مقالاتمقالات مختارة

طبائع الحكم مع ابن خلدون 8- الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها

طبائع الحكم مع ابن خلدون 8- الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها

بقلم محمد إلهامي

متى تنتشر في شعب أخلاق الخبث واللؤم والمكر، ومتى تنتشر فيهم أخلاق الصدق والنزاهة؟

وإذا حاولنا إصلاح أخلاق شعب، فكيف نفعل؟ ومن أين نبدأ؟

لماذا نزلت رسالة الإسلام على العرب ولم تنزل على شعب فارس أو الروم؟

ولماذا اختار النبي أن يجهر بلا إله إلا الله، رغم أنه جاء ليتمم مكارم الأخلاق التي كان العرب في الصدر منها؟!

”الملك إذا كان قاهرا باطشا بالعقوبات منقّبا عن عورات النّاس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف والذّلّ ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلّقوا بها وفسدت بصائرهم وأخلاقهم وربّما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات ففسدت الحماية بفساد النّيّات وربّما أجمعوا على قتله لذلك فتفسد الدّولة ويخرّب السّياج وإن دام أمره عليهم وقهره فسدت العصبيّة، وفسد السّياج من أصله بالعجز عن الحماية وإذا كان رفيقا بهم متجاوزا عن سيئاتهم استناموا إليه ولاذوا به وأشربوا محبّته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه فاستقام الأمر من كلّ جانب”

في بيئتنا العربية ينتشر تنظير فاسد، عن أن شعوبنا العربية هي شعوب مستذلة، شعوب سيئة، شعوب مخادعة، شعوب من طبيعتها الجبن والكذب، وهذا التنظير الفاسد بالمناسبة أغلب الذين يقولونه هم أقل الناس كلاما عن الطغيان وعن فساد السلطة، وهم في الحقيقة يحاولوا أن يحملوا مصائبنا وكوارثنا للناس وطبيعة الناس، وبعضهم أكثر فجاجة وقبحا فيحملها لثقافتنا، ويقول بأن ثقافتنا بطبيعتها تنتج الذل، وبطبيعتها تنتج الاستعباد، وتراثنا ليس فيه أصلا معنى الحرية، وهذا الكلام الفاسد الذي لا يستقيم؛ في الواقع أخلاق الناس ترتبط بأخلاق السلطة المهيمنة عليهم، وبقدر ما تتغير السلطة وتتغير سياستها تتغير أخلاق الناس، وهناك أمثلة في غاية الوضوح يعني ألمانيا مثلا، الشعب الألماني انقسم إلى ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، في هذه السنوات العقود التي فصل فيها الألمان أنفسهم إلى شرقيين وغربيين الطبائع والأخلاق والسلوك المسيطر على هؤلاء كان مخالفا تماما للطبائع والأخلاق والسلوك المسيطر على هؤلاء، وهم شعب واحد، كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية كلاهما شعب واحد، لكن هيمن على هذا نظام وهيمن على هذا نظام، فهذا الشعب صارت له طبائع وسلوك وأخلاقيات وتقاليد تنافي وتناقض وتختلف عن طبائع وسلوك وأخلاقيات هذا الشعب الآخر؛ فهنا ابن خلدون يلفت النظر إلى أن الأخلاق أخلاق الشعوب تتكون بفعل سياسة السلطة المهيمنة على الناس، فالحاكم حين يكون باطشا قاهرا بالعقوبات ظلوما متجسسا على الناس مهتما بتتبع عيوبهم، هنا ينشأ في الناس بشكل طبيعي الكذب والخديعة والمكر واللؤم والخبث ومحاولة المراوغات والمناورات ويصير هذا خلقا فيهم، لأن الملك القاهر الباطش ملك لا يمكن أن يستقيم معه خلق الصدق والشجاعة والإخلاص، هذه الأخلاق تكون أخلاق مؤذية، يعني الإنسان الصدوق الأمين الشجاع الذي يمارس النصح الذي يمارس الإيجابية في البيئة الفاسدة المستبدة هذه أخلاق مؤذية، أخلاق مؤذية لأهلها، فلذلك الناس يضطرون إلى هذه الأخلاق التي يراوغون بها السلطة وينجون بها من هذا البطش، الأخلق هذه نفسها أخلاق الكذب والمكر والخديعة، هذه الأخلاق قد تنقلب على السلطان نفسه على الحاكم نفسه، فبالتالي حين يحدث غزو خارجي أو حين تحدث حتى مؤامرات داخلية في أروقة السلطة فالطبع العام قد يكون مساعدا لقتله والانقلاب عليه أو إسلامه (التخلي عنه) في لحظات الحروب، لأنه في النهاية النفوس اكتسبت الطباع الرديئة التي تجعل كل إنسان يبحث عن مصالحه الذاتية، بينما حين يكون الحاكم حاكما عادلا رفيقا مستقيما فهنا يكون الصدق والأمانة والشجاعة والإقدام أسلم وأقوم وأنسب لهذا العصر، لأن صاحب الأمانة في عصر العدل هو أنسب له والقيام بخلق الأمانة والقيام بخلق نجدة المظلوم والقيام بالإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذا يناسب هذا العصر ويستقيم معه، يناسب هذه السياسة، يناسب هذا الملك، لا تكون هذه الأخلاق مؤذية له وضارة به ومنكلة به وطريقه إلى السجن أو إلى القبر أو إلى المنفى؛ فبالتالي حين يكون الملك حاكما عادلا رفيقا تنصلح أخلاق الرعية – بشرط طبعا أن يكون ملكا حقيقيا لا أن يكون صورة لا تحكم كما حدث مثلا في التجربة المصرية، حقيقة أن الرئيس (محمد مرسي) لم يحكم – لكن القصد هنا أن وجود حاكم عادل ينشر في الناس أخلاقه أخلاق العدل والرحمة وأخلاق الرفق، وبالتالي هؤلاء الناس يشربون محبته ويستنيمون إليه ويلوذون به ويكونون أشد الناس دفاعا عنه، لأن قيام حياتهم وقيام أخلاقهم يعرفون أنها تكون بقيامه وبوجوده. هذا الأمر لا يتعلق فقط بعلاقة السلطة بالرعية، وإنما يتعلق أيضا بكل علاقة مسؤول بمسؤوليه، ومرؤوس بمرؤوسيه، حتى الأب في البيت، حتى المعلم بالنسبة لطلابه، حتى الرجل بالنسبة لخدمه ومن يرأسهم، وبالتالي نشأة هذه الأخلاق يعني نشأة البيوت نشأة الأخلاق الأولى في البيوت تعتمد على أخلاق الأب وأخلاق الأم التي تشكل البذرة الأولى من أخلاق الأبناء؛ فابن خلدون يلفت النظر إلى هذا ويقول:

”من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلّمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيّق عن النّفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التّظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلّمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانيّة الّتي له من حيث الاجتماع والتّمرّن وهي الحميّة والمدافعة عن نفسه ومنزله. وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النّفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيّتها فارتكس وعاد في أسفل السّافلين. وهكذا وقع لكلّ أمّة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف”

هذا المعنى في غاية الأهمية؛ الإنسان حين يكتسب الأخلاق الرديئة يصعب عليه أن يكتسب الأخلاق الحسنة، الأخلاق الرديئة تطرد الأخلاق الحسنة وبعض هذه الأخلاق الرديئة لا يمكن النجاة منها، تتأصل في النفس وتتعمق حتى يصير اكتساب الخلق الحسن فيها متعذرا وأحيانا يكون مستحيلا، فلأجل ذلك الشعوب التي طال عليها أمد القهر وتعمق فيها شأن الذل، وصار فيها خلق الانقياد، هذه الشعوب لا تتخلص من هذه الصفات إلا بعد عقود أو بعد نشأة جيل آخر؛ وبالمناسبة كان هذا من أصرار تربية الله تبارك وتعالى لسيدنا موسى بأن جعله ينشأ في قصر فرعون، فلا يشرب الذل الذي كان سيشربه لو أنه ربي في بني إسرائيل، سيدنا موسى لما نشأ في قصر فرعون نشأ عزيزا نشأ نشأة الأمراء فلم يكن منطبعا بالذل الذي كان فيه بنوا إسرائيل؛ خلق الذل هذا من الأخلاق التي تطرد خلق الشجاعة؛ ابن خلدون يتحدث عن أن الناس مع كثرة القهر والعسف، حتى في الأطفال، وحتى في الخدم، وحتى في المرؤوسين الذين ينتشر فيهم القهر والخوف، فهذا يلجئهم إلى المراوغات فلما يلجئهم إلى المراوغات يصير صعبا أن يكتسب خلق الشجاعة والحمية وبالتالي يفقد خلق المدافعة، لأن الإنسان المقهور لا يستطيع الدفاع عن نفسه لا يستطيع حماية نفسه، هو لو يستطيع حماية نفسه لم يكن مقهورا أصلا، لكن هو حيث أنه فقد القدرة على المدافعة فهو يكتسب أخلاق الخبث واللؤم والمكر، وبالتالي يصير عيالا على غيره، فحين تأتي فرصة خيانة يخون، أو حين تأتي فرصة قهر آخر وذل آخر فيستجيب له، لأنه فقد إمكانية المدافعة والحماية. فالفكرة الأخيرة أن بعض الأخلاق التي يزرعها القهر والعسف في الناس يكون صعبا التخلص منها، ولا تتخلص منها الأمة إلا حين ينشأ جيل جديد يفارق هذا الموضوع؛ وإن شاء الله في حلقة قادمة سنحدث عن قصة بني إسرائيل بوضوح لأن هذه القصة فيها هذا المعنى بأوضح ما يمكن؛ لكن الخلاصة التي نريد أن نتحدث فيها الآن هو أنه من أراد إصلاح أخلاق قوم فهو في الحقيقة يجب أن يسعى في إصلاح السلطة المهيمنة عليهم، لأنه يتعذر إن لم يكن يستحيل أن تصلح أخلاق الناس والسلطة التي عليهم سلطة عسف وقهر وظلم، هذا ضد طبيعة البشر، هذا ضد الطبائع ضد السنن، فبالتالي محاولات الإصلاح من الأسفل ومحاولات إيجاد خلق عام ينتشر بالعدل في وجود السلطة القاهرة التي تدفع الناس لأخلاق الكذب والخديعة، هذا أمر غير ممكن في الحقيقة وهذا أمر كما يراعى في السلطة يجب أن يراعى أيضا عند المعلمين من أول الكتاتيب وحتى المدارس، وكذلك يراعى لدى الأبناء، ويراعيه كل إنسان على مرؤوسيه.

(المصدر: موقع البوصلة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى