مقالاتمقالات مختارة

طبائع الحكم مع ابن خلدون الحاكم التاجر ضرر على الناس

طبائع الحكم مع ابن خلدون الحاكم التاجر ضرر على الناس

بقلم محمد إلهامي

ماذا يحدث إذا تحول الحاكم إلى تاجر؟ هل تنشط الأسواق أم تركد وتكسد؟

وماذا يفعل التاجر والزراع والصناع حين يزاحمهم السلطان في نشاطهم؟

هل تزيد موارد الدولة وتزدهر إذا كان الحاكم تاجرا؟

وكيف كان أبو بكر وعمر وعثمان – وكلهم تجار – يجمعون بين التجارة والحكم؟

”وتارة باستحداث التّجارة والفلاحة للسّلطان على تسمية الجباية لما يرون التّجّار والفلّاحين يحصلون على الفوائد والغلّات مع يسارة أموالهم … يحسبون ذلك من إدرار الجباية وتكثير الفوائد وهو غلط عظيم وإدخال الضّرر على الرّعايا من وجوه متعدّدة … فإنّ الرّعايا متكافئون … وإذا رافقهم السّلطان في ذلك وماله أعظم كثيرا منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته … ثمّ إنّ السّلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرّض له غضّا أو بأيسر ثمن أو لا يجد من يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه”

 

ابن خلدون يتحدث عن السلطة حين تحرص على الترف وتجميع الأموال وتكثير الأموال، وحين تكون السلطة وحاشيتها (السلطان والوزراء وأجهزة الأمن والشرطة) مترفون، كيف يستطيع السلطان يستطيع الحاكم تستطيع السلطة أن تجمع هذه الأموال؟ لا يفكرون في التخلي عن الترف، بل يفكرون في استحداث الضرائب والمكوس على الرعية، فيضعون الضرائب على المبيعات، الضرائب على العقارات، الضرائب على الخدمات، هذا التكثير من الأموال تحاول به السلطة أن تجمع ما يقوم بترفها، ما يقوم بزخرفها وزينتها، ولا تلتفت فيه لمصلحة الرعية، فمن هذه الوسائل بعد أن يستصفي أكثر أنواع الضرائب ويتفنن في أنواع الضرائب أن تتحول السلطة يتحول الحاكم إلى تاجر ويشارك الحاكم وتشارك السلطة في حركة التجارة، وهذه مشكلة كبيرة ضخمة، لأن الحاكم حين ينزل إلى السوق التجاري فالسوق التجاري هذا قائم على الرعايا، الرعايا متكافئون، يعني الرعاية ليست بينهم الفوارق الكبيرة في الأموال ولا الفوارق الكبيرة في النفوذ، لكن حين ينزل الحاكم حين تنزل السلطة وتمارس بنفسها التجارة، ففي ذلك الوقت يتحول السوق التجاري إلى أن نزل فيه حوت كبير وهو حوت السلطان، حوت السلطان هذا يكون مدعوما بالأموال (مال السلطان أكثر بكثير من أموال بقية التجار) النفوذ الذي يتمتع به السلطان أكبر بكثير من النفوذ الذي يتمتع به عموم التجار، القوة والسطوة وإرادة الغلبة التي يمتلكها السلطان الحاكم أكبر بكثير من إرادة النفوذ والقوة والغلبة التي يمتلكها عموم التجار، فبالتالي نزول الحاكم على ساحة التجارة يؤدي إلى كسادها، كيف يؤدي إلى كسادها؟

أولا: الحصة التي يأخذها السلطان الحصة التي تتاجر فيها السلطة وتأخذها لنفسها تخصم من عموم السوق التجاري، فعموم السوق التجاري هذا يعود على الناس على الحالة التجارية بالكساد، لأن هناك قدر كبير من هذا السوق ومن هذا النشاط اغتصبته السلطة، فالتنافس وإدارة التجارة وإدارة الأموال التي بين عموم الناس انحصرت في مساحة أقل؛

الأمر الثاني: أن نزول السلطان نزول الحاكم نزول السلطة على هذه التجارة فإنه يأخذ أقيم ما فيها بأيسر سعر، فلما يأخذ أقيم ما فيها بأيسر سعر وبالتالي هو السلطان في الحقيقة لا يتاجر وإنما يعهد بتجارته إلى آخرين، فحين تبيع السلطة وتشتري فالسلطة تكسب مكسبا هائلا، وتحوز من الأموال أجودها وأقيمها وأنفسها، ثم يعود الضرر على عموم التجار والبائعين والفلاحين، لأنهم يتنافسون في هذا الجزء الضيق ثم هذا الجزء الضيق الفائض عن حاجة السلطان بعد أن أخذ منه السلطان مكسبه ونفائس ما فيه؛

فبالتالي كل هذا يعود على حركة التجارة بالكساد، يعود على حركة الزراعة الفلاحة بالكساد، وبالتالي يقل أخذ الضرائب المفروضة سواء زكوات خراج أو غيرها، حتى الضرائب الغير شرعية التي يفرضها السلطان، يقل العائد لأن الحقيقة لم تحدث مكاسب لحركة التجار والفلاحين، فهنا دخول السلطة على حركة التجارة حركة مفسدة للسلطة.

الآن في عصرنا هذا صارت هناك وسائل عديدة في التفنن في فرض الضرائب أو التفنن في الحصول على الموارد، منها مثلا بيع أراضي الدولة، يعني قبل ذلك لم يكن السلطان يعني الحاكم في التاريخ الإسلامي يرى أن هذه الأرض هي ملك له أو ملك للدولة يعني ملك يتصرف فيها وإنما هي أراضي عامة المسلمين، بينما أراضي الدولة في النموذج الحديث هي أراضي تمتلكها الدولة، وبالتالي يمتلكها الحاكم، فالحاكم يتصرف فيها ببيعها، وأحيانا بالتنازل عنها، وأحيانا تكون هذه المنطقة منطقة استراتيجية وفيها أطماع فيتنازل عنها ويبيعها للخارج، أحيانا وصلت بعض السلطات ومنها السلطة المصرية وكثير من السلطات الإفريقية أنهم يأجرون أراضي الدولة لتدفن فيها نفايات نووية أو نفايات سامة جاءت من مصانع الدول الكبرى المتقدمة مقابل مبلغ يحوزه السلطان، ففي كل الأحوال دخول السلطة على خط الترف يحملها على أن تتفنن في كثرة الضرائب، ثم يحملها على أن تقاسم التجار والفلاحين في تجارتهم ويلفت ابن خلدون النظر إلى شيء آخر:

”وقد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتّجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلّبين في البلدان أنّهم يتعرّضون لشراء الغلّات والسّلع من أربابها الواردين على بلدهم ويفرضون لذلك من الثّمن ما يشاءون ويبيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرّعايا بما يفرضون من الثّمن وهذه أشدّ من الأولى وأقرب إلى فساد الرّعيّة واختلال أحوالهم وربّما يحمل السّلطان على ذلك من يداخله من هذه الأصناف أعني التّجّار والفلّاحين لما هي صناعته الّتي نشأ عليها فيحمل السّلطان على ذلك ويضرب معه بسهم لنفسه ليحصل على غرضه من جمع المال سريعا ولا سيّما مع ما يحصل له من التّجارة بلا مغرم ولا مكس فإنّها أجدر بنموّ الأموال وأسرع في تثميره”

هنا يلفت ابن خلدون النظر إلى أن السلطان قد يحتكر بعض السلع، أو يحتكر بعض النشاطات الاقتصادية، فبالتالي إذا كانت هناك تجارة خارجية (يعني بعض الأشياء تستورد من الخارج) فيحتكرها السلطان لنفسه، ثم يبيعها لمن يعملون بها في السوق الداخلية، حين يحتكرها لنفسها فهو يفرض لنفسه أعلى المكاسب، وحين يبيعها لمن يعملون في السوق الداخلية فهو يجني منهم أفضل المكاسب، ويظل المتضرر من هذا هم الرعية الذين أخذوا هذه البضائع والسلع بأسعار قليلة ويحاولون أن يبيعونها ويثمرونها في السوق الداخلية على هذه القلة من الأسعار، وبالتالي حالة الكساد وقلة الأرباح هي التي تؤثر في عموم نشاط السوق المالي، هنا يحدث مع الفساد أن بعض أرباب التجارات يغري السلطان بأن يتاجر معه في هذا المجال وأن هذا المجال هو الأسرع في نمو الأموال وتثميرها، يستفيد بذلك هذا التاجر الفاسد المقرب من السلطان يستفيد بذلك أن تجارته هذه ستكون معفاة من الضرائب، كما يحدث الآن في مصر مثلا الأشياء التي يحتكرها الجيش باعتبار أن الجيش دخل على التجارة هو معفو من الضرائب ويجد عمالة بلا أجر وينزل إلى الأسواق بلا منافس، وبالتالي النمو الذي يحصل عليه هذا التاجر الفاسد المقرب من السلطان بالمشاركة مع السلطان، هذا يؤدي إلى أن تسحب وتمتص الأموال التي يتاجر فيها عموم الناس وتكسد المنافسة بين جانب فيه السلطة بما لها من الأموال والنفوذ والقوة والغلبة والعفو عن الضرائب والمكوس والعمالة الرخيصة، وهذه المنافسة تكون مع بقية الحالة التجارية الضعيفة التي لا تمتلك ما للسلطان من نفوذ وقوة وغلبة وتدفع الضرائب وتدفع أجور ورواتب للعمال، يؤدي هذا كله بالتدريج إلى كساد الحالة العامة من التجارة، فلذلك كما يقول ابن خلدون بأن الحاكم التاجر مفسدة للرعية، فصل في أن تجارة السلطان موجبة للكساد، طيب قد يسأل سائل ويقول يعني نحن خلفاءنا الراشدون كانوا تجارا سيدنا أبو بكر كان تاجرا سيدنا عمر كان تاجرا سيدنا عثمان كان تاجرا وهؤلاء حكموا وكانوا تجارا، هنا يجب أن ننتبه إلى تفريق مهم، أولا ابن خلدون يتحدث عن هذه الظاهرة عند السلطة التي نشأ فيها الترف وهي تحاول أن ترسخ ترفها وتنميه بالجور على أموال الرعية، يعني هو لا يتكلم عن مجمل الحكام وإنما يتكلم عن الحاكم الذي يريد أن يرسخ ترفه؛ الأمر الثاني هو أن سياسة الخلفاء الراشدين في الأموال كانت أبعد ما تكون عن هذا (الترف) لم يكونوا تجارا فقط وإنما سيدنا أبوبكر خصص له راتب لكي يتفرغ لإدارة أموال المسلمين، سيدنا عمر نفس الكلام، سياسة سيدنا عمر حتى في التجارة كانت سياسة تدل على ورع شديد، سيدنا عمر رأى مرة ابنه عبد الله بن عمر وله إبل سمينة فلمن هذه الإبل قالوا لعبد الله بن عمر فسيدنا عمر أمر ابنه برد هذه الإبل وقال (عبد الله بن عمر) حسنا لماذا؟، فقال (عمر بن الخطاب) إني أحسب الناس يقولون أفسحوا لإبل ابن أمير المؤمنين – يعني حين ترد المرعى أو حين ترد الماء فبالتالي إبل ابن أمير المؤمنين كانت سمينة أكثر سمانة من أموال الناس هذه الحاسية الدقيقة، يعني مثلا سيدنا عمر بن الخطاب كان ابنه عبد الله وعبيد الله يرجعون من العراق إلى المدينة فأبوا موسى الأشعري والي العراق قال لهم خذوا هذه الأموال أوصلوها لعمر ابن الخطاب لكن اتجروا فيها وإذا وصلتم أدوا الأموال ويكون لكم الربح فهذا نوع من الخدمة التي حاول أن يخدم بها أبو موسى الأشعري أبناء سيدنا عمر، فسيدنا عمر أول ما بلغه هذا الكلام قال لتردن الربح والمال فعبد الله بن عمر سكت وعبيد الله بن عمر قال ليس لك هذا يا أمير المؤمنين لأنه لو هلك المال لكنا ضمناه (يعني نحن تاجرنا في هذا المال لو كنا خسرناه كنا أتينا لك بالمال) فدخلوا في نزاع مع سيدنا عمر ثم انتهوا إلى أن يردوا المال ثم يردوا نصف الربح أيضا لأن أبو موسى الأشعري لم يجعل هذه الخدمة لكل الأبناء، وكان سيدنا عمر يقاسم الولات في أموالهم، يعني إذا سيدنا عمر ولى أحد الناس ولاية ما فإنه يحسب ما له فإذا زاد ماله فإنه يأخذ نصف هذه الزيادة ويردها إلى بيت المال ، ولذلك حتى أن بعض الصحابة لم يروا أن يتولوا ولاية لسيدنا عمر لشدة سيدنا عمر في مسألة المال، على كل حال طيب كيف واجه الإسلام مثل هذه الأمور فهنا أمر إن شاء الله نجعله في حلقة أخرى، ومسألة تجارة السلطان هذه من المسائل التي أن نفهمها جيدا، فدخول السلطة على التجارة التي في الرعية إنما يدل هذا على قرب انحلال وانهيار وتفكك الدولة وعلى ترف وزخرفة السلطة.

للشاعر المصري المعروف حافظ إبراهيم قصيدة بعنوان ”شكوى مصر من الاحتلال”، كان الاحتلال الإنجليزي في مصر حسابيا وإداريا الأموال تنموا، لكن الحقيقة أن هذه الأموال تذهب إلى السلطة وأتباع السلطة لأن الأجانب كثروا في مصر، وبالتالي كان كل مكسب وأرباح هذه التجارة ذهبت إلى الأجانب؛ فهو يحكي هذا المعنى في قصيدته التي بعنوان ”شكوى مصر من الاحتلال” فيقول:

لَقَد كانَ فينا الظُلمُ فَوضى فَهُذِّبَت

حَواشيهِ حَتّى باتَ ظُلماً مُنَظَّما

عَمِلتُم عَلى عِزِّ الجَمادِ وَذُلِّنا

فَأَغلَيتُمُ طيناً وَأَرخَصتُمُ دَما

إِذا أَخصَبَت أَرضٌ وَأَجدَبَ أَهلُها

فَلا أَطلَعَت نَبتاً وَلا جادَها السَما

نَهَشُّ إِلى الدينارِ حَتّى إِذا مَشى

بِهِ رَبُّهُ لِلسوقِ أَلفاهُ دِرهَما

فَلا تَحسَبوا في وَفرَةِ المالِ لَم تُفِد

مَتاعاً وَلَم تَعصِم مِنَ الفَقرِ مَغنَما

(المصدر: موقع البوصلة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى