طبائع الاستبداد وصناعة الاستعباد
بقلم أ. د. أحمد الريسوني
عنوان هذه المقالة مستوحى – كما لا يخفى – من عنوان الكتاب الشهير (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، لعبد الرحمن الكواكبي رحمه الله، المتوفى سنة 1902م. والراجح المشهور أنه قد توفي مسموما (توفي مباشرة بعد شربه فنجان قهوة في مقهاه المعتاد).. والمتهم الوحيد بتسميمه وقتله هو عدوه الاستبداد. وإلى ذلك يشير الشاعر حافظ إبراهيم في هذين البيتين المكتوبين على قبر الكواكبي:
هنا رجلُ الدنيا هنا مهبِط التـُّـقى * هنا خير مظلوم هنا خير كاتبِ
قـفوا واقـرؤوا أمَّ الكتاب وسلِّموا * عليه فهذا القـبر قــــبر الكواكبي
ومن أهم الخلاصات التي انتهى إليها الكواكبي في حياته وبحثه وتفكيره: أن السبب الأول والأكبر لتخلف المسلمين وضعفهم هو الاستبداد السياسي. يقول في بداية كتابه المذكور: “كلٌّ يذهب مذهبا في سبب الانحطاط، وفي ما هو الدواء. وحيث إني قد تمحص عندي أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي، ودواؤه دفعُه بالشورى الدستورية. وقد استقر فكري على ذلك – كما أن لكل نبأ مستقرا – بعد بحثِ ثلاثين عاما…”.
وهذا هو ما استقر عندي أيضا، بعد أمضيت نحوا من ثلاثين عاما من النظر والتأمل في أحوال الأمة ماضيا وحاضرا. وما زال الأمر عندي مستمرا على ذلك – وإلى الآن – بعد مرور عشرين عاما أخرى.
كثير من الناس اليوم يرون ويعلنون أن أسوأ ما تعاني منه دولنا ومجتمعاتنا هو الفساد، وأنه أول ما يجب إصلاحه. والحقيقة أن الفساد ليس سوى أحد منتجات الاستبداد وفروعه.
ويرى آخرون أن داءنا وسبب تخلفنا هو الجهل، وأن الدواء الشافي هو العلم الكافي، ولكن الاستبداد أيضا قد يصنع علما أو يشتريه، ثم يجعله في خدمته.. والعرب بالباب.. علوم وعلماء، ومفتون وخطباء، ومهندسون وأطباء، وهيئات وجامعات، وبحوث ومختبرات.. ولكن الاستبداد يجعل ذلك كله في طاعته وخدمته وتعزيز مكانته. فلا أمل في العلم الخاضع لمنطق الاستبداد.
قال الكواكبي: “والخلاصة أن المستبد يخاف من العلماء العاملين، الراشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين، أو الذين حَفر رؤوسَ محفوظات كثيرة كأنها مكتبات مقفلة”، ص45
فعادت المشكلة إلى أصلها وهو الاستبداد.
فالاستبداد يمنع الحرية، ويقطع الألسنة، فلا صوت يعلو فوق صوته، بل لا صوت أصلا سوى صوته. وحينئذ يفعل ما يشاء، ويقول ما يشاء، فلا تسمع إلا من يسبح بحمده، ويُـذكر الناس بفضله ومجده.
ومن الأبناء البيولوجيين الطبيعيين للاستبداد: الاستعباد. فالاستبداد لا يدوم ولا يستفحل إلا بعد أن يرسخ الاستعباد، وينتج طبقة واسعة من العبيد.
ومن أراد تحصيل “فقه الاستبداد والاستعباد”، فليدرس نموذج “فرعون” في القرآن الكريم، ولماذا وكيف جاء ذكره تسعا وخمسين مرة، في سور مختلفة منه.
ومن فقه الاستبداد في قصة فرعون، أنها تنبئنا بأن الاستبداد لا ينشا ولا يزدهر إلا في التربة المغذية له، والبيئة المتجاوبة معه، المنطاعة لأمره ونهيه، ولمجرد إشارته وميله.
قال الله جل جلاله مُعلِّما ومنبها: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 96، 97]،
وقال محذرا ومنذرا: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 54 – 56].
نعم لقد جعلهم الله (سَلَفًا وَمَثَلًا) لكل من يأتي بعدهم من الْآخِرِينَ.
وإذا كان أتباع “فرعون موسى” قد أغرقهم الله تعالى في البحر، فإن ذلك ليس هو الشكل الوحيد للإغراق، فأتْـباع الفراعنة وصناع الفرعونية: قد يغرقون في الاستعباد، وقد يغرقون في الفتن، وقد يغرقون في التخلف، وقد يغرقون في الخوف والقلق، وقد يغرقون في الذل والهوان..، {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الجاثية: 22].
ومن أشنع صور الغرق والمهانة، أن يُنعم الله على بعض الناس بالعلم وشرفه، ويؤهلَهم لفضله ورفعته، ولكنهم يختارون التدحرج والهبوط والسقوط.. يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويختارون التقهقر إلى الوراء، والاندساس في دواوين الأمراء وجحور الأرقاء.. ليصبحوا تابعين بعد أن كانوا متبوعين، وليصبحوا مَدَّاحين بعد أن كانوا ممدوحين، وليصبحوا في خدمة الباطل وأهله، بعد كانوا في خدمة الإسلام وأمته، نسأل الله السلامة والعافية.
ورحم الله العالِـم القائل:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم * * ولو عظموه في النفوس لعَظَّما
ولكن أهانوه فهان ودَنسوا * * مُـحياه بالأطماع حتـى تجهما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلةً * * إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)