طالبان من الداخل (1)
توجد ندرة في الكتابات المتاحة باللغة العربية التي تتناول تجربة حركة طالبان بالتفصيل الدقيق، ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الذي دونه الملا عبدالحي مطمئن الناطق الرسمي السابق باسم الملا محمد عمر مؤسس طالبان، ومدير إدارة الإعلام والثقافة بقندهار سابقا. والذي تناول الحركة بداية من تأسيسها وصعودها إلى السلطة، وفترة حكمها الأولى التي دامت خمس سنوات من عام 1996 إلى 2001، ثم انتزاع الحكم منها على يد التحالف الدولي، ومرحلة إعادة تجميع الحركة مجددا وصولا إلى تحولها إلى الرقم الأبرز في المشهد الأفغاني مجددا.
نشر الملا عبدالحي مطمئن كتابه بلغة البشتو في عام 2019، وتُرجم إلى الانجليزية ليُنشر في ألمانيا في ذات العام بعنوان (طالبان: تاريخ نقدي من الداخل). وذلك في ظل توجس المكتبات البريطانية من نشر الكتاب خشية من تصنيف ذلك كانتهاك لقوانين مكافحة الإرهاب. وقد أعلنت حركة طالبان في 23 يناير 2021 وفاة الملا عبدالحي بعد صراع مع المرض. ونعزم بعون الله على نشر مقاطع مترجمة من الكتاب بشكل دوري.
المقدمة
كنت في الثالثة أو الرابعة من عمري عندما قاد الشيوعيون أكثر انقلاب دموية في أفغانستان. أفراد جهاز الاستخبارات (خاد) كانوا يعتقلون المؤمنين بالله. ذات يوم، طرق عدد من الرجال القبيحين على بابنا. غادر والدي معهم ولم يعد بعد ذلك. ونحن لم نره مرة أخرى.
بعد عام، بدأت أفهم أن هذا الشخص اللطيف لم يعد معي. لقد كشف كل من الفقر، وملابسي القديمة – أني كنت يتيمًا. بدا في نظري كل رجل بشارب مثل قاتل والدي. أخذنا عمي معه إلى قرية أخرى، ولم يعد لدينا منزل خاص بنا.
عندما أصبح الشيوعيون الأفغان غير قادرين على السيطرة على الوضع، قاموا بإحضار الشيوعيين السوفييت مع طائراتهم القاتلة. أوجد الجيش الأحمر وضعا مثل يوم القيامة في البلد بأكمله. لم نكن الأطفال الأيتام الوحيدين الذين اتسمت أيام لعبهم بالنيران والحرائق والقتل والقصف الجوي. بدت لنا التكنولوجيا التي صنعها الإنسان أكثر وحشية من البشر.
بذريعة معاقبة الأوغاد، اعتادت القوات الروسية على دخول القرى وإظهار وحشيتها للأفغان. استهدف الروس كل كائن حي بما في ذلك الأطفال والحيوانات. خلال طفولتنا، رأينا دائمًا جثثًا ملطخة بالدماء ومنازل تُقصف، وكان اسم الجيش الأحمر أقرب إلى صوت الرعد.
ذات يوم، استيقظت وغسلت وجهي وتناولت إفطاري من الشاي الأخضر والخبز الجاف. سمعت أصوات الدبابات وصرخات الخوف. كنت خائفا. أطلق القرويون حيواناتهم حتى يتمكنوا من الهرب. كانت النساء والرجال العجوز والأطفال يركضون على الطريق، وفي بعض الأحيان ينظرون خلفهم. ذهبت أنا وأخي الأكبر إلى الحقول، وركضنا بجانب قناة ضيقة عميقة. شعرنا بخطر نيران المروحية واختبأنا في قناة جافة مليئة بالحجارة والفروع. كنا خائفين وأمضينا طوال اليوم مختبئين في القناة دون أن نتحرك أو حديث مع بعضنا البعض.
عندما غادرت القوات في فترة ما بعد الظهر، بدأ الآباء والأمهات في البحث عن أطفالهم وحيواناتهم في الحقول. عندما كنا أطفالًا، فهمنا أنه على الرغم من أننا كنا صغارًا ، إلا أننا لا نستطيع إنقاذ أنفسنا من الرجال المسلحين.
عندما أرى صورًا لمنازل سورية تعرضت للقصف وأطفالًا مدفونين تحت أنقاض المنازل المدمرة، فإن ذلك يذكرني بطفولتي. هل ما زال بشر القرن الحادي والعشرين بهذه الوحشية؟
لقد نشأنا وسط تعقيدات تلك الحرب، وأكملنا تعليمًا إسلاميًا. بينما عرّفنا الدين على الإنسانية، لم نتمكن من العثور على ذلك في مجتمعنا. أولئك الذين بدأوا الجهاد للدفاع عن الوطن، لم نر قط تلك الإنسانية فيهم أيضًا. لم يكن هناك ما يغير تصوراتنا بأن البشر كانوا في الواقع قاسين وقاتلين.
في سن مبكرة جدا ذهبنا إلى باكستان لتلقي تعليم ديني. هناك رأينا صراعات داخلية بين مجموعات المجاهدين الأفغان. لقد رأينا الحياة الباذخة لبعض قادة الجهاد. كان من المخزي للغاية أن يجني مكاسب الحرب مجموعة من الملتحين في شوارع بيشاور ممن تورطوا في قتل الكتّاب والأساتذة اللاجئين الأفغان مثلهم مثل الرجال أصحاب الشوارب أعضاء جهاز الاستخبارات (خاد).
بعد سقوط النظام الشيوعي رأينا وحشية “المنتصر في الحرب”. مليشيات في المدن والقرى وعلى الطرق السريعة. لاحقًا، القتلة أصحاب اللحى الذين قتلوا مواطنين أفغان نيابة عن داعميهم الغربيين شوهدوا وهم يتجولون في مدن المملكة المتحدة وألمانيا وهم يرتدون سراويل وبدون لحى !!!
هؤلاء الذين قتلوا غيرهم بسبب فتوى دينية أداروا ظهورهم لنفس الدين عندما تعارض مع مصالحهم ورغباته الشخصية.
سمعت شيئا من الكاتب والشاعر عبد الباري جهاني عن ذلك. وروى أنه شاهد قصيدة على طاولة مظربة أرسلها الملا أسعد الله حنفي عضو إحدى الجماعات الجهادية حيث طلب منها أن تغني أشعاره. تلك المطربة سبق أن غنت أغاني للطيارين الشيوعيين من حزب خلق الذين قصفوا منازلنا. لكنها رفضت أن تغني شعره بحجة أن كلمات الملا خشنة وثقيلة على الغناء.
بعد انضمامنا إلى المدرسة، لم نعتقد أبدًا أننا سنحتاج يومًا ما إلى أسلحة لمواجهة الوحشية. وبالمثل، كان هناك وقت فكرت فيه في الحاجة إلى الانضمام إلى حركة طالبان، لكنني لم أفكر مطلقًا في أنني سأستمر في ذلك حتى النهاية. ظننت أنني سأستأنف تعليمي الإسلامي بعد عامين. جئت إلى مبنى وزارة الثقافة والإعلام في موقف لم أكن فيه على استعداد لترك الحركة أو حمل السلاح. لكن قدري أصبح أكثر تعقيدًا بالانضمام إلى هذه الوزارة ذات الطبيعة الناعمة، ومجتمع الشعر والقصائد. ذهب قائد الوزارة إلى كابول واعتبرني أصدقائي مؤهلاً للتقديم كرئيس بدلا منه (في قندهار). في اليوم الأول، شعرت كأني ملائكة تهمس في أذني. أصبحت متشككًا بشأن مستقبلي، لكنني عزيت نفسي أنه بعد عام أو عامين سأعود بالتأكيد إلى المدرسة الدينية.
في 11 أبريل 1998، وقع حادث غمرني تمامًا في الماضي. كنت أفكر في والدي طوال اليوم. في منطقة ميان كوه شمال مدينة قندهار، تم التعرف على مقبرة جماعية بالقرب من قاعدة أحد الجبال بعد اعتراف شيوعي سابق في جهاز الاستخبارات الشيوعي (خاد). كنت أزور نفس المنطقة مع عدد قليل من الضيوف. رأينا قلة من الناس يحفرون في حفرة كبيرة ويكتشفون عظاما بشرية. كانت هذه المقبرة الجماعية لعلماء مسلمين ورجال دين من قندهار والمحافظات المجاورة قتلوا على يد جهاز الاستخبارات (خاد) بعد الانقلاب الشيوعي.
حاولت البحث عن المسؤول الشيوعي القاتل المسؤول عن هذه المقبرة الجماعية وإطلاق سراحه، وذلك بالعمل مع نجل سليمان زيراك الرئيس السابق لخاد. كنت أرغب في مسامحة هؤلاء القتلة ذوي اللحى والشوارب البيضاء من باب التسامح الإسلامي والإنسانية والعاطفة تجاه شيخوختهم. بدا لي أنه من الأفضل أن يعيشوا مع أطفالهم وأحفادهم. كنت أسامح قاتل والدي بنفس الروح. لم أفكر أبدًا أنهم في يوم من الأيام سوف يصبغون لحاهم البيضاء وشواربهم مرة أخرى، ويتعاونوا مع الغزاة لقتل سجناءنا المضطهدين.
عندما عدت إلى المكتب في المساء، أعددت تقريرا عن الحادثة بناءً على أفكاري. وبدلاً من المذيع المعتاد، قمت بتقديم الأخبار المسائية في الراديو. وعندما غادرت الاستوديو، شعرت أنني طفل يتيم وبكيت على قبر والدي.
تلقيت اتصالاً من والي قندهار الراحل محمد حسن رحماني. قال إن بي بي سي أرادت التحدث معي عن المقبرة الجماعية التي عُثر عليها في ميان كوه. سأعطيهم رقمك، أخبرهم بما قلته في الراديو.
لم أتحدث أبدًا مع أي وسيلة إعلام حتى ذلك الحين. فقط بسبب تشديد الحاكم علي تحدثت معهم. لمدة يومين، كبير سكرتارية وكيل أحمد متوكل لم يرد على مكالمة بي بي سي الهاتفية، وكانوا يسألونني عنه. أخبرت متوكل أن مذيع أخبار البي بي سي يسأل عنك. كان متوكل يجلس مع الملا محمد عمر مجاهد وبسبب سماعة الهاتف سمع الملا عمر صوتي. سمعت صوتا آخر. بعد مرور بعض الوقت، أخبرني متوكل أن الملا صاحب يقول عليك التحدث إلى بي بي سي. كان هذا جديدًا بالنسبة لي، ولذلك رفضت. قال متوكل: لست من يقول هذا، هذا بتعليمات الملا عمر.
لم أكن على علم بتفاصيل الموضوع، ولم تكن لدي خبرة في الحديث عن الأحداث السياسية. ولكن بحثت عن تفاصيل الحادث، وكان هذا بمثابة بداية لي كمتحدث رسمي. واصلت العمل كمتحدث رسمي طيلة السنوات الأربع التالية من الأزمات، ومثّلت الملا عمر في وسائل الإعلام في القضايا الوطنية والدولية.
مرت السنوات بسرعة كبيرة، وانخرطت في أخبار أخرى، وفي صراعات. كنا نظن أن السوفييت متوحشون بينما العالم الغربي يحب البشر. بدا غريبًا جدًا بالنسبة لنا أن عشاق الإنسانية هؤلاء يقصفون منازلنا ويقتلون نساءنا وأطفالنا ويخيفون أطفالنا في الليل.
عندما قصفت الطائرات الحربية الأمريكية قندهار لأول مرة، تم العثور على طرف مقطوع لفتاة قندهارية شابة في منزل مدمر في ميدان مداد خان في قندهار. لم تكن هناك علامات على جسدها. بدت هذه الساق وكأنها اللوحة الأولى من الغزاة الأمريكيين للأفغان المحبطين.
من ناحية أخرى، أشاد الإعلام الغربي والمتحدثون الأفغان والمستمعون بأسلحة الغزاة الأمريكيين وقواتهم. قلة من قدامى “المنتصرين في الحرب ضد الروس” من المجاهدين كانوا ينتظرون استخدام قنابل أكبر.
كان الوقت الذي قضيته كمتحدث رسمي معقدًا للغاية ومليئًا بأزمات واجهت أفغانستان وطالبان على المستوى الإقليمي والدولي.
تحتوي هذه الصفحات في الغالب على هذه الأسرار والمعلومات والحوادث. لقد قدمتها في شكل قصص كما قدمت معلومات أخرى في شكل إشارات. هذا الكتاب ليس شكلاً من أشكال إصدار الأحكام. ولا يقوم على فعل شخص معين، أو كحملة لصالح أي شخص. إنما هو قصة حقيقية مبنية على حوادث شاهدتها أو سمعتها. هذا الكتاب لن يُسعد من هم متيمون بطالبان ولا أولئك الذين يكرهونها. آمل أن يكون مصدرًا جيدًا للمعلومات للأشخاص الذين يندرجون بين هاتين الفئتين، وأن يقدم قراءة مفيدة.
من الممكن أن تكون المعلومات التي تلقيتها من الآخرين غير واضحة، و لا ينبغي اعتبار هذا موطن ضعف شخصي. لكن في الأجزاء التي أناقش فيها المعلومات التي تلقيتها، قد يكون هناك ميل غير مقصود، وهو ضعف بشري. هناك بعض الحقائق التي يجب علي إخفاءها بسبب القيود الجدية. آمل أن يغفر القراء صمتي على هذه القضايا. نحن نعيش في الشرق، وللأسف هناك مستوى متدنٍ من التسامح، ويعاني المرء من الصعوبات. حتى أولئك الذين يدعون حرية التعبير هم ضد كلامنا.
المصدر: موقع البوصلة