن دولة عربيَّة، وانتهاكًا سافرًا لأراضيها”، وأنَّه يعدُّ “تهديدًا للأمن العربيِّ والأمن الإقليميِّ، ومخالفة صريحة للمبادئ والمواثيق الدُّوليَّة”.
في حين أنَّ دافع تركيا لشنِّ هذه العمليَّات العسكريَّة –في كلٍّ مِن سوريا والعراق- تجاه المليشيَّات الكرديَّة كان هو ذاته دافع السُّعوديَّة في عمليَّاتها في اليمن. فتهديد الأكراد للأمن التُّركي والقيام بعمليَّات مسلَّحة داخل الأراضي التُّركيَّة انطلاقًا مِن العراق وسوريا مِن الأمور المعلومة والمؤكَّدة تاريخيًّا وموضوعيًّا. وتستند تركيا لحقِّها الطَّبيعي في مواجهة حزب العمَّال الكردستاني باعتباره منظَّمة “إرهابيَّة”، حسب تصنيف الحكومة التُّركيَّة والولايات المتَّحدة الأمريكيَّة والاتِّحاد الأوربي.
حقيقة العدوان:
رغم أنَّ تدخُّل التَّحالف العربي بقيادة السُّعوديَّة جاء بطلب مِن رئيس الجمهورية، عبدربه منصور هادي، إلَّا أنَّ ذلك لا يعطيه الحقَّ القانوني للقيام بتدخُّل عسكريٍّ مِن هذا النَّوع. والقانون الدُّولي والمعاهدات والاتِّفاقات الدُّوليَّة لا تؤيِّد أيَّ نوع مِن الممارسات الَّتي يقوم بها التَّحالف اليوم خارج منطق الصِّراع المنصوص عليه. وقد كان بإمكان التَّحالف أن يطلب مِن مجلس الأمن إصدار قرار للسَّماح باتِّخاذ كافة التَّدابير اللَّازمة؛ لكنه لم يفعل، واعتبر استيلاء الحوثيِّين على السُّلطة بصنعاء تهديدًا لأمنه وأمن المنطقة، ما يعطيه أحقيَّة شنِّ هجوم دفاعيٍّ برأيه.
لقد ورد في رسالة هادي إلى مجلس الأمن الدُّولي طلب التَّدخُّل العسكري تطبيقًا للمادَّة (51) مِن ميثاق الأمم المتَّحدة، والَّتي تعطي الدُّول الحقَّ في الانخراط في الدِّفاع عن النَّفس، بما في ذلك الدِّفاع الجماعيَّ عن النَّفس، عندما تتعرَّض لهجوم ما، غير أنَّ المادة (51) تحكم الصِّراعات الدُّوليَّة، وليس النِّزاعات المحليَّة الدَّاخليَّة بين السُّلطة وقوى متمرِّدة عليها. ومِن المعلوم أنَّه حتَّى اللَّحظة لم تعتبر حكومة اليمن ولا التَّحالف العربي إيرانًا عدوًّا مفترضًا في الحرب العسكريَّة الدَّائرة على أرض اليمن، وعوضًا عن ذلك يجري الحديث عن مليشيَّات يمنيَّة تدعمها إيران، ولم تصنِّف الحكومة اليمنيَّة جماعة الحوثي كجماعة “إرهابيَّة”، بل قد تراجعت الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة مؤخَّرا عن تصنيف الإدارة الأمريكيَّة السَّابقة، في عهد دونالد ترامب، الحوثيِّين كجماعة “إرهابيَّة”.
لقد فرض التَّحالف حصارًا شاملًا على الأراضي اليمنيَّة، برًّا وبحرًا وجوًّا، وعمل على الإمساك بكافة منافذ اليمن وموانئه ومطاراته، وفرض حصارًا آخر على قيادة السُّلطات الشَّرعيَّة في أراضيه مِن خلال تهديد عودتها إلى المناطق المحرَّرة في الجنوب بتشكيل كيانات أخرى متمرِّدة على السُّلطة على غرار حركة الحوثيين في الشَّمال، وإجبار السُّلطة الشَّرعيَّة على الاعتراف بها في اتِّفاقيَّات ثنائيَّة. وقد اتَّهم تقرير سريٌّ، أعدَّه خبراء لجنة العقوبات الدُّوليَّة المعنيَّة باليمن، عام 2018م، دولة الإمارات العربيَّة المتَّحدة بإضعاف سلطة الرَّئيس، عبدربه منصور هادي، في المحافظات المحرَّرة مِن خلال إنشاء مليشيَّات عسكريَّة موالية لها، تنازع سلطاته النُّفوذ على الأرض.
انفردت مجلة” فورين بوليسي” الأمريكيَّة بنشر تفاصيل التَّقرير،
وقد خلص تقرير فريق الخبراء التَّابع للجنة العقوبات الخاصَّة باليمن، في تقريره نصف السَّنوي، في 27 يوليو 2017م، إلى أنَّ سلطة الحكومة اليمنيَّة الشَّرعيَّة تآكلت بشكل ملحوظ خلال العام الجاري، وإلى أنَّ كلَّ أطراف النَّزاع -وبينها التَّحالف العربي- مدانة لارتكابها أو تورُّطها، على نحو مباشر أو غير مباشر، بانتهاكات لحقوق الإنسان وللقانون الدُّولي الإنساني، قد يرقى بعضها إلى جرائم حرب. واتَّهم معدُّو التَّقرير الدُّول الأعضاء في التَّحالف بأنَّها تختبئ وراء يافطة التَّحالف كي تتهرَّب مِن المسئوليَّة عن الغارات الجويَّة والهجمات الأخرى الَّتي توقع ضحايا في صفوف المدنيِّين.
واتَّهمت منظَّمة “هيومن رايتس ووتش”، في 27 أغسطس 2017م، التَّحالف العربي بمفاقمة الوضع الإنساني في اليمن مِن خلال القيود الَّتي يفرضها على دخول السِّلع الأساسيَّة، وقالت في بيان لها: إنَّ قيود التَّحالف زادت الأوضاع المترديَّة لليمنيِّين، وانتهكت القانون الدُّولي الإنساني.
ووجَّهت أكثر مِن 80 منظَّمة مناهضة للحرب على اليمن، رسالة إلى بايدن، أواخر نوفمبر 2020م، تحثُّه فيها على إنهاء مساعدة واشنطن للسُّعوديَّة والإمارات في اليمن، وتبدي شعورها بالقلق “إزاء الأزمة الخطيرة في اليمن”، مطالبة: بإنهاء مبيعات الأسلحة للرِّياض وحلفائها، والَّتي يمكن استخدامها في الحرب، ووقف كلِّ الدَّعم اللُّوجستي الأمريكي للتَّحالف، والضَّغط على المملكة لإعادة فتح الموانئ والمطارات اليمنيَّة.
وفي حين يتحفَّظ التَّحالف العربي على إظهار نتائج حربه على اليمن، تؤكِّد عدَّة منظَّمات أمميَّة ودوليَّة أنَّ الحرب على اليمن خلَّفت أكثر مِن 112 ألف قتيل، بينهم 12 ألف مدنيٍّ، وأن أكثر مِن 80% مِن اليمنيين باتوا تحت خطِّ الفقر، وأنَّهم يعتمدون على المساعدات للبقاء أحياءً، وأنَّ ما يجري في اليمن هي أسوأ أزمة إنسانية بالعالم -وفق الأمم المتَّحدة. وقد تكرَّر تحميل الأمم المتَّحدة التَّحالف مسئوليَّة مقتل المدنيين في اليمن في عدَّة حوادث، جرَّاء غارات جويَّة له.
وفي 18 أغسطس 2017م، كشفت مجلَّة “فورين بوليسي” الأمريكيَّة، تفاصيل تقرير فريق الخبراء التَّابع للجنة العقوبات الدُّوليَّة الخاصَّة باليمن السِّرِّي، الَّذي قُدِّم لمجلس الأمن، وتحدَّث عن التَّحرُّكات الإماراتيَّة المشبوهة في اليمن، متَّهمًا أبو ظبي بتمزيق جهود الرَّئيس اليمني، عبدربه منصور هادي، ودعم ميليشيَّات خارج سيطرة الحكومة الشَّرعيَّة، مقدِّمًا الشَّواهد والمعلومات عن الدَّور الإماراتي في البلاد. وقال التَّقرير: “تمَّ تقويض سلطته مِن قبل الميليشيَّات الَّتي تموِّلها وتسيطر عليها الإمارات العربيَّة المتَّحدة، والبلدان الَّتي تقاتل مِن أجل إعادته إلى السُّلطة”، في إشارة إلى السُّعوديَّة. وأضاف التَّقرير: ” مضيفةً “إنَّ استخدام قوَّات وكيلة، تعمل خارج هيكلٍ هرميٍّ حكوميٍّ، يخلق فجوة في المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة الَّتي قد تشكِّل جرائم حرب”.
كما نشرت منظَّمة “العفو الدُّوليَّة”، في 6 فبراير 2019م، تحقيقًا تؤكِّد فيه أنَّ الإمارات العربيَّة أصبحت قناة رئيسة لتوزيع العربات المدرَّعة وأنظمة الهاون، بالإضافة إلى البنادق والمسدَّسات، وتقديمها بطرق غير مشروعة إلى ميلشيَّات غير خاضعة للمساءلة، ومتَّهمة بارتكاب جرائم حرب وغيرها مِن الانتهاكات الخطيرة. وأشار التَّقرير إلى أنَّ الجماعات الَّتي تتلقَّى الأسلحة، تشمل “ألوية العمالقة” و”الحزام الأمني” و”قوَّات النُّخبة”.
وخلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ، أواخر يناير 2021م، قال وزير الخارجيَّة المكلَّف، “أنتوني بلينكين”: إنَّ إدارة الرَّئيس “جو بايدن” ستنهي دعم الولايات المتَّحدة للتَّدخُّل العسكريِّ السُّعوديِّ في اليمن؛ والَّذي ساهم -حسب تعبيره: “في أسوأ وضع إنساني في العالم”.
ووفقا لمواثيق الأمم المتَّحدة والقانون الدُّولي العام فإنَّ التَّحالف العربي بقيادة السُّعوديَّة يتحمَّل المسئوليَّة كاملة عن حماية المدنيِّين، والمنشآت المدنيَّة، وحقوقهم ومصالحهم وإيصال كافة الخدمات لهم. في حين أنَّ ما يجري على أرض الواقع هو انتهاك صارخ للقانون الدُّولي الإنساني، وقد ندَّدت به منظَّمات أمميَّة ودوليَّة وإنسانيَّة، عدَّة وذات اهتمامات متعدِّدة.
وقد أقرَّ مجلس النُّواب الأمريكي، عام 2017م، بالأغلبيَّة مشروع قانون لوقف الدَّعم العسكري الأمريكي المقدَّم للتَّحالف في حرب اليمن، حيث صوَّت 248 عضوًا لصالح المشروع. ودعا القانون الرَّئيس الأمريكي، “دونالد ترامب”: “لإبعاد القوَّات المسلَّحة الأمريكيَّة عن الأعمال العدائيَّة في الجمهوريَّة اليمنيَّة، أو التَّأثير فيها، بما في ذلك تزويد الطَّائرات بالوقود في مهمَّات الحرب في اليمن”. فوصف ما يقوم به التَّحالف بالأعمال العدائيَّة.
ومنذ انطلاق عمليَّة “عاصفة الحزم” وحتَّى كتابة هذا المقال لم يستطع التَّحالف العربي، بقيادة السُّعوديَّة، تحقيق أيٍّ مِن الأهداف المعلنة له لمساندة الشَّرعيَّة. وظلَّ التَّحالف يشنُّ غاراته بالرَّغم مِن إعلانه عن توقُّف عمليَّة “عاصفة الحزم” في 21 أبريل 2015م، والبدء في عمليَّة “إعادة الأمل” لبلد عصفت بآماله أطماع الجيران قبل الأبعدين!
[1] في 17 يونيو عام 1950م، وقعت عدد مِن الدُّول العربيَّة، مِن بينها المملكة العربيَّة السُّعوديَّة والمملكة المتوكليَّة اليمنيَّة، على “معاهدة الدِّفاع العربي المشترك”، وأنشئ لهذا الغرض مجلس الدِّفاع المشترك للجامعة العربيَّة كمؤسَّسة معنيَّة بالتَّنسيق للدِّفاع المشترك عن أيِّ عدوان يقع على إحدى الدُّول الأعضاء.
[2] تأسَّست المحكمة الجنائيَّة الدُّوليَّة في 1 يوليو 2002م، كأوَّل محكمة قادرة على محاكمة الأفراد المتَّهمين بجرائم الإبادة الجماعيَّة والجرائم ضدِّ الإنسانيَّة، وجرائمِ الحرب وجرائم الاعتداء. وتقتصر قدرة المحكمة على النَّظر في الجرائم المرتكبة بعد تاريخ إنشائها، عندما دخل قانون روما للمحكمة الجنائيَّة الدُّوليَّة حيِّز التَّنفيذ. وقد بلغ عدد الدُّول الموقِّعة على قانون إنشاء المحكمة 121 دولة حتَّى 1 يوليو 2012م، الذِّكرى العاشرة لتأسيسها.
[3] انظر نصَّ المعاهدة على: