طبائع الحكم مع ابن خلدون5- ترسخ الحكم فيمن غلب
بقلم محمد إلهامي
كيف يتغير حال الشعوب إلى التعلق بالنظام الحاكم كأنه من قوانين الحياة؟! كأن الحياة لا تصلح بدونه؟!
كيف يستطيع الحاكم أن ينفرد بالسلطة ويقصي عصبته التي لم يكن ليستطيع أن يصل إلى السلطة بدونهم أبدا؟! ولماذا يختفي هؤلاء ويستسلمون؟!
وإذا أقصى الحاكم عصبته، فبمن يستبدلهم؟، ومن هم رجال المرحلة الجديدة؟!
وكيف يمكن لنا أن نستفيد من هذا التغير في سنن الحكم والدول لنحسن من حال واقعنا ونستشرف مستقبلنا؟!
”الدّول العامّة في أوّلها يصعب على النّفوس الانقياد لها إلّا بقوّة قويّة من الغلب للغرابة وأنّ النّاس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه فإذا استقرّت الرّئاسة في أهل النّصاب المخصوص بالملك في الدّولة وتوارثوه واحدا بعد آخر … نسيت النّفوس شأن الأوّليّة واستحكمت لأهل ذلك النّصاب صبغة الرّئاسة ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتّسليم وقاتل النّاس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانيّة فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأنّ طاعتها كتاب من الله لا يبدّل ولا يعلم خلافه … ويكون استظهارهم حينئذ على سلطانهم ودولتهم المخصوصة إمّا بالموالي والمصطنعين الّذين نشئوا في ظلّ العصبيّة وغيرها وإمّا بالعصائب الخارجين عن نسبها الدّاخلين في ولايتها”
ذكرنا في حلقة سابقة أن السلطة تنتزع بالحرب، وأن الحرب هي الصفحة الأولى في كتاب كل دولة، وهي الصفحة الأخيرة في كتاب كل دولة كذلك، وانتقال الدول لا يكون إلا بالسيف؛ وإن شاء الله في حلقة القادمة سنتكلم عن أن أيضا السيف سيكون هو المرحلة الأخيرة، وحاجة الدولة إليه في أواخرها أشد من حاجتها إليه في وسط الدولة؛ لكن هنا ابن خلدون يتطور لكي يصف مسألة ترسخ الحكم فيمن غلب، يعني في البداية الناس لا يعتادون على هذه السلطة الجديدة للغرابة، لأنهم يستغربونها لم يعتادوا عليها، لكن حين تغلب هذه السلطة، وحين ينسى الأمر، ينسى أمر الأولية، ينسى أمر أول الدولة، ينسى أمر بداية الدولة، ويستقر الحكم فيمن غلب، ساعة إذن يعتاد الناس على هذه الدولة، وتذول وتذهب مقاومتهم لها، حتى أنهم يرون طاعتها واجبة كأنها حقيقة كونية ،كأنها قوة قاهرة، وابن خلدون عبر عنها بقوله: ”كأنها كتاب من الله لا يبدل”، فالناس حين تعتاد على الطاعة والاستنامة للسلطة يقاتلون معها قتالهم على العقائد الإيمانية، كأن القتال مع هذه الدولة مع هذه السلطة جزء من الإيمان جزء من النظام جزء من الولاء والبراء وكأنه حقيقة كونية كما قلنا؛ فعندئذ حين يستقر الحكم فيمن غلب لا يكون صاحب السلطة بحاجة لنفس القدر من القوة التي رسخ بها أمر الدولة في بدايتها، والتي استطاع أن يغلب بها وأن يتغلب على مقاومة الناس لها في حال الغرابة، وساعة إذ ينفرد صاحب السلطة (يعني إذا الدولة في بدايتها كان فيها مجموعة يقودهم واحد ففي أوسطها هذا الواحد ينفرد بالسلطة) إلى درجة أنه سيكون قد أزال كافة الذين كانوا معه، ويكون قد استنصر واحتمى وهو في مرحلة غلبه بالذين لم يكونوا معه من أول الدولة، بل قد تكون عصبته وشوكته وجنده من آخرين لم يحضروا هذا التمهيد الأول، يعني العصبة الأولى التي أنشأت الدولة هذه العصبة نفسها قد تزول وتنحل، هذه القوة قد تذوب وتختفي، أو قد تهمل، بينما تصير القوة الموجودة في وسط الدولة هي قوة آخرين، وقد يكونون من الطراء، يعني يكونون من الأغراب، كما نرى الآن مثلا في بعض الدول أن الحراسة الملكية وفرق الجيش من الأجانب والمرتزقة، بينما في أول الدولة طبعا لم يكن هذا ليكون ممكنا أبدا؛ وابن خلدون يضرب على هذا المثل بعدد من الدول دعونا نرى ماذا يقول:
”ومثل هذا وقع لبني العبّاس فإنّ عصبيّة العرب كانت فسدت لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق واستظهارهم بعد ذلك إنّما كان بالموالي من العجم والتّرك …”
”وكذا دولة بني أميّة بالأندلس لمّا فسدت عصبيّتها من العرب استولى ملوك الطّوائف على أمرها واقتسموا خطّتها وتنافسوا بينهم وتوزّعوا ممالك الدّولة … فاستظهروا على أمرهم بالموالي والمصطنعين والطّراء على الأندلس من أهل العدوة من قبائل البربر وزناتة وغيرهم اقتداء بالدّولة في آخر أمرها في الاستظهار بهم حين ضعفت عصبيّة العرب …”
”ولم يزالوا في سلطانهم ذلك حتّى جاز إليهم البجر المرابطون أهل العصبيّة القويّة من لمتونة فاستبدلوا بهم وأزالوهم عن مراكزهم ومحوا آثارهم ولم يقتدروا على مدافعتهم لفقدان العصبيّة لديهم فبهذه العصبيّة يكون تمهيد الدّولة وحمايتها من أوّلها”
في أغلب الأحوال لا يكون تغيير النظام بعد وصوله إلى التمكن إلا من خلال احتلال خارجي أو ثورة عنيفة دموية أو انقلاب عسكري، فحالة التمكن هي من الحالات الشديدة الصعوبة على أهل الإصلاح (على من يريدون الإصلاح)، خصوصا لو كان هذا المتمكن – بطبيعة الحال – متمكنا فاسدا أو طاغية، ورغم كل الأمثلة التي ضربها ابن خلدون تتحدث عن الأمويين والعباسيين (ومن بعدها يمكن أن نتحدث أيضا عن العثمانيين) فكل هؤلاء لم يبلغوا لا في الطغيان والاستبداد ولا حتى بلغوا في الإمكانيات، إمكانيات السلطة المتوفرة الآن ما بلغه المعاصرون، الحكام المعاصرين في الدولة الحديثة، ومع ذلك كما رأيت مسألة حصول الإصلاح أو مسألة التغيير أو مسألة المقاومة في حال التغلب هي مسألة من أصعب ما يكون، ولذلك تفهم من هذا حديث النبي ﷺ: ”سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”، لأن هذا الشخص الذي يذهب إلى جائر وهو في تمكنه في قوته، ثم يأمره وينهاه والعقوبة عقوبة القتل حاضرة ومخيفة، هذه طاقة نفسية عظيمة لا تكون لأغلب الناس، هذه طاقة فذة هذه حالة نادرة، فلأجل هذا كان شهيدها ليس شهيدا عاديا وإنما كان سيد الشهداء، من هنا نفهم أن الإسلام حين أوجب على الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنما جعله واجبا وليس حقا، وهذا تفريق مهم وضروري، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على المسلم بمعنى أنه يأثم إذا تركه وليس حقا، فالفلسفات الغربية والغير الغربية تتكلم عن حرية التعبير حق التعبير حق الرأي، لا، الإسلام جعل ذلك واجبا وليس حقا، يعني شيء ليس للمسلم أن يتنازل عنه، بل على المسلم دائما أن يكون ذا حساسية لكل منكر، وأن يكون مندفعا إلى تغييره، ولا يحجزه عن التغيير إلا العجز عنه، وهذا الأمر مربوط بالإيمان، النبي ﷺ حين تكلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال: ”من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”، هذه الحساسية حين تكون موجودة عند المسلمين فإنه يجعل قدرتهم على كبح جماح السلطة، ومنع التغلب الراسخ الذي فيه الاستبداد والطغيان بالناس هو الأمر الطبيعي والبديهي، لأن المسلم مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا من الإيمان، هذا من الإيمان، وفي الحديث الآخر النبي ﷺ عبر عن هذا وذكر مسألة السلاطين تحديدا فذكر، قال: ”… فمَن جاهَدَهُمْ بيَدِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، ومَن جاهَدَهُمْ بلِسانِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، ومَن جاهَدَهُمْ بقَلْبِهِ فَهو مُؤْمِنٌ …” وعبر تعبير قويا فقال: ”… وليسَ وراءَ ذلكَ مِنَ الإيمانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ ”، يعني المسلم الذي لا يجد في قلبه كراهة وإنكارا للسلطة التي ترتكب المنكر وللحاكم الذي يرتكب المنكر، الذي ليس في قلبه الإنكار هذا ليس في قلبه حبة خردل من الإيمان كما قال النبي ﷺ، فلذلك هذا الإيجاب (إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هو أكثر الكوابح التي تكبح جماح اندفاع السلطة في استبدادها وطغيانها بالناس، ويظل دائما قدر الذي استطاع أن يواجه السلطة المتمكنة الجائرة محفوفا بالمكانة العظيمة التي وصفها النبي ﷺ بأنه سيد الشهداء؛ أولى من هذا أن المسلم لا يعمل لهذه السلطات الجائرة في الوظائف التي تزيد من سلطانها، كما في الحديث ”ليأتينَّ عليكم أمراءُ يُقرِّبون شِرارَ النَّاسِ ويُؤخِّرون الصَّلاةَ عن مواقيتِها فمن أدركَ ذلك منكم فلا يكوننَّ عَريفًا ولا شُرطِيًّا ولا جابيًا ولا خازنًا” الجابي الذي يعمل في الإدارة المالية، العريف الذي يعمل في الإدارة الأمنية والعسكرية، فالنبي ﷺ نهى عن عمل المسلم في ظل سلطة جائرة، وبالتالي حتى الإمام سفيان الثوري في القول المشهور لما جاء إليه رجل فَقَالَ: ”إنِّي أَخِيطُ ثِيَابَ السُّلْطَانِ أَفَتَرَانِي مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ؟” فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ: ”بَلْ أَنْتَ مِنْ الظَّلَمَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ مَنْ يَبِيعُ مِنْك الْإِبْرَةَ وَالْخُيُوطَ”، يعني الذي تشتري من عنده الإبرة هذا الذي عليه عقوبة وذنب أعوان السلاطين.
من القصائد المشهور لأمير الشعراء أحمد شوقي قصيدته التي يحرض فيها على اغتنام وانتزاع الحرية، وفيها يقول:
وَمَن يَسقى وَيَشرَبُ بِالمَنايا
إِذا الأَحرارُ لَم يُسقوا وَيَسقوا
وَلا يَبني المَمالِكَ كَالضَحايا
وَلا يُدني الحُقوقَ وَلا يُحِقُّ
فَفي القَتلى لِأَجيـــــــــالٍ حَياةٌ
وَفي الأَسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمــراءِ بابٌ
بِكُلِّ يَدٍ مُضَــــرَّجَةٍ يُدَقُّ
(المصدر: موقع البوصلة)