مرئيات

طبائع الحكم مع ابن خلدون 7- تأسيس الدول بالقوة لا بالإقناع

طبائع الحكم مع ابن خلدون 7- تأسيس الدول بالقوة لا بالإقناع

بقلم محمد إلهامي

قال المتنبي: ”الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ.. هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني”

وقال أبو تمام: ”السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ.. في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ”

فأيهما أصاب؟ وأيهما أخطأ؟

ومن يكون أولا: القلم أم السيف؟

”اعلم أنّ السّيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدّولة يستعين بها على أمره إلّا أنّ الحاجة في أوّل الدّولة إلى السّيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشدّ من الحاجة إلى القلم لأنّ القلم في تلك الحال خادم فقط منفّذ للحكم السّلطانيّ والسّيف شريك في المعونة وكذلك في آخر الدّولة حيث تضعف عصبيّتهما كما ذكرناه ويقلّ أهلها بما ينالهم من الهرم الّذي قدّمناه فتحتاج الدّولة إلى الاستظهار بأرباب السّيوف وتقوى الحاجة إليهم في حماية الدّولة والمدافعة عنها كما كان الشّأن أوّل الأمر في تمهيدها فيكون للسيف مزيّة على القلم في الحالتين ويكون أرباب السّيف حينئذ أوسع جاها وأكثر نعمة وأسنى إقطاعا”

 

في كلام ابن خلدون السيف هو القوة العسكرية، هو القوة المسلحة، هو القوة الخشنة، القوة المادية، أما القلم فهو الإعلام، هو الفكر، هو الثقافة، هو القوة الناعمة، فكلاهما بحاجة إلى الآخر، والدولة بحاجة إلى كليهما معا؛ فالسيف بدون قلم، السيف بدون فكر فساد، وأصحاب السيف بدون عقل هم قاطعوا طريق، كذلك القلم بدون السيف عاجز، لا يستطيع أن يفعل شيئا ولا أن يغير شيئا، القلم هو الذي يبرر للسيف، يمهد له، يشرعن أمره، يحرض عليه، يحرض الناس إليه، ويجمع الناس إليه، ويبرر له، ويفسر طريقته، وهو الذي يكتب ويخلد ذكره أيضا؛ والقلم بحاجة إلى السيف لأن السيف هو الذي ينفذ رؤيته، فالقلم الفصيح البليغ لو ظل مئات السنين ويستطيع أن يقيم الحق بالبلاغة والفصاحة والبيان لم يستطع أن يغير شيئا على أرض الواقع؛ لم يقم سلطان بلا سيف ولم يقم سلطان بلا قلم، لكن هنا ابن خلدون يلفت النظر إلى أمر مهم: وهو حالات أول الدولة وحالات آخر الدولة، القلم حين يكون مهزوما، القلم المهزوم، يمكن أن يكتب بنفسه اعتذارا عن من كان سبق وكتبه، من يقرأ منكم أدب السجون الروايات التي كتبها السجناء سيجد أن السجناء حين يطول بهم الزمن يبدؤون في نقد أنفسهم، ويبدؤون في الاعتذار عما فعلوه، ويبدؤون في سب بعضهم البعض، وبعضهم يقول للثاني لو كنا على حق لما كنا وصلنا إلى هنا، لو أنك على خير لما كان الله ألقاك هنا، والعلماء المثقفون المفكرون الذين دخلوا إلى السجون في حالة من النضال هم بأنفسهم يكتبون مراجعاتهم الفكرية، ويعتذرون بأنفسهم عما كانوا قد فعلوه، لماذا؟ لأنهم هزموا أمام السيف؛ ابن خلدون يلفت النظر إلى مسألة، مسألة أول الدولة، وآخر الدولة، ووسط الدولة، فيقول السلطان دائما في حاجة إلى القلم والسيف، لا توجد دولة قامت بلا سيف ولا دولة قامت بلا قلم، يعني بلا فكر بلا قوة ناعمة، لكن في بداية الدولة بداية النظام الحاجة إلى السيف أكثر من الحاجة إلى القلم، يعني في وقت الحرب في وقت الثورة في وقت الانقلابات العسكرية في وقت الاحتلال الأجنبي في وقت التغيير بالقوة إنشاء الدول وإسقاط الدول الإقناع والنقاش غير مفيد قليل الفائدة، فلأجل ذلك صاحب الدولة يحتاج إلى السيف في هذه المرحلة أكثر من حاجته إلى القلم، وفي هذه الفترة يبزغ العسكريون، العسكريون الذين يتحولون إلى أبطال، وفي هذه الفترة العسكريون يسيطرون على أغلب المناصب العليا في الدولة، طيب أين القلم؟ القلم موجود، لكن القلم منفذ للحكم السلطاني، السيف شريك في المعونة، فلأجل هذا الحاجة إلى السيف في أول الدولة مادام أهلها في تمهيد أمرهم أشد من الحاجة إلى القلم، نفس الكلام في مرحلة آخر الدولة، في مرحلة آخر الدولة، الدولة ستنهار، الحاجة إلى السيف في إبقاء الدولة وفي تأجيل انهيارها أشد من الحاجة إلى القلم، وإذا كانت الدولة نفسها ضعفت يأتي السلاطين والملوك بالمرتزقة وبالقوات الأجنبية لأنهم يريدون قوة تسند الدولة، وتستطيع القوة العسكرية أن تؤجل انهيار الدولة سنوات وقد تطول، وهذا أمر مهم وكثيرا ما حصل، أن الدولة ينخرها الفساد وتعمل فيها عوامل الضعف لكن قوتها العسكرية تستطيع أن تمد في عمرها عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو حتى مئة سنة في بعض الأحيان، وهذا يكون مؤثرا للغاية، ففي أول الدولة وفي آخر الدولة الحاجة إلى السيف أكثر من الحاجة إلى القلم؛ نحن لو كنا فقهنا هذا – رغم أن الذي كتبه جدنا ابن خلدون من أمتنا العربية والإسلامية ورجل نفتخر به ونردد اسمه –لم تكن ثوراتنا قد آلت لما آلت إليه، في لحظات الحروب في لحظات الثورات الحاجة إلى السيف أكثر من الحاجة إلى القلم والإقناع والحوار والتوافق، ولذلك أنت حين تفتش في تاريخ الثورات الناجحة ستجد أنها ثورات تعاملت بكل الحزم والحسم والجذرية مع النظام السابق، طيب إذا لم تتعامل بهذا الحزم والحسم والجذرية مع النظام السابق؟ سينقلب النظام السابق بأشد من هذا قسوة واستئصالا وحسما وجذرية لكي يعود أشد نكيرا، فلذلك الثورات الفاشلة هي في الحقيقة تؤدي إلى ما كان أسواء مما ثارت عليه، ولذلك قالوا: ”أنصاف الثورات قبور الثوار” فهنا يجب أن نفرق المرحلة التي نحن فيها، مرحلة أننا نريد إنشاء نظام أو مرحلة الدفاع عن النظام هذه مراحل الحاجة فيها إلى السيف أكثر من الحاجة إلى القلم:

”وأمّا في وسط الدّولة فيستغني صاحبها بعض الشّيء عن السّيف لأنّه قد تمهّد أمره ولم يبق همّه إلّا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والضّبط ومباهاة الدّول وتنفيذ الأحكام والقلم هو المعين له في ذلك فتعظم الحاجة إلى تصريفه وتكون السّيوف مهملة في مضاجع أغمادها إلّا إذا أنابت نائبة أو دعيت إلى سدّ فرجة وممّا سوى ذلك فلا حاجة إليها فتكون أرباب الأقلام في هذه الحاجة أوسع جاها وأعلى رتبة وأعظم نعمة وثروة وأقرب من السّلطان مجلسا وأكثر إليه تردّدا وفي خلواته نجيّا لأنّه حينئذ آلته الّتي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه والنّظر إلى أعطافه وتثقيف أطرافه والمباهاة بأحواله”

أما وسط الدولة، الدولة استقرت ولم يعد لها عدو، تمهد أمرها، حينئذ يكون القلم هو الشريك في المعونة، ويكون السيف هو المنفذ للحكم السلطاني، لا يحتاج الملك، أو لا يحتاج النظام، إلى القوة العسكرية في حال تمهد الدولة إلا بأدنى أحوالها، يعني حفظ الأمن في الداخل، تحقيق الهيبة والردع في الخارج، والأمن الذي يتيح له أن يأتي بالموارد، وأن ينظم الأمور، الأمور التي تقيم الملك، بينما هنا تكثر المدارس، هنا تبدأ المناظرات والأمور الفكرية والمكتبات والإنتاج العلمي، وهنا يكثر المدنيون والعلماء في حاشية السلطان، وهنا يهتم السلطان نفسه أن يظهر كراعي للعلم والعلماء والثقافة والمثقفين، وهذا مما يمهد الدولة، يعني الدولة حين قامت، قامت بقوتها العسكرية القوة الخشنة، لكنها حين تتمهد تعظم بقوتها الناعمة، فلذلك حين يكثر المدنيون في المناصب العليا يحدث الاقتراب بين فئة العلماء – العلماء من كل التخصصات يعني طبعا لا أقصد هنا العلماء الشرعيين – فئة العلماء تكون أكثر ارتباط بالدولة، الارتباط بشكل مباشر بمعنى العلاقات بينهم وبين السلطة علاقات قائمة، أو بشكل غير مباشر، حتى العالم الذي ليس له ارتباط بالسلطة وليس له ارتباط بالنظام حالة الأمن التي يحياها والتي تجعله ينتج ويدرس وتفتح المكتبات والمدارس هذه الحالة تجعله أكثر حرصا على بقاء هذا النظام، وعلى بقاء هذه السلطة، حتى لو لم يكن مستفيدا منها، فوسط الدولة تتزين الدولة بالعلم والعلماء، تكثر الإنتاجات والمدارس والمكتبات والأمور الثقافية والحالة الإعلامية، ويكون هذا من دواعي تمهيد الدولة في الداخل وفي الخارج، الدولة الممهدة تتحول إلى مبهرة، تستقبل البعثات التعليمية يأتي إليها طلاب العلم من الخارج يدرسون فيها وينبهرون بها، ويصيرون منجذبين إليها وإذا عادوا إلى بلدانهم صاروا دعاة إليها ومحاولين إلى أن يقلدوا ما هي فيه من النهضة، وحتى السلطة نفسها في ذلك الوقت تتعامل مع المعارضين تعاملا ضعيفا، لأن الدولة متمهدة، فالعقوبات المخففة الإبعاد السجن البسيط العزل من المناصب نحو هذه الأمور، بينما خصوم الدولة في حالة انشائها وفي حالة انهيارها خصوم الدولة في هذه المرحلة يعاملوا بكل الحسم والجذرية والاستئصالية؛ حتى أنك تستطيع أن تعرف هل هذه الدولة في حالة انهيار أم في حالة تمهد في حالة شك أم في حالة يقين من تعامل النظام مع المعارضين، النظام طالما تعامل مع المعارضين بعنف شديد فلا تزال هذه الدولة غير واثقة من نفسها ما تزال في تمهيد أمرها أو ما تزال تعاني السقوط والانهيار، طيب النظام يستوعب المعارضة أو قد يعطي معارضة شكلية أو يتعامل معهم بالعقوبات المخففة فهذه دولة في حالة من التمكن، فتستطيع أن تفهم من هذه الحالة مؤشر وجود هذه الدولة.

غير المتنبي رأيه في آخر حياته، كان يقول:

الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ

هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني

ثم قال فيما بعد:

حَتّى رَجَعتُ وَأَقلامي قَوائِلُ لي

المَجدُ لِلسَيفِ لَيسَ المَجدُ لِلقَلَمِ

اِكتُب بِنا أَبَداً بَعدَ الكِتابِ بِهِ

فَإِنَّما نَحنُ لِلأَسيافِ كَالخَدَمِ

ثم هو يرد عليها، على أقلامه فيقول:

أَسمَعتِني وَدَوائي ما أَشَرتِ بِهِ

فَإِن غَفِلتُ فَدائي قِلَّةُ الفَهَمِ

مَنِ اِقتَضى بِسِوى الهِندِيِّ حاجَتَهُ

أَجابَ كُلَّ سُؤالٍ عَن هَلٍ بِلَمِ

يقول يعني من لا يستطيع أن ينفذ إرادته بالسيف سيجيب كل سؤال هل فعلت؟ هل أنجزت؟ هل تجنبت؟ بلم، لم أفعل، لم أنجز ولم أتجنب. فلو كان البيان يغيث رجلا لكان المتنبي سيد شعراء العرب هو أسعد الناس بهذا البيان ولكنه ختم بقوله هذا: ”المَجدُ لِلسَيفِ لَيسَ المَجدُ لِلقَلَمِ”

(المصدر: موقع البوصلة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى