بقلم الشيخ مشاري الشثري
وإذا قيل بأنَّ هذا من أوضار المقالة الزائفة: “ما ترك الأوَّلُ للآخِر شيئًا“، وأنَّ الناس قد جاوزوها إلى: “كم ترك الأول للآخِر” = كان هذا من القائل ذهولًا عن حقيقة تلك المقالة، وذلك أنَّك لا ترى أحدًا من العلماء يأتي بها إلا وهو على درايةٍ تامَّةٍ بأنَّ أهل القرون الأولى قد أوفوا على الغاية في كلِّ علمٍ، وإلَّا لأمكن أن يكون في المتأخرين من يستبدُّ بعلمٍ لم ينله مجموع المتقدمين، وهذا إن حصل فالعمل جارٍ على رفضه لا قبوله.
وإذًا:
فمعاني الوحي: قد اكتملت بموت النبي صلى الله عليه وسلم.
والعلومُ الخادمةُ للوحي: قد تكامل تأسيسُها في الطبقات المبكرة، فلم يبقَ لمن بعدهم منها شيء، لا لنقصٍ فيهم، بل لأنَّ اكتمالَها أمرٌ طَبَعيٌّ، حيث إنَّ الأولين قد وجدوا العلمَ مفرقًا مبثوثًا فجمعوه وأصَّلوه على غير مثال سبق، فلا يمكن لمن تأخَّرَ أن يعيد من حال التفرق السالف ليبتكر تأسيسًا جديدًا.
فلم يبقَ إلا إغناء ذلك التأسيس بكشف أبعاده، وتوسيع دوائر الإفادة منه، وإقامة قواعد فهمه واستثماره والتخريج عليه، وهذا مجالٌ للإبداع رحْبٌ، وطريقٌ للابتكار واسعٌ.
وطالب العلم إذا استحضر ذلك توفَّرَ همُّه على البَصَر بالإرث الذي خلَّفه أسلافه، مميِّزًا بين مراتبه، مدركًا لوظائفِه وغاياتِه.
إذا تقرَّر هذا، فإنَّ لتحصيل هذا العلم الموروث مقاصدَ، من أجلِّها مقصِدَين متى استحضرهما الطالب وجدَّ في التضلُّع منهما تفحَّلَ علمُه، وبلغَ الرشدَ في التعامل مع العلوم المدوَّنة، ليكون من بعدُ مؤهَّلًا لإغنائها وإثارة دفائنها، وهذان المقصِدَان هما: (الضبط والتحقيق).
ولكلٍّ من هذين المقصِدَين ذرائعُ يتوسَّلُ بها الطالب للوصول إلى مبتغاه منهما، وكثيرٌ من الكتَّاب في مناهج التحصيل قد أوسعوا القول في مقصد الضبط، ووضعوا له من الوسائل والمناهج ما يعين طالب العلم على تحصيله، إلَّا أنَّ الكلام في سُبُل تحقيق العلم وتحريره كان دون ذلك، وهذا من أسباب ضمور الوعي حول فضيلة تحقيق العلم، ما جعل كثيرًا من الطلبة يُعنونَ بضبط العلم أضعافَ عنايتهم بتحقيقه وتحريره، ولئن كان ضبطُ العلم أولَ مدارج التحقيق فيه، إلَّا أنَّ الغفلةَ عن هذا المقصد وعدمَ الجدِّ والسعيِ في تحصيله قعد بجمهور الطلبة المتمكنين عن بلوغه، ولستَ ترى في عيوب طلبة العلم عيبًا يحرق فؤاد المراقب للبيئات العلمية (كنقص القادرين على التمام).
وسأقتصر في هذه الورقة على وسيلةٍ واحدةٍ من وسائل تحقيق مقصِدَي الضبط والتحقيق، وهي وسيلة “التأصيل المرجعي” .. وفرقٌ بين “التأصيل المرجعي” و “التأصيل المنهجي“.
فإذا كان الحديث شاملًا لمقصِدَين، فعلى طالب العلم أن يتَّخذ له “أصلين مرجعيين”:
أحدهما أصلٌ مرجعيٌّ للضبط، وذلك بأن يكون لطالب العلم في كلِّ علمٍ أصلٌ يفيدُه الاحتواءَ على مجامع ذلك العلم ومبانيه، يضبط به مسائله ودلائله، ويقيِّد على حواشيه ما ظفر به من الفوائد من كتابٍ أو درسٍ أو سانحِ خاطرٍ وبارحِه، ومن جرَّب أن يتَّخذَ كتابًا يعتمده أصلًا علميًّا له في علمٍ ما – وكان هذا الكتاب لائقًا بأن يكون أصلًا – ذاق حلاوة الضبط .. غير أنَّ الاقتصار على أصلٍ للضبط في أيِّ علمٍ لا يمكِّن طالبَ العلم من النبوغ فيه، ولا يُزجِي له القدرة على الابتكار في تناول مسائله.
ومن هنا يتأكَّد على طالب العلم أن يكون له أصلٌ مرجعيٌّ للتحقيق، وهذا الأصلُ – كما هو بيِّنٌ من السياق – ليس بديلًا لأصل الضبط، بل هو قرينٌ له، ولا غناءَ لطالب العلم عنهما، فلكلٍّ منهما مقصدٌ لا يتمُّ بناء الطالب حتى يبلغ الغاية منهما.
ولتحقيق موازنةٍ حيثيَّةٍ مقارِبةٍ بين هذين الأصلينِ المرجعيَّينِ، موازنةٍ تستبين بها حقيقتهما = يُنظَر في خمسِ حيثيَّاتٍ:
1. من حيث الوظيفة:
أصلُ الضبط يُراد منه أن يكون وسيلةً لضبط مسائل العلم – فإن تضمَّن عُمَدَ دلائله كان هذا كمالًا -، ويُرادُ منه أن يكون مَجمَعًا لكلِّ ما يَعرِض لطالب العلم من فوائدَ وتنبيهاتٍ على مرِّ سنين طلبه.
أمَّا أصلُ التحقيق فيُراد منه أن يرتاض الطالب بمسالك تحقيق مسائل العلم، وتحرير دلائلها، من خلال نصوصه العالية، وتحريرات المحققين فيه.
2. من حيث المضمون:
أصلُ الضبط في كل فنٍّ لا بُدَّ أن يكون محتويًا على خلاصاتٍ مركَّزةٍ لنتاج علماء ذلك الفن، ومن هنا كان من شرط أصل الضبط أن يكون متأخِّرًا نسبيًّا، لأن كتب المتأخِّرين استحوذت على غالب أصول مسائل المتقدمين مع ترتيبها واختصارها، وهذا لا تكاد تجدُه في الكتب المتقدمة.
أمَّا أصلُ التحقيق فلا يُشترَطُ فيه أن يحتوي على خلاصاتٍ مركَّزةٍ تجمع نتائج العلم، إذ ليس الغرضُ منه ضبطَ المسائل وجمعَها، بل شرطُهُ أن تكون مادَّتُه عاليةً محقَّقةً تمرِّنُ قارئها على تحقيق المسائل وتحريرها، من خلال نصوصه العالية المتقدمة – إن كان الكتاب متقدمًا – أو من خلال موازناته المحرَّرة بين اتجاهات العلماء، ونحو ذلك.
فإن كان هذا الكتاب من الكتب المتقدِّمة كان أحرى باتخاذه أصلًا، ثم إن كان هذا الكتاب المتقدم من (الكتب المبتدأة الموضوعة في العلوم المستخرجة) بلغ الغاية في هذا الباب، (فإنَّا نجد أربابها قد سبقوا في فصولٍ منها إلى ضروبٍ من اللفظ والنظم أعْيى من بعدهم أن يطلبوا مثله، أو يجيئوا بشبيه له)[1].
3. من حيث الحجم:
أصلُ الضبط غالبًا ما يكونُ كتابًا مختصَرًا أو متوسِّطًا، ولا يليقُ به أن يكون مبسوطًا، لأنَّ الغرض منه أن يحيط به الطالب إحاطةً تامَّةً، فإذا كان مبسوطًا تعذَّرَ الوصول لهذا الغرض.
وهذا الشرط المتعلق بالحجم شرطٌ تقريبيٌّ، له طرفان ووسط، فطرفاه (الاختصار، والبسط) ووسطه (التوسط)، وكلُّ وسط ففيه إجمالٌ، وإجماله هنا يُبيَّن برعاية بقية الحيثيات، فإذا جعلنا “الكتاب المتوسط” صالحًا لأن يكون أصلًا للضبط وأصلًا للتحقيق، فلسنا نعني به شيئًا واحدًا، بل القصد أنه ليس بمختصر ولا مبسوط، وهذه المساحة فسيحة، أدناها في جانب الضبط، وأعلاها في جانب التحقيق، وما بينهما بينَ بينَ، والمحكم هنا أن لا يكونَ أصلُ الضبطِ مبسوطًا، وأن لا يكونَ أصلُ التحقيقِ مختصرًا، وبالأمثلة اللآتي ذكرها يتبين القصد.
4. من حيث التأثير:
أصلُ الضبط لا يُشترَط فيه التأثير، بل يشترط فيه أن يكون جامعًا للمسائل، كما لا يُشتَرَطُ فيه أن يكون محلَّ عناية العلماء، وإن كان هذا من كماله.
أمَّا أصلُ التحقيق فلا بُدَّ أن يكون مؤثِّرًا، وتأثيره بأن يكونَ مؤسِّسًا لعلمٍ، أو يكونَ أصلًا لاتجاه، أو يكونَ محلَّ درس العلماء وفحصهم، أو كان مدارَ كتبٍ وشروحٍ وُضِعَت عليه واعتراضاتٍ وُجِّهَت إليه، ونحو ذلك.
5. من حيث التعدد:
يمكن لطالب العلم أن يتَّخذَ له في كلِّ علمٍ أصلًا للضبط، أمَّا أصل التحقيق فالعمر يقصر دون اتخاذه في كل علمٍ، لأن أصل الضبط تتحقَّق وظيفته بتكرار قراءته وإدمان النظر والتأمُّل فيه، وهذا القدر وإن كان عسيرًا إلَّا أنه من الممكن تحقيقه لأنَّا جعلنا من خاصَّة هذا الأصل ألَّا يكون مبسوطًا.
أمَّا أصل التحقيق فعامل الزمن هو المؤثِّر الأصيل فيه، بمعنى أن ثمرته ووظيفته إنما تُنال بالعيش معه، والتدسُّس في أعطافه، فليس الغرضُ منه الوصولَ إلى المعلومة وتصوُّرَها وحفظَها، بل التغلغل في بواطنها والحفر إلى أصول جذورها، وهذا يحتاج إلى أزمنة متطاولة، ولذا كان اتِّخاذ أصلٍ للتحقيق في كل علمٍ متعذِّرًا، فالسبيل أن يَتَّخذَ طالب العلم أصلًا للتحقيق في علمٍ أو علمين، يكونان محلَّ تخصصه وتركيزه، ومع ذلك فهذا لا يعني انفكاكه عن جزءٍ من التحقيق في سائر العلوم، فلتكن له إلى كلِّ علمٍ زوراتٌ راتبةٌ إلى كتبه المفصَّلة، متأمِّلًا في بعض أبحاثها، ودارسًا لجملةٍ من مسائلها.
ففي الفقه:
من أصول الضبط:
ومن أصول التحقيق:
وفي أصول الفقه:
من أصول الضبط:
ومن أصول التحقيق:
وفي التفسير:
من أصول الضبط:
ومن أصول التحقيق:
وفي النحو:
من أصول الضبط:
ومن أصول التحقيق:
وكتاب سيبويه أعظمُ مثالٍ لأصول التحقيق المستجمعة للشروط، فقد استوفى الجمْعَ والتفصيلَ والتأثيرَ، مع كونه كتابًا متقدِّمًا، مؤسِّسًا.
وفي البلاغة:
من أصول الضبط:
ومن أصول التحقيق:
وفي متن اللغة:
من أصول الضبط:
أمَّا المثال الأول: ففي علم (أصول الفقه)، وقد ضربت من أمثلة ذلك “شرح المحلي على جمع الجوامع” أصلًا للضبط، و”البرهان” للجويني أصلًا للتحقيق.
فـ “جمع الجوامع” متنٌ أصوليٌّ مختصرٌ متأخِّرٌ، جمع فيه السبكي من زهاء مئةِ مصنَّفٍ أصولَ مسائل علم الأصول مجرَّدةً من أدلتها، مع العناية بالخلاف الأصولي في غالب المسائل، وعزو الأقوال لقائليها، و”شرحُ المحلي” عليه شرحٌ ممزوجٌ مختصرٌ، عُني بحل ضمائر الجمع وإبراز دفائنه، مع البرهنة لمسائله، وقد عُنِي العلماء بالمتن والشرح، فنَظَمَ المتنَ غيرُ واحد، وشرحه كثير من العلماء، كما اختصره بعضهم، وعلى “شرح المحلي” وُضِعت حواشٍ، كما اختصره بعضهم.
و”البرهان” للجويني يُعَدُّ من الكتب الأصولية المتقدمة، وهو من عُمد الأصول التي كانت محلَّ عنايةِ العلماء واستمدادهم، وهو كتاب فيه نشرٌ للمسائل وأدلتها، مع آلة اجتهادية عالية انبسطت آثارها من أول الكتاب إلى آخره، وكان هذا الكتاب يُنعَت بـ (لغز الأمة)، لوعورةٍ فيه، ولذا لم يتصدَّ له من الشراح إلَّا القليل، ولم يقتصر الجويني على جمع المسائل بأدلتها، بل عُنِي فيها بتحرير العلم نفسه، ومناقشة مقررات أقطابه، وشمل عطاؤه العلمي ما يتعلق بتحقيق المسائل، والأقوال، تصورًا وثبوتًا، برهنةً وتزييفًا، كما لم يقتصر فيه على مذهب الشافعي الذي ينتحله، بل ركب فيه مطيَّة الاجتهاد، وكانت منه المذاهبُ كلُّها على صفيحٍ واحدٍ.
هذا استعراضٌ موجَزٌ لطبيعة هذين الأصلين يتبين به سببُ اتِّخاذِ كلٍّ منهما أصلًا، فإذا استبان ذلك لم يبقَ إلا بيان كيفية تعامل الطالب معهما، فيُقال:
“شرح المحلي” لما كان أصلًا للضبط فإنَّ على الطالب أن يطلب منه ما يُضبَطُ لا ما يُحقَّقُ، فيُعنى بالمسائل والدلائل دون بحثٍ في جذورها ومناطق التأثر والتأثير فيها، فإذا راجعَ غيرَ “شرح المحلي” من شروح “الجمع”، فهو إنما يطلب منها ما يتعلق بسلامة تصور المسائل واستيفاء القيود ونحوها مما يُحكِم به الطالب ضبطَ المسائل، وكلَّما عَرَضت له في الكتب الأصولية ما يتعلَّق بهذا الجنس من المعارف ألحقها بنظائرها من “شرح المحلي”، لتكون من جملة ما يكرره ويضبطه.
أما “البرهان” فلكونه أصلًا للتحقيق فالطالب يتعامل معه بتأنٍّ بالغٍ وتريُّثٍ شديدٍ، فهو ينتقل من ظواهر الكتاب إلى بواطنه، يطلب من مجموع الكتاب نظريةً في العلم، ومنهجًا في رسم المسائل، وطريقة في تحرير الدلائل، ويبحث في كل مسألة عن أثرِها وتأثُّرِها، أثرِها في مسائل الأصول والكتب المصنفة فيه، وتأثُّرها بهما، ويقف مع موازنات الجويني وقوفًا طويلًا ليدرك أصول المدارك والمآخذ، وينظر في طبيعة تعامل الجويني مع الخلاف الأصولي والنصوص الأصولية، كما ينظر في محالِّ النقد التي تلقَّاها كتابه من خلال شرَّاحه أو ما تفرق في كتب الأصول، وأيضًا ينظر في النقد الذي وجَّهه الجويني إلى غيره من الأئمة والأصوليين فيعقد الطالبُ لذلك مجالسَ موازنةٍ مفصَّلةٍ تتناول تصور الاعتراض وصحة توجيهه، ويتَّتبَعُ أدوات الجويني في تحقيق المسائل الأصولية ونقدها وطريقته في تفعيلها .. فمنهج “البرهان”، ومسائله، ودلائله، ونقداته، وأدواته، ومشكلاته = كلُّها تقع في محلِّ البحث والنظر عند الطالب المحقق.
أمَّا المثال الثاني: ففي (علم النحو)، وقد ضربت من أمثلة ذلك “شرح الأشموني على ألفية ابن مالك” أصلًا للضبط، و”كتاب سيبويه” أصلًا للتحقيق.
فـ “ألفية ابن مالك” متنٌ نحويٌّ متأخِّرٌ، تضمُّ خلاصاتٍ مركزةً للمسائل النحوية في جُلِّ الأبواب، مع جملة صالحة من تصريف الأسماء، مع إشاراتٍ إلى الخلاف والأدلة، والعناية بصياغةِ قواعدَ وشروطٍ وتقسيماتٍ في عباراتٍ وجيزةٍ ظاهرةٍ أو أمثلةٍ وإشاراتٍ خفيَّة، و “شَرْحُ الأشموني” شرحٌ متوسِّطٌ ممزوجٌ، حلَّ فيه مرموزات الألفية وضمائرَها، واستشهد لأحكامها، مع تنبيهاتٍ ولطائفَ أودعها كتابَه وحلَّى بها شرحَه.
أما “كتاب سيبويه” فهو الكتابُ المؤسِّسُ لعلم النحو، ضمَّنه القول في النحو والتصريف، مع استعراضٍ واسعٍ لشواهد العربية وما عليه لغة العرب من شعرٍ ونثرٍ، سماعٍ وقياسٍ، باستقراء واسعٍ استوفى فيه جهود النحويين قبله.
وقد كان لـ “كتاب سيبويه” أثرٌ واسعٌ على النحويين باختلاف مذاهبهم ومشاربهم حتى صار عمدة الدراسة النحوية في مختلف القرون، واعتنى العلماء بشرحه، وكشف مشكلاته، كما وضع طائفةٌ منهم كتبًا في شرح شواهده، وكتبًا في الاعتراض عليه، ووضع آخرون في الذبِّ عنه.
وقد ذكر أبو جعفر النحاس أن عليَّ بن سليمان قال: بأن سيبويه قد جعل في كتابه مشتبهًا، ليكون لمن استنبطَ ونظرَ فضلٌ، ثم علَّق على ذلك بقوله: (هذا الذي قاله عليُّ بنُ سليمانَ حسنٌ، لأن بهذا يشرف قدرُ العالم وتفضُل منزلته، إذ كان العلم يُنال بالفكرة واستنباط المعرفة، ولو كان كلُّه بيِّنًا لاستوى في علمه جميع من سمعه، فيبطلُ التفاضل، ولكن يُستخرَجُ منه الشيءُ بالتدبُّر، ولذلك لا يُمَلُّ، لأنه يزداد في تدبره علمًا وفهمًا)[2].
ولما حُدِّث المبرد بقول أبي عمر الجرمي: (أنا مذ ثلاثون سنةً أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه) وكان محدِّثُه متعجِّبًا مستنكرا، قال له المبرد: (أنا سمعت الجرميَّ يقول هذا، وذاك أنا أبا عمر كان صاحبَ حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الدين والحديث، إذ كان ذلك – يعني كتاب سيبويه – يُتعلَّم منه النظر والتفتيش)[3]، قال الشاطبي معلِّقًا: (المراد بذلك أن سيبويه وإن تكلَّم في النحو، فقد نبَّه في كلامه على مقاصد العرب وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك، بل هو يبين في كل باب ما يليق به، حتى إنه احتوى على علم المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني)[4].
ولمثل هذا كان “كتاب سيبويه” من أجلِّ أصول التحقيق.
هذا استعراضٌ موجَزٌ لطبيعة هذين الأصلين يتبين به سببُ اتِّخاذِ كلٍّ منهما أصلًا، فإذا استبان ذلك لم يبقَ إلا بيان كيفية تعامل الطالب معهما، فيُقال:
“ألفية ابن مالك” و “شرح الأشموني” عليها لما اتُّخِذتْ أصلًا للضبط فإنَّ على الطالب أن يجعل منها بابًا لضبط مسائل النحو، ومصطلحاته، وحدوده، وتقسيماته، ويشفع إليها من مختلف الشروح ما يتعلق بهذه الأوعية الضابطة، دون إغراقٍ منه في متعلَّقاتها اللفظيَّة والفنيَّة، وسائرِ الهوامش التي يتعلَّق بها بعض الطلبة.
أمَّا “كتاب سيبويه” فيجعلُ منه طالبُ العربيَّة منطلقَ تحريره في علومها، فلا يدع في “كتاب سيبويه” من أصلٍ ولا فرعٍ، ولا شاهدٍ من شعرٍ أو نثرٍ، إلا درسه وتتبَّع أثره، ويستقرئ بـ “كتاب سيبويه” مشكلاتِ العربيَّة ويتطلَّب فحصها منه ومن غيره، فيرصد وجوهَ الأسئلة ومواضعَ المشكلات[5]، ويتخذ من نصوص سيبويه مادَّة درسٍ واستنباط، يديم فيها النظر ويقلِّب فيها الفِكَر، ويسعى جاهدًا في استكشاف منهج سيبويه في دراسة العربيَّة عرضًا واستنباطًا واحتجاجًا، ويستعين على ذلك بما وُضِع عليه من دراساتٍ معاصرةٍ تناولت مناهجه وآثاره.
هذان نموذجان أردتُّ بعرضهما تجلية فكرة الأصلَين، وبه يُعلَمُ أنْ ليسَ يكفي طالبَ العلم أن يطالع الكتب المهيَّأة للتحقيق مطالعة عابرة، وإذا نظرنا في واقع المحيط العلمي رأينا الكتب المهيَّأة للتحقيق إنَّما تُراجَع لأغراض بحثيَّة، أو لمراجعة مسألة، أو لجرد عابر يُرادُ منه اقتباس بعض الفوائد المتفرقة، وهذا ما تطمح هذه الورقة لدفعه، فلا بُدَّ أن يُجوِّد طالب العلم من تعامله مع هذا الجنس من المصنفات، فيكرِّر مطالعة ما اتَّخذه أصلًا منه ويديم النظر فيه، ثمَّ إنَّ تكرارَه لها ليس تكرارًا مجرَّدًا، بل هو “تَكرارٌ موجَّهٌ” على نحو ما تقدَّم بيانه في المثالين المفصَّلين.
وبذلك يدرك الطالب أن طريقته في التحصيل تختلف باختلاف مقاصده، وذلك يستحثُّه على ضبط مقاصد تحصيله، والجدِّ في اتخاذ الوسائل التي تعينه على تحقيقها .. كما أنَّه بذلك يعلم أنَّ الكتب تختلف مسالك الإفادة منها بحسب مضامينها والمقاصد المبتغاة منها، فليست الكتبُ مجرَّدَ خزانةٍ تُستخلَص منها النتائج فحسب، بل هي معامل تدريب وتمرين للطالب على إذكاء ملكاته والرقي بها متى ما استحضر الطالب ذلك.
كان الشافعيُّ يدمن النظر في موطَّأ الإمام مالك ويقول: (ما نظرتُ في موطأ مالكٍ إلا ازددتُ فهمًا)[6].
وكان المزنيُّ شديدَ التعلُّق برسالة الشافعي حتى قال: (أنا أنظر في كتاب الرسالة منذ خمسين سنة، ما أعلم أني نظرت فيه مرةً إلا وأنا أستفيد شيئًا لم أكن عرفته)[7].
كما كان المازنيَّ شديد التعلُّق بكتاب سيبويه حتى قال: (ما أخلو في كلِّ زمنٍ من أعجوبة في كتاب سيبويه)[8]، وكان عبدالله بن محمد بن عيسى الأندلسي (يختم كتاب سيبويه في كلّ خمسة عشرة يومًا)[9].
وكان ابن تيميَّة حفيًّا بتعليقة القاضي أبي يعلى، حتى كان يطلب من طلابه إحضارها إليه في السجن، فكتب إليهم مرَّةً في جملة ما طلبه منهم: (… وترسلون أيضًا من تعليق القاضي أبي يعلى الذي بخط القاضي أبي الحسين، إن
وقرأ محمود شاكر على أحد شيوخه لسان العرب قراءتَينِ تامَّتينِ، وبعضَ ثالثةٍ، وقال: (قرأت وأنا في السنة الأولى الثانوية لسان العرب حرفًا حرفًا من أوَّله إلى آخره)[11].
إلى نماذجَ كثيرةٍ استوطنت كتب السير والتراجم ..
وكثيرٌ من الطلبة يطمح ببصر تحصيله إلى ما بلغه أئمة المحققين، ويرجو أن يبلغ في لاحق دهره مراتبَهم، لكنَّه لو تصفَّحَ واقعَه لقطع بأنَّ نوع تكوينه العلمي لا يوصله إلى ما يرجو، بل غايةُ ما يمكنه الوصول إليه هو ضبطُ نتائج العلوم دون القدرة على تحقيقها وتحريرها، فكان من اللازم إذًا هذا التمييز بين مقاصد التحصيل، ليكون الطالب على درايةٍ بحقيقة تحصيله، ثم يتَّخذَ من الوسائل ما يوصله إليها.
__________________
[1] الرسالة الشافية في وجوه الإعجاز للجرجاني – وهي ملحقة بـ “دلائل الإعجاز” – (604).
[2] خزانة الأدب للبغدادي (1: 372).
[3] مجالس العلماء للزجاجي (191).
[4] الموافقات (5: 54).
[5] من النصوص الثمينة في هذا السياق ما قاله ابنُ ولَّادٍ النحويُّ في ردِّه على المبرِّد فيما زعمه من غلط سيبويه في مسائل، حيث قال: (… ومع ردِّنا عليه فنحن معترفون بالانتفاع به، لأنَّه نبَّه على وجوه السؤال ومواضع الشكوك) الانتصار لسيبويه على المبرد (43)
[6] حلية الأولياء (9: 70).
[7] طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2: 99).
[8] خزانة الأدب للبغدادي (1: 371).
[9] بغية الوعاة (2: 59).
[10] العقود الدرية لابن عبدالهادي (349).
[11] ظل النديم لوجدان العلي (100). وانظر: مقالات الطناحي (2: 520)، وفيه: (أخبرني رحمه الله أنه قرأ لسان العرب كله، والأغاني كله، وهو طالبٌ بالثانوي).