طبائع الحكم مع ابن خلدون الظلم مؤذن بخراب العمران
هل صحيح أن الظلم يؤدي إلى خراب العمران؟
لكن كيف يكون ذلك ونحن نرى بلادا تنتشر فيها المظالم رغم تفوقها الاقتصادي؟
ولماذا يؤدي الظلم إلى خراب العمران؟
ألا يمكن للظالم أن يكون ذا كفاءة إدارية؟
”اعلم أنّ العدوان على النّاس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أنّ غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السّعي في ذلك، وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرّعايا عن السّعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيرا عامّا في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها وإن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنّما هو بالأعمال وسعي النّاس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين فإذا قعد النّاس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران”
في عام 2016م كان عدد المهاجرين من الشعب المصري 10 مليون تقريبا، 10 مليون يعني عشر (1\10) الشعب المصري (أكثر من عشر الشعب المصري في ذلك الوقت)، وفي 2019م أصدر الجهاز المركزي للمحاسبات تقريرا يقول بأن نسبة زيادة الهجرة من مصر هي في حدود الـ 10% (يعني معدل الهجرة يتزايد بنسبة 10%). ابن خلدون يتحدث عن أن ”الظلم مؤذن بخراب العمران”؛ ”الظلم مؤذن بخراب العمران”، كيف؟
هناك قصة أو حكمة فارسية تحاول تبسيط كيف أن الظلم يودي بالعمران، الحكمة الفارسية هذه من الحكم التي ذكرت في كتب السياسة الشرعية وكتب الآداب السلطانية لكي تنصح الملك كيف يفعل، فيقال أن:
أحد ملك الفرس اسمه بهرام ابن بهرام كان جالسا ومعه نديمه وسمعوا صوت البوم، فلما سمعوا صوت البوم، سأل الملك نديمه عمن يعرف لغة البوم؛ فقال له: ”أنا أعرفها أيها الملك، هذه بومة أنثى تقول للبوم الذكر أنه إذا أراد أن يخطبها فإنها تريد مهرها 20 قرية خرابا (الخراب يعني لكي تنعق فيه)، فقال لها، لو استمر حكم هذا الملك فلك مني 100 قرية خرابا”؛ فانتبه هذا الملك الفارسي وسأل نديمه، فقال له: ”أيها الملك، إن الملك لا يتم عزته إلا بالشريعة (يعني الشريعة إطاعة أمر الله تبارك وتعالى)، والشريعة لا قوام لها إلا بالملك (يعني لا يوجد شيء اسمه شريعة بلا سلطة، لا يوجد شيء اسمه قانون بلا سلطة، فالشريعة لا قوام لها إلا بالملك)، والملك لا قوام له إلا بالرجال، والرجال لا قوام لهم إلا بالمال (وأيضا لا يمكن للفقراء أن يقيموا ملكا)، ولا سبيل للمال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل؛ وأنت أيها الملك …” هنا يبدأ الظلم، الظلم يبدأ من الملك، أنه انتزع لكي يتمتع هو، ولكي تتمتع حاشيته، فانتزع الضياع والأراضي من أهلها وأعطاها لحاشيته، وحاشيته كان همهم الإنفاق والترف والتمتع، وبالتالي الذين يقومون على شأن العمارة في هذه الضياع وفي هذه الدور وفي هذه الأملاك والأموال سحبت من أيديهم انتزعت من أيديهم لم تعد مفيدة بالنسبة لهم فهاجروا من ديارهم خربت تلك الدور وخربت تلك الضياع، وبالتالي عاد هذا على الجيش بالضعف وبالتالي عاد هذا على الدولة بالضعف، وبالتالي عاد هذا على أن أعداء الدولة لما رأوا منها ثغرات بدأوا في انتهابها واقتطاعها والطمع فيها؛ فيقولون هذه القصة الفارسية، تقول بأن الملك انتبه لهذا المعنى ورد الضياع والأموال والدور إلى أصحابها لكي يقوموا عليها ونزعها من حاشيته، وبالتالي بدأت تحدث العمارة، بدأت تأتي الأموال، والأموال تقوي الأجناد، والأجناد تقوي الدولة، والدولة تنتصر على أعدائها؛ وبالتالي القصة تحاول أن تسلسل وتشرح كيف أن ”الظلم مؤذن بخراب العمران”، وأن المسألة ليست مسألة كفاءة إدارية، يعني لما الملك يكون ظالم يستطيع أن يكون بكفاءته الإدارية، يقوي العمران.
فهنا سنجد أن مسألة الظلم المؤذن بخراب العمران راجع إلى معنى أن الناس حين ييأسون – هذه الفكرة التي يذكرها ابن خلدون – الناس حين يكتسبون الأموال لكن الأموال مصيرها إلى الانتهاب منهم (أنها تنتهب منهم: تنتزع منهم) فبالتالي يقصر سعيهم عن اكتساب هذه الأموال، لأن الأموال في النهاية ستنتهي، والتقصير في هذا السعي يأتي بالكسل عن النشاط في الإنتاج وفي الحركة وفي العمل وفي التجارة يضعف هذه الأحوال والأحوال العمرانية والأحوال الاقتصادية والأحوال التجارية، وبالتالي لا يجد الحاكم نفسه المال الذي يستطيع أن ينتزعه، ويعود هذا بالضعف على الجميع وبالضعف على الرعية بطبيعة الحال، فينتهي العمران وتنتهي الدول.
طيب، بعض الناس قد يقول مثلا أن الكلام هذا ليس صحيح في دول ظالمة ودكتاتورية ومستبدة ومع ذلك الأمر فيها ليس على هذا النحو، يعني دولة مثل الصين مثلا هي دولة مستبدة جدا ودكتاتورية جدا ولكن نشاطها الاقتصادي عالي جدا وتمثل المركز الثاني في الاقتصاد العالمي، قبل أن آتي إلى هذه النقطة أذكر أمرا مهما، في هذا العصر الذي نحن فيه الدول الغربية الاستعمارية الكبرى الأجنبية المسيطرة على عالمنا حريصة على تنصيب الأنظمة الظالمة الفاسدة لكي تنهب لهم أموالنا ومواردنا وثرواتنا؛ كتاب مثل كتاب ”الاغتيال الاقتصادي للأمم”، ”الاغتيال الاقتصادي للأمم” هذا الكتاب الذي ألفه الخبير الاقتصادي جون بيركنز (John Perkins) – كان خبير اقتصادي يعمل على إغراق البلاد بالديون ثم مقابل أنه ستحصل هناك نهضة يخطط لهم تخطيطا مراوغا أنه ستحصل نهضة ثم تغرق البلد بالديون وبالتالي تظل الموارد تنزاح إلى الدول الغربية وتشترى المواقف السياسية – كان يركز على أن هذا النظام (النظام الرأس مالي) يعتمد على وجود الفساد لدى الحاكم، يعني لا يصلح لها الحاكم الوطني، لابد أن يكون الحاكم فاسدا لكي تمثل الاغراءات التي تعطى له وتمثل اغراءات وجوده في السلطة، الأمر الذي يعتمد عليه في أن يبيع ويستهلك ويستنزف ويستجيب لهذه الخطط التي تستنزف موارد الدولة.
قبل أيام من تسجيل هذه الحلقة استقالت كبيرة اقتصاديي البنك الدولي (بينيلوبي كوجيانو جولدبرج؛ Pinelopi Koujianou Goldberg)، لأن قيادة البنك الدولي رفضت نشر بحث رصدت فيه أن قروض النقد الدولي لهذه الأنظمة تساوي أو توازي تضخم مصارف هذه الأنظمة في البلاد التي تمثل الملاذات الضريبية، يعني البلاد التي يوجد فيها بنوك خارجة عن الرقابة وخارجة عن الضرائب يعطى قرض البنك الدولي، فبالتالي نرى تضخما في الحسابات المصرفية، وبالتالي القروض لا تذهب أصلا إلى التنمية، وهذا هو المقصود من العملية التي تستنزف الدول.
نأتي للسؤال كيف نفسر حالة الصين؟ سأترك الرد لابن خلدون يقول:
”ولا تنظر في ذلك إلى أنّ الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدّول الّتي بها ولم يقع فيها خراب واعلم أنّ ذلك إنّما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر فلمّا كان المصر كبيرا وعمرانه كثيرا وأحواله متّسعة بما لا ينحصر كان وقوع النّقص فيه بالاعتداء والظّلم يسيرا لأنّ النّقص إنّما يقع بالتّدريج فإذا خفي بكثرة الأحوال واتّساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلّا بعد حين وقد تذهب تلك الدّولة المعتدية من أصلها قبل خراب وتجيء الدّولة الأخرى فترفعه بجدّتها وتجبر النّقص الّذي كان خفيّا فيه فلا يكاد يشعر به إلّا أنّ ذلك في الأقلّ النّادر”
ابن خلدون يلفت النظر هنا إلى عامل قد يخفي سنة أن الظلم مؤذن بخراب العمران، وهو أن هذه الدولة تكون متسعة العمران وافرة الحضارة كثيرة الثروة؛ الدول متسعة العمران وافرة الحضارة كثيرة الثروة، الظلم يؤثر فيها نعم يؤثر فيها فعلا وينقص منها لكن لاتساع العمارة ووفور الحضارة وكثرة الأموال لا يبدوا هذا ظاهرا عيانا جليا كما يظهر في الدول التي تكون في الأقل منها، وفي التاريخ أمثلة؛ بالمناسبة مصر كانت من هذه الأمثلة ولعلنا في ختام الحلقة نشير إلى شيء من هذا؛ لكن مصر كانت بوفور أموالها حتى وإن وقع فيها الظلم لا ينتهي منها العمران، يؤثر نعم، ينحط شأن العمران فيها نعم، لكن لا يختفي ذلك بالكلية، فوفور الحضارة واتساع العمران، يعطي فرصة أوسع لظهور الخراب، لما يعطي فرصة أوسع لظهور الخراب قد تنتهي الدولة الظالمة (يعني النظام الظالم) ويأتي نظام آخر يستطيع أن يرفع بهمته النقص الذي كان واقعا، فهذا يفسر مسألة وجود دول مثلا مثل الاتحاد السوفياتي مثل الصين الدول التي كان اتساعها وعمرانها يطيل من عمر بقائها دون خراب العمران ويؤجل ظهور هذه السنة ولكن في النهاية السنة ماضية في أن “الظلم مؤذن بخراب العمران”.
بمناسبة مصر، لنعلم أن مصر كانت من الدول عظيمة الثروة إلى درجة أنه لم تظهر فيها الهجرة إلا في السبعينات (يعني مع بداية الحكم العسكري) وقبلها قليل في الستينات أقل في الخمسينات ولم يحدث أن المصريين هاجروا أراضيهم إلا في عصر محمد علي، محمد علي كان طاغية جبارا متوحشا وخربت الأراضي في عصره؛ لكن الشعر الذي سجله أبو الطيب المتنبي وهو يهجوا كافور الإخشيدي حاكم مصر فتعجب أبو الطيب المتنبي من وجود الظلم في مصر ووجود انتهاب للأموال ومع ذلك الخيرات لا تزال وافرة؛ نحن لا نأخذ الكلام هنا على أنه حقيقي لأن العلاقة بين كافور والمتنبي تحتاج تحريرا في مقام آخر، لكن لأننا نريد أن يستقر الكلام من خلال الشعر فنذكر لكم هذه الأبيات؛ قال يهجوا كافور الإخشيدي:
إِنّي نَزَلتُ بِكَذّابينَ (1) ضَيفُهُمُ
عَنِ القِرى (2) وَعَنِ التَرحالِ (3) مَحدودُ (4)
جودُ الرِجالِ مِنَ الأَيدي وَجودُهُمُ
مِنَ اللِسانِ (5) فَلا كانوا وَلا الجودُ
ما يَقبِضُ المَوتُ نَفساً مِن نُفوسِهِمُ
إِلّا وَفي يَدِهِ مِن نَتنِها عودُ (6)
ثم يقول:
نامَت نَواطيرُ (7) مِصرٍ عَن ثَعالِبِها (8)
فَقَد بَشِمنَ (9) وَما تَفنى العَناقيدُ (10)
- بكذابين: يقصد كافور الإخشيدي؛
- القرى: حق الضيف
- الترحال: الهجرة؛
- محدود: ممنوع؛
- وجودهم من اللسان: كلام بلا فعل؛
- من نتنها عود: أي أن الموت يسحب نفوسهم بعصا لأن أرواحهم نتنة؛
- نواطير: الحراس؛
- ثعالبها: اللصوص؛
- بشمن: أتخمن وشبعن وامتلأت بطونها؛
- وما تفنى العناقيد: أي لا تنتهي الثورة والخير من مصر.
(المصدر: موقع البوصلة)