ظاهرة الضبط التي امتازت بها الحضارة الإسلامية
بقلم الأستاذ علي القاضي
الضبط: تعبير يقصد به قواعد السلوك التي توحد أفراد المجتمع وتحدد علاقتهم، وبذلك يمكن للمجتمع أن يحقق أهدافه .
وقواعد السلوك: تشمل القيم والمعايير التي من خلالها أو بوساطتها يتحقق التماسك بين أفراد الجماعة وتسهل إجراءات التواصل بينهم حتى يسيروا في طريق واحد.
وينشأ الضبط في الحضارة الإسلامية من قيم الإسلام ومعاييره التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية. ذلك لأن الإسلام منهج حياة كامل ملحوظ فيه نواميس الفطرة التي تعرف النفس البشرية في كل أطوارها والجماعات الإنسانية في كل ظروفها ؛ فهي تعـالج النفس المفردة والنفس المتشابكة بالقوانين الملائمة للفطرة المتعلقة في وشائجها .
أما النظم البشرية فهي متأثرة بقصور الإنسان للإنسان وملابسات حياته، وهي لذلك تقصر عن الإحاطة بجميع الاحتمالات في الوقت الواحد . قد تعالج ظاهرة فردية أو ظاهرة اجتماعية بدواء قد يؤدى بدوره إلى بروز ظاهرة أخرى تحتاج إلى علاج جديد.
والمسلم له وظيفته في هذه الحياة، فهو مكلف بعمارة الأرض طبقًا لمنهج الله وإنقاذ البشرية من عبادة غير الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة؛ ومن هنا فإن الضبط ينشأ من المفاهيم الإسلامية سواء أكان ضبطاً ذاتيًا أم ضبطاً اجتماعيا.
ومن الضبط ما هو ذاتي، وهو ينشأ من إيمان المسلم بخالقه ومن صلته القوية به، والتزامه بتعاليم القرآن والسنة فولاؤه كله لله.
والمسلم بذلك يرى نفسه مدفوعًا إلى السير في الطريق الذي رسمه الإسلام؛ فهو يراقب الله في السر والعلن؛ لأن الله يراه. وبهذا يتحول الشعور الباطنيّ بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية، وتتحول هذه الحركة إلى عادات ثابتة، مع استيحاء الدافع الشعوري الأول في كل حركة لتبقى حية متصلة بينبوعها الأصيل؛ ومن هنا نلحظ آثار الضبط الذاتي في سلوك المسلمين الذين تربَّوا التربية الإسلامية الكاملة، مما لايحدث مثله في أية حضارة أخرى.
نماذج منضبطة
فماعز بن مالك الأسلمي يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقول له: إني ظلمت نفسي وزنيت؛ فطهرني بالحد.
والغامدية تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول له: يارسول الله! إني زنيت ؛ فطهرني بالحد.
والمسلمون بعد أن فتحوا المدائن أقبل رجل بمال ليس له مثيل، ودفعه إلى صاحب الأقباض، ورفض أن يذكر اسمه وقال: لاأخبركم لتحمدوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه.
وعبد الله بن رواحة أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدر على أهل خيبر محصولهم من الثمار والزروع لمقاسمتهم إياها مناصفة حسب عهد رسول الله بعد فتح خيبر؛ فحاول اليهود رشوته ليرفق بهم، فقال لهم: والله لقد جئتكم من عند أحسن الخلق إليّ ولأنتم والله أبغض إليَّ من أعدائكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على ألاّ أعدل بينكم.
فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
ومما يعزز الضبط الذاتي أن يرى الإنسان أن الدنيا فانية وأنه سيحاسب على ما قدمت يداه. وذلك واضح في قوله تعالى:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(سورة الزلزلة – آية: 7-8)
وأن يحس بأن حاجاته الضرورية تكون فيما اشتمل عليه الحديث الشريف: “من بات آمنًا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها” الترمذي.
وإذا ما أحس الإنسان بشيء يفتقده الضبط الذاتي لخوفه من شيء ما، فعليه أن يلجأ إلى الله قائلاً: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الكفر والفقر وأعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت.
ويعجب المبشر الغربي “أرستيال مؤريد” الذي عاش في صحراء العرب أكثر من أربعين عامًا من الضبط الذاتي الذي رآه في رحلة استغرقت عشرة أيام مع بعض العرب في شهر رمضان مرت بهم فيها مرحلة استغرقت ثلاثة أيام – لم يجدوا فيها قطرة ماء واحدة – إلى أن وصلوا إلى بئر قبيل موعد غروب الشمس بساعتين – وكان يتوقع أن ينكبّ كل واحد منهم على البئر ولو لمجرد أن يمضمض فمه الجاف في حرارة القيظ بعد جفاف ثلاثة أيام؛ ولكنهم امتنعوا جميعًا، ودعوه هو أن يشرب ويتركهم إلى أن يحين موعد الغروب والإفطار.
الضبط الاجتماعي:
والمسلمون يحسون بأن لهم وظيفة ضخمة في هذه الحياة؛ فقد انتدبهم الله تعالى لعمارة الأرض وطلب منهم أن يعتصموا بحبل الله جميعًا ولايتفرقوا، ومن هنا فإن أفراد المجتمع الإسلامي يحسون بأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وبأن المسلم أخو المسلم لايظلمه ولا يسلمه وهو في حاجة أخيه حتى يكون الله في حاجته، وكل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي يحس بأن التناصح عنصر أساسي من عناصر الضبط الاجتماعي على أن يكون لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن أفراد المجتمع الإسلامي كركّاب سفينة واحدة تمخر بهم عبابَ البحر، فإن ترك كل فرد يفعل ما يشاء فقد يكون في ذلك غرق السفينة بما فيها ومن فيها.
وإذا حدثت مشكلةٌ بين مجموعة من الناس فلابد من الإصلاح ولو كانت المشكلة بين طائفتين؛ فإن على المجتمع أن ينهي المشكلة ولو ترتب عليها قتالُ الطائفة الباغية؛ فالمؤمنون إخوة، ولابد من منع كل شيء يذهب بهذه الأخوة، وبذلك لايتفرَّغون لدعوتهم بل يعيشون في هم وغم وفزع.
والشورى: من عناصر الضبط الاجتماعي؛ لأنها توصل إلى الرأي السليم وتجعل كل أفراد المجتمع إيجابيين يحسون بالمسؤوليَّة وتبعد المجتمع عن الحكم الفردي، والقدوة المثلى في ذلك رسول اللهصلى الله عليه وسلم الذي كان يستشير أصحابه، وكان أصحاب رسول الله أكثر الناس مشورة.
والعدل الذي اشتهر به المسلمون على امتداد الزمان والمكان بين جميع الناس مسلمين وغير مسلمين والذي أعجب به الكثيرون من الغربيين ومنهم “توماس أورنائد” فذكر أمثلة منه في كتابه “الدعوة إلى الإسلام” لأن المسلمين يتمسكون بقوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (سورة المائدة 8).
والمساواة بين الناس عنصر أساسي كذلك – فالله سبحانه وتعالى خلق الناس جميعًا من أب واحد وأم واحدة، وجعلهم شعوبًا وقبائل ليتعارفوا لا ليبغى بعضُهم على بعض ولاليطغى بعضهم على بعض، وليس هناك فرق بسبب اللون أو الوطن أو العرق، وأفضل الناس عند الله أتقاهم ؛ ولذلك وجدنا عمر بن الخطاب يقول: أبوبكر سيدنا وأعتق سيدنا – يقصد بلالاً – والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اسمعوا وأطيعوا وإن ولّي عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام كتاب الله) البخاري.
والحدود في الإسلام من عناصر الضبط الاجتماعي، وهي هدية الله للبشرية؛ لأنها وسيلة فعالة في الضرب على أيدي الذي يضعفون فيسيئون إلى أنفسهم وإلى مجتمعهم وإلى دينهم؛ ولذلك فإن المجتمع الذي يطبق حدودَ الله بالأسلوب الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مراعاة الظروف ومعرفة الأسباب والتطبيق على الجميع شرفاء أو ضعفاء . المجتمع الذي يسير على هذا المنهج يكون الضبط الاجتماعي فيه رائعًا، وبذلك يستطيع أن يحقق وظيفته في هذه الحياة.
الطاقة الجنسية:
وتعتبر الطاقةُ الجنسيةُ مشكلةً كبيرةً في المجتمعات الحضارية، وكثيرًا ما تكون سببًا في انهيار المجتمع كله. وقد أعلن ذلك “بيتان” الرئيس الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية .
والطاقة الجنسية أوجدها الله تعالى لأداء وظيفة في الحياة من خلال ضوابط ومعايير ونظم وتوجيهات تتحقق بها أهدافه.
وقد نظَّم الإسلامُ الجنسَ عن طريق الأسرة التي هي المحصن الطبيعي لتربية الأطفال، فيها يجدون كل حاجاتهم الجسمية والنفسية والعقلية، وفيها يتحقق السكن والمودة والرحمة لكل أفراد الأسرة قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (سورة الروم 21).
ووضع الإسلام نظمًا لاختيار كل من الزوجين، ووضح حقوق كل فرد من أفراد الأسرة وطلب من أفراد المجتمع تسهيل أمور الزواج، وعدم المبالغة في أي شيء عند الإقدام عليه.
وفي الوقت نفسه منع كل أسباب الإثارة؛ فالمرأة لها زيها الذي يحميها من النظرات، وقد أمرها القرآن الكريم بغض البصر وإحصان الفرج وعدم إبداء الزينة للأجانب، كما أمر الرجل بغض البصر وأن يحصن الفرج، كما أمر الناس جميعا بعدم دخول البيوت إلا بعد الاستئذان من أصحابها، وأذن للأطفال الذين لم يبلغوا الحلم أن يدخلوا بدون إذن، إلا في أوقات خاصة، فإذا ما بلغوا الحلم فإن الاستئذان يكون في كل الأوقات.
والإسلام جَعَلَ الصلة الجنسية من الأعمال التعبدية مادام المسلم يهدف إلى عفة نفسه وحفظ نوعه وحياته ومجتمعه، وقد جعل الإسلام للجنس ضوابط ذاتية وضوابط اجتماعية تنظم أسلوبه وتحدد طريقه، وهذا يساعد على أن يؤدى المجتمع وظيفته كاملة .
والحضارة الغربية تبيح الجنس بصورة عامة، وقد نادى الشيوعيون بمبدأ المساواة في مجال الجنس، وأباحوه لتحطيم الزواج باعتباره من إرث البرجوازية، وأطلقوا عليه نظرية: (كأس الماء) وهو إمكانية ممارسة الجنس كما يتناول المرء كأس الماء. وهذا هو الذي جعل المفكر الصليبي “ليين بوتانج” يقول: “يظهر أن الماركسية تهدف إلى القضاء على غريزة الأمومة”.
وقد وصف الصينيون “ماركس” بأنه كان في غاية البلاهة في نظريته تلك. والصهيونية تهدف إلى إخضاع الناس عن طريق الإباحة الجنسية، ولذلك يقولون في بروتوكولات حكماء صهيون: “إن إخضاع الأمميين لايتم إلا بنشر الإباحية الجنسية ومحاربة الأخلاق والنظام الأسرى بألوان من الإغراء، وإثارة الشهوات، وتسهيل وسائل الاتصال والفوضى الجنسية”.
ولذلك انتشرت المثيرات الخارجية المتمثلة في بيوت الأزياء والمجلات الجنسية والأفلام التي انتشرت بصورة دمّرت القيم والحياة، ووضعت العقبات أمام الشباب في الزواج المبكر ووجود الفراغ العقلي والفكري الذي ساعد على ذلك .
وبعد: فهكذا نجد ظاهرة الضبط في الحضارة الإسلامية التي تعد الفرد والمجتمع لأداء دوره في الحياة باعتباره خليفةَ الله في الأرض؛ حيث اختاره الله وكرمه وفضله على كثير من مخلوقاته، ورسم له أسلوب الحياة وزوده بكل القوى الداخلية والخارجية التي تكفل له الحياة المطمئنة، بحيث يؤدّي دوره في الحياة، ويعيش سعيدًا في مجتمع سعيد، عاملاً للدنيا والآخرة. وما أصدق الدكتور “هوكنج” أستاذ الفلسفة بجامعة “هارفارد” الأمريكية حين يقول في كتابه: روح السياسة العلمية: “إني أشعر بأنى علي حق حين أقرر بأن في الإسلام كلَّ المبادئ اللازمة للنهوض بالحياة”.
وعلينا أن نعيد تقويم أنفسنا أفرادًا وجماعات وأن نعود إلى الإسلام نستمد منه عناصرَ الضبط الذاتي والضبط الاجتماعي، حتى نعيد إلى الحضارة الإسلامية عزتَها ورونقَها؛ فبذلك ننقذ أنفسنا، وننقذ هذا العالم الذي يسير إلى الهاوية، ولمثل هذا فليعمل العاملون •
(المصدر: مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند)