طبائع الحكم مع ابن خلدون 10_مصير الأمم المغلوبة
أين تذهب الأمم التي كانت قوية بعد أن تغلب؟ لماذا تختفي وتضمحل وتغادر مسرح الحياة حتى كأنها لم تكن؟
ولماذا لا تعود الأمة بعد انهيارها إلى صدارة الحضارة من جديد؟
وأمتنا الإسلامية.. هل انهارت أم لا؟ فإذا كانت قد انهارت، فهل ثمة أمل في قيام جديد؟ وإذا لم تكن قد انهارت بعد، فهل هي مرشحة للانهيار في ظل كل هذه المؤامرات؟
”الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء والسّبب في ذلك والله أعلم ما يحصل في النّفوس من التّكاسل إذا ملك أمرها عليها وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم فيقصر الأمل ويضعف التّناسل والاعتمار إنّما هو عن جدّة الأمل وما يحدث عنه من النّشاط في القوى الحيوانيّة فإذا ذهب الأمل بالتّكاسل وذهب ما يدعو إليه من الأحوال وكانت العصبيّة ذاهبة بالغلب الحاصل عليهم تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم بما خضد الغلب من شوكتهم فأصبحوا مغلّبين لكلّ متغلّب وطعمة لكلّ آكل”
في بلادنا المغلوبة تتزايد نسب الانتحار، آخر تقرير لمنظمة الصحة العالمية كانت مصر الأولى عربيا في الانتحار بـ 3799 حالة انتحار في عام واحد، يليها السودان 3205 حالة، ثم اليمن 2335 حالة، ثم الجزائر، ثم العراق، ثم السعودية؛ وفي بلادنا تزيد حالة الطلاق، في مصر مثلا 215 ألف و500 حالة طلاق (عام 2013م)، عدد المطلقات تقريبا 05 مليون و600 ألف مطلقة، نتج عن ذلك تضرر تقريبا 07 ملايين طفل، بالإضافة إلى 250 ألف حالة خلع، وطبقا لمركز معلومات رئاسة الوزراء حالات الطلاق في مصر أصبحت بواقع حالة كل دقيقتين ونصف؛ وتقل نسب الزواج، عقود الزواج تناقصت (في مصر) من 887 ألف عقد خلال عام 2018م، كانت في عام 2017م 912 ألف و606 عقد زواج، وبالتالي تزيد نسبة العنوسة عند الشباب والبنات حتى بلغت نسبة غير المتزوجين 15 مليون حالة؛ في نفس الوقت يقل معدل إنجاب الأطفال، يزداد التفكك الأسري؛ تزداد نسبة الهجرة إلى الخارج، ثلاثة أرباع (3\4) العقول المهاجرة تذهب إلى كندا وأمريكا، بلادنا تخسر 200 مليار دولار من أثر هجرة العقول، العلماء العرب في السنة الواحدة يهاجر منهم 100 ألف إلى الدول الغربية، ثلث (1\3) الكفاءات المهاجرة عبر العالم من العرب، مصر وحدها هاجر منها 86 ألف عالم منهم حوالي 2000 متخصصين في الطاقة النووية …
السبب كما يقول ابن خلدون هو ما يكون من التكاسل، الإنسان حين يفقد الأمل، يفقد الرغبة في النشاط في العمل، في الجد، يفقد الرغبة في الزواج، وإذا تزوج وشعر بالمسؤوليات يفقد الرغبة في استمرار الزواج، فيسارع إلى الطلاق، أو يسارع إلى هجران البيت، والآن نسب هائلة من نسب النساء المعيلات التي تتولى رعاية الأطفال، يعني ازدياد نسبة الطلاق وازدياد نسبة هجران البيت، ازدياد نسبة الانتحار، كل هذا راجع إلى زوال الأمل، حصول اليأس، حصول القهر، القهر الذي لا يجد فيه الإنسان مجالا لأن يفعل شيئا، الأصل في العمران، الأصل في الحياة، الأصل في النشاط المادي، الأصل في الإنجاز، هو أن يكون مدفوعا بالأمل، إذا زال الأمل وحصل القهر، وكان الانسان المغلوب لا يستطيع أن يدفع هذا القهر عن نفسه، تناقص هذا؛ هذا مثلما هو حاصل في الأفراد يحصل في الأمم، الأمم المغلوبة تذوب، كأنها تنتهي، لا تذوب بمعنى أنها تفنى وتباد بمعنى أن الناس تختفي بطبيعة الحال، وإنما الأمة ككيان، ككتلة، هذه الأمة تذوب وتدخل في طاعة الأمة التي غلبتها أو طاعة الحضارة التي غلبتها؛ فمصير الأمم المغلوبة هو الذوبان، الانتهاء، التلاشي، يحدث هذا بالنسبة للأفراد كما يحدث هذا بالنسبة للمجتمعات، ولذلك الطغيان بما يكسره من قوة الأمة، وبما يسببه من ضعف الأمل – ابن خلدون يتكلم عن لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة – الطغيان بما يفعل ذلك فهو يمهد الأمة للاحتلال، لأنه يكسر هذه الطاقات، يعني ابن الأثير يفسر هذا الانتشار السريع للتتار، بأنهم لم يجدوا المانع، لماذا لم يجدوا المانع؟ لأن محمد خوارزم شاه صاحب الدولة الخوارزمية كسر بطغيانه وبحروبه الأمم التي كانت محاطة به، فلم يبقى إلا أن ينكسر هو أمام التتار لكيلا يجد التتار قوة تدافعهم وتمنعهم، فكان يقول انما انتشروا هذا الانتشار لزوال المانع؛ نقرأ من ابن خلدون:
”فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء والبقاء للَّه وحده واعتبر ذلك في أمّة الفرس كيف كانت قد ملأت العالم كثرة ولمّا فنيت حاميتهم في أيّام العرب بقي منهم كثير وأكثر من الكثير يقال إنّ سعدا (بن أبي وقاص) أحصى ما وراء المدائن (الفرس) فكانوا مائة ألف وسبعة وثلاثين ألفا منهم سبعة وثلاثون ألفا ربّ بيت ولمّا تحصّلوا في ملكة العرب وقبضة القهر لم يكن بقاؤهم إلّا قليلا ودثروا كأن لم يكونوا ولا تحسبنّ أنّ ذلك لظلم نزل بهم أو عدوان شملهم فملكة الإسلام في العدل ما علمت وإنّما هي طبيعة في الإنسان إذا غلب على أمره وصار آلة لغيره”
فابن خلدون هنا يلفت النظر إلى أن ذوبان الأمة، أو انتهائها ليس لوجود الظلم الذي نزل بهم، يعني ليس بالضروري أن يكون نزل بهم ظلم أو شملهم عدوان، وإنما هي الأمة حين تغلب تنحل ككيان، لمثل هذا كان المسلمون (النبي ﷺ وصحابته من بعده) شديدي الحساسية لألا يتكرر على المسلمين هزيمة، وهذا ما يجب أن يحاوله المسلم في نفسه، فالنبي ﷺ أصر أن يخرج بمن غلب معه من صحابته في أحد إلى غزوة حمراء الأسد في اليوم الثاني مباشرة، لكي لا تتكرر الهزيمة، وبالفعل استطاعوا أن يتجنبوا حصول ووقوع هذه الهزيمة من خلال غزوة حمراء الأسد، النبي ﷺ لما بدت بوادر الهزيمة في حنين، وقف وجمع إليه الصحابة وصار ينادي: ”أَنَا النبيُّ لا كَذِبْ، أَنَا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ”، حتى جاءه الصحابة، وانقلبت الهزيمة إلى نصر مرة أخرى؛ سيدنا أبو بكر في حروب الردة، بنوا حنيفة هزموا جيشا واثنين للمسلمين بقيادة شرحبيل وقيادة عكرمة، ومع ذلك ظل يدفع إليهم الأرتال حتى خالد ابن الوليد، فانتصر على بني حنيفة؛ في فتوحات فارس هزم المسلمون في معركة الجسر في 25 شعبان سنة 13هـ فأتبعه عمر – كان في ذلك الوقت أمير المؤمنين – بجيوش أخرى حتى أعادت الانتصار في معركة البويب 13 رمضان سنة 13 هـ يعني بعد موقعة الجسر بأقل من 20 يوم؛ كان النبي ﷺ وصحابته من بعده شديدي الحساسية ألا تتكرر الهزيمة على المسلم، لأن وجود الهزيمة يحل ويضعف من قوة الإنسان في نفسه كما يحل ويضعف من قوة الكيان، وخالد بن الوليد رضي الله عنه لما سمع رجلا من المسلمين في معركة اليرموك يقول: ”ما أكثر الروم وأقل المسلمين!” (الروم في ذلك الوقت كانوا 250 ألف أو 200 ألف والمسلمين 33 ألف) فسيدنا خالد قال: ”بل مَا أقل الرّوم وَأكْثر الْمُسلمين، إِنَّمَا تكْثر الْجنُود بالنصر، وتقل بالخذلان”، وفعلا الروم كانوا مسلسلين في هذه المعركة لما توالى عليهم من انتصارات المسلمين، فسيدنا خالد كان يدرك هذه القاعدة ”إنّما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالهزيمة”، وانتصر المسلمون في اليرموك مع هذا الفارق الهائل في العدد؛ أبو مسلم الخرساني كانت له كلمة مشهورة لما سئل من أقوى الناس، قال ”كل قوم في إقبال دولتهم شجعان”، القوم في إقبال الدولة يتمتعون بالنصر ويزيدهم النصر قوة إلى قوتهم، لذلك أقوى الناس هم القوم في إقبال دولتهم؛ النبي ﷺ حذر المسلم، المسلم سيقع في المعاصي، فماذا يفعل؟ يسارع بالتوبة، ويسارع بأن يتلوها بحسنات، ”… وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا …” – رواه الترمذي –، لأنه إذا تكررت السيئة على المسلم وصار يضعف وينهار أمام نفسه أو أمام الشيطان، سيصعب للغاية أن يسترد قوته فيما بعد، هذا في الناس كما هو في الجماعات والأمم، واليأس عند المسلمين من الكبائر، بل وصفه القرآن الكريم بأنه كفر ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)﴾، والانتحار من أكبر الكبائر في الإسلام، النبي ﷺ في حديث شديد الوطأة، المنتحر يريد أن يتخلص من حياته، فالنبي ﷺ وعده بأن يتكرر عليه عذابه، قال: ”مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا”، فالانتحار عمل من أكبر الكبائر لأنه دليل على الضعف والانهيار والذلة والسقوط النفسي، ولا ينبغي للمسلم ولا للأمة أن تكون هذا، وقد وعدنا الله تبارك وتعالى بأن هذه الأمة لن تفنى ولن يكون لها مصير الأمة المغلوبة، وفي الحديث النبي ﷺ قال: ”سألتُ ربِّي ثلاثاً فأعطاني اثنتينِ ومَنعني عن واحدةٍ. سألتُ ربِّي أن لا يسلِّطَ عليْهم عدوًّا من غيرِهم فيجتاحُهم فأعطانيها وسألتُهُ ألا يُهلِكَهم بسنَةٍ عامة فأعطانيها وسألتَهُ ألا يجعلَ بأسَهم بينَهم فمنعنيها”، فمسألة ذوبان الأمة وانتهائها وانهيارها وفنائها هذه مسألة غير مطروحة، إذا ما الواجب علينا؟ الواجب علينا هو الصبر، وقد مدح الله تبارك وتعالى عباده الصابرين، وقال: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)﴾ وفي آية أخرى يقول الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)﴾ فـ ”الصبر نصف الإيمان” كما قال ابن مسعود رضي الله عنه؛ فالمسلم لا يعرف اليأس، المسلم لابد له من الصبر، واليأس من الكبائر، بل اليأس موصوف في كتاب الله بالكفر، ومهما كان فلابد أن يتعلق الإنسان بالله؛ يقول الرافعي: ”وإذا آمنت لم تعد بمقدار نفسك، ولكن بمقدار القوة التي أنت بها مؤمن”.
فلأجل هذا يجب أن نحفظ أنفسنا من أن يتسرب إليها يأس وأن نستعين بالصبر، صبر العمل والدأب لا صبر القعود والاستكانة.
الشيخ يوسف القرضاوي – حفظه الله – كان له قصيدة ألفها في السجون الناصرية (في المحنة الناصرية)، وهذه القصيدة حفظت في الصدور، ثم جمعها فيما بعد من هذه الصدور ومن المحفوظات، ونشرها في ديوانه وبلغت أكثر من 300 بيت، كانت قصيدة في المحنة الناصرية الشديدة ومع ذلك فقد ختمها بهذا الأمل الذي يقول فيه:
صَبْرًا أَخِي فِي مِحْنَتِي وَعَقِيدَتِي
لاَبُدَّ بَعْدَ الصَّبْرِ مِنْ تَمْكِينِ
وَلَنَا بـِيُوسُفَ أُسْوَةٌ فِي صَبْرِهِ
وَقـَدِ ارْتَمَى فِي السِّجْنِ بـِضْعَ سِنِينِ
هَوِّنْ عَلَيْكَ الأَمْرَ لاَ تَعْبَأْ بـِهِ
إِنَّ الصِّعَابَ تَهُونُ بِالتَّهْوِينِ
أَمْسٌ مَضَى، والْيَوْمُ يَسْهُلُ بـِالرِّضَا
وَغَدٌ بـِبَطـْنِ الْغـَيْبِ شِبْهُ جَنِينِ
سَنَعُودُ لِلدُّنْيَا نـُطِبُّ جِرَاحَهَا
سَنَعُودُ لِلتَّكْبِيرِ وَالتَّأْذِينِ
سَتَسِيرُ فـُلْكُ الْحَقِّ تَحْمِلُ جُنـْدَهُ
وَسَتَنـْتَهِي لِلشَّاطِئِ الْمَأْمُونِ
بـِاللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا؛ فَهَلْ
تَخْشَى الرَّدَى، وَاللهُ خَيْرُ ضَمِينِ؟!
وبالفعل تحقق هذا الأمل وعاش الشيخ بعدها 70 سنة – ما شاء الله – وملأ الدنيا علما هو وإخوانه، ملؤوا الدنيا علما ودعوة وجهادا، فلا ينبغي أن نتوقف عند لحظة المحنة بل أن نتجاوزها إلى ما بعدها.
(المصدر: موقع البوصلة)