طبائع الحكم مع ابن خلدون 6- الأنبياء احتاجوا إلى القوة
بقلم محمد إلهامي
هل الحق عاجز عن الإقناع؟
إن كان الحق قويا فلماذا يحتاج إلى القوة؟
وإن كان ضعيفا فكيف يكون حقا؟!
هل يليق بمن يرفع شعار الإصلاح أن يرفع باليد الأخرى سلاح الحرب؟!
”الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم وهذا لما قدّمناه من أنّ كلّ أمر تحمل عليه الكافّة فلا بدّ له من العصبيّة وفي الحديث الصّحيح: ”… فما بَعَث اللهُ بعْدَه نبِيًّا إلَّا في ثَرْوةٍ مِن قَومِه” وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى النّاس بخرق العوائد فما ظنّك بغيرهم”
لو أن الناس يهتدون بمجرد معرفة الحق كان الأمر سيكون سهلا ولم تكن تنشأ في هذا العالم لا جيوش ولا امبراطوريات ولا أجهزة شرطة ولا أمن ولا استخبارات، ولا تقوم حروب، لأن كل ما نريد لحل الخلاف بل متنازعين أن أحدهما يقيم الحجة على أنه صاحب الحق فيهتدي له الآخر، حيث أن هذا لا يحدث، حيث أن الدول قامت فيها أجهزة أمن وشرطة وجيوش ومخابرات وخاضت حروب، فهذا في حد ذاته دليل على أن مجرد معرفة الحق لا تساوي الاهتداء والالتزام بهذا الحق، هذا أمر نعرفه في أنفسنا، كل فرد يعرف في نفسه أنه قد يرتكب الذنب قد يرتكب الجريمة وهو يعرف أنه ذنب وأنه جريمة وأنه يضعف، قد يكون الضعف هذا للشهوة، غلبة الشهوة تدفعه لأن يرتكب ما يعرف أنه ذنب وجريمة، وقد يرتكب هذا للمصلحة، يعني مخالفة القانون الخطأ الجريمة هو الأمر الذي يحقق له مصلحته فيأتي له بالمال أو يأتي له بالجاه أو يأتي له بالنفوذ، وقد يكون للإلف والعادة، والرجل نشأ في بيئة تسير على منهاج خاطئ فهو لا يستطيع أن يتحرر من هذا، وكل هذا قاله الأنبياء لأقوامهم يعني قالوا: ﴿… إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) هذا إلف العادة: ﴿وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا … ﴾ هذا المصلحة، هم يعرفون أنه الهدى، ﴿وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا … ﴾، هداك هذا سيأتينا بويلات اقتصادية وسيضرب مصالحنا الاقتصادية، وقد يكون لغلبة الشهوة، والناس ينشأ فيهم من جحود الحق خصوصا إذا كان الحق ضعيفا ينشأ فيهم من جحود الحق ما يجعلهم يقولون كما قال الأنبياء لأقوامهم، ﴿ … فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾، فلذلك احتاج الأنبياء إلى القوة، لذلك لم يكن وجود الحق وحده يكفي للهداية، لو كان هذا ما حمل الأنبياء سيفا ولا جاهدوا، ولا حمل أي مصلح في التاريخ سيفا ولا جاهد ولا كافح ولا ناضل، ولكن كل هذا حصل لأن معرفة الحق وحده لا تؤدي لأن يهتدي إليه الناس، ومن هاهنا كان من سنة الله تبارك وتعالى أن يرسل الأنبياء في أشراف أقوامهم كما في حديث أبي سفيان مع هرقل لما سأله: ”كيفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟” قال أبو سفيان: ”هو فِينَا ذُو نَسَبٍ”، … قَالَ هرقل: ”فَكَذلكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ في نَسَبِ قَوْمِهَا”، والنبي ﷺ كان يقول: ”… فما بَعَث اللهُ بعْدَه نبِيًّا إلَّا في ثَرْوةٍ مِن قَومِه” يعني في منعة من قومه، وسيرة النبي ﷺ تدل على هذا، فقد عاش النبي في حماية عصبته بني هاشم وزعيمهم أبو طالب، عاش في حمايتهم حتى استوت الدعوة الإسلامي على عودها، ولولا ذلك لانهار أمر الإسلام وانهار أمر الدعوة، وضرب الله لنا مثلا أحسب أنه مثل للنبي المستضعف وهو مثل سيدنا لوط عليه السلام الذي أراد قومه أن يفجروا بضيوفه فـ: ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾، فلذلك الحق وحده غير كاف في اهتداء الناس إليه، ولابد أن يكون الحق متسلحا بقوة كي يستطيع أن يسود وهو الحق، والأنبياء وهم أكمل الناس دينا وهم أفضل الناس أشخاصا وهم أصح الناس عقولا وهم أفصح الناس ألسنة لم يستطيعوا أن يوصلوا أقوامهم إلى الهداية لو لم يكن لديهم نوع من هذه القوة، فلذلك ابن خلدون يقول الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم وهذا في الأنبياء فما بالك بغيرهم، يضيف ابن خلدون أمرا آخر، يقول:
”وانظر ومن هذا الباب أحوال الثّوّار القائمين بتغيير المنكر من العامّة والفقهاء فإنّ كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدّين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنّهي عنه والأمر بالمعروف رجاء في الثّواب عليه من الله فيكثر أتباعهم والمتلثلثون بهم من الغوغاء والدّهماء ويعرّضون أنفسهم في ذلك للمهالك فيه”
هنا نأتي لمسألة مهمة، وهو أن القائم بالحق لابد له من نوع قوة، ولابد له من إعداد لهذه القوة، وإلا فالذي يسلك طريق الحق ويعتصم في ذلك بمجرد البيان ومجرد الدعوة ومجرد رفع الصوت بدون اعداد للقوة فإن أمره ينتهي إلى هلكته وهلكة من كانوا معه، فهنا ابن خلدون يدين الذين قاموا لتغيير المنكر قاموا على أمراء الجور ولم يكن لهم من الإعداد، الإعداد بمعنى العصبية المانعة الكافية التي تمثل الحماية التي تحميهم من بطش أمراء الجور في فترة الإعداد كما تمثل العصبية التي يقوم عليها أمر دولتهم فيما بعد حين ينتصرون، فابن خلدون طبعا يدين هؤلاء وله فيهم كلام شديد ويقول: ”يهلكون في هذا السّبيل مأزورين غير مأجورين” يعني نحن لا نوافقه في هذا في أنهم مأزورين، لكن هو يشير إلى أمر حقيقي وطبيعي وهو أن كل ساع في إقامة حق لابد له من عصبية، الآن أحد المشكلات الشديدة المريعة في عالمنا الإسلامي يعني الإسلاميون في عالمنا الآن لو كانوا قبيلة من القبائل، لو كانوا عرقا من الأعراق، لو كانوا عصبية من العصبيات مثلا، لم يكن ليحدث فيهم هذا الذي حدث، يعني لم تكن دولة يحكمها الإسلاميون لينتزعوا منها كما ينتزع الشعر من العجين بهذه البساطة، ولو كانوا كذلك لخاضوا حربا أهلية كما تفعل أي قبيلة أخرى، ولن تسكن الحرب الأهلية إلا بالوصول إلى نوع من المحاصصة، أو حتى نوع من توزيع السلطات، أما أن يكون كيان الإسلاميين كيانا مترهلا يسهل ذبحه ويسهل إزالته ويسهل الانقلاب عليه ويسهل وضعه في السجون ويسهل وضعه في المنافي، هذا كله يدل على أن هناك إعدادا للحق ولكنه يفتقر الإعداد للقوة، يفتقر الإعداد للعصبية، يفتقر الفهم للسنن التي تجب لمن أراد أن يقوم بالحق أن يعرفها وأن يعمل بها وأن يعد نفسه لها.
لذلك من أهم ما يجب أن نستوعبه أن الإنسان لم يحاول كسر العصبية ولم يحاول كسر القبلية أبدا، الإسلام إنما عزز وجود القبلية وعزز وجود العصبية وكل ما جاء في صلة الرحم وفي تعظيم أمر الرحم وفي اشتقاقها من اسم الله الرحيم ومن اسم الله الرحمن كل هذا انما كان يعززها، والنبي ﷺ حين ذهب إلى المدينة إنما كان يقطع الناس الأراضي التي في المدينة كأنهم قبائل وعائلات، وجيش النبي ﷺ ثم جيش الصحابة من بعده في حروب المرتدين وفي الفتوحات كان جيشا منقسما إلى قبائل، الإسلام كان يستفيد من هذه العصبية القبلية التي تحمل الناس على الدفاع عن أرحامهم وأصهارهم، إنما حارب الإسلام أن تعلوا هذه القبلية على الحق، هذا الذي حاربه الإسلام، ولذلك قال النبي ﷺ: ”انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلُومًا فقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنْصُرُهُ إذا كانَ مَظْلُومًا، أفَرَأَيْتَ إذا كانَ ظالِمًا كيفَ أنْصُرُهُ؟ قالَ: تَحْجُزُهُ، أوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فإنَّ ذلكَ نَصْرُهُ”، فهذه نصرة الظالم وهذا هو المعنى الجديد الذي وضعه الإسلام للعصبية أن يكون الحق فوق العصبية لكن لم يحاول الإسلام أن يكسر هذه العصبية، فهذه من الأمور التي لابد أن يتمسك بها الراغبون في الإصلاح ولابد أن يعد لها المصلحون، لأنه في النهاية حمل الحق والدعوة إليه بمجرد الوسائل السلمية الحسنة أمر لا يغني شيئا في حال توحش الباطل وفي حال إحاطة الباطل بالداعية صاحب الحق، وكما تعرفون جميعا مسائل مثل القانون والدستور والنظام الدولي هذه كلها خرافات لا توجد إلا عند المغفلين بينما صاحب الحق إذا أراد إقامة الحق فلابد له من قوة تعينه على هذا.
في مدح أمير الشعراء أحمد شوقي لنبينا ﷺ في البردة لمس هذا المعنى الذي نتحدث فيه، فقال يمدح نبينا ﷺ:
قالوا غَزَوتَ وَرُسلُ اللَهِ ما بُعِثوا
لِقَتلِ نَفسٍ وَلا جاؤوا لِسَفكِ دَمِ
جَهلٌ وَتَضليلُ أَحلامٍ وَسَفسَطَةٌ
فَتَحتَ بِالسَيفِ بَعدَ الفَتحِ بِالقَلَمِ
لَمّا أَتى لَكَ عَفواً كُلُّ ذي حَسَبٍ
تَكَفَّلَ السَيفُ بِالجُهّالِ وَالعَمَمِ
وَالشَرُّ إِن تَلقَهُ بِالخَيرِ ضِقتَ بِهِ
ذَرعاً وَإِن تَلقَهُ بِالشَرِّ يَنحَسِمِ
(المصدر: موقع البوصلة)