طالبان.. قصة الصعود الأول
بقلم أحمد الظرافي
لم يكن إنشاء تلك الجماعة بالأمر السهل، لأن الكثيرين من مشايخ العلم وطلابه ممن يعول عليهم التحرك في مثل هذه الظروف، قد فقدوا الأمل في إمكانية إصلاح الأمور، وتعللوا بعدم وجود الإمكانيات، فضلا عن انشغالهم بالدراسة والتحصيل العلمي
بعد انسحاب الجيش السوفيتي من أفغانستان عام 1989 فوجئ العالم عام 1992، باندلاع الحرب الأهلية بين فصائل المجاهدين، نتيجة التكالب على السلطة، وتحولت أرض أفغانستان إلى ساحة للحرب بين تلك الفصائل، وانتشرت عصابات الجريمة المنظمة في أرجاء البلاد، واستفحلت شريعة الغاب، نتيجة الفراغ السياسي، والتدهور الأمني، والانهيار الاقتصادي، بحيث آلت الأمور إلى أسوأ مما كانت عليه أيام الاحتلال السوفيتي.
ولم يكن هناك ما يبعث على الاعتقاد بأن أمراء الحرب سيوقفون هذه الحرب المدمرة، فبعضهم استعان بالأمريكان وباكستان، وبعضهم استعان بالهند، وبعضهم أستعان بإيران، وبعضهم أستعان بروسيا، محتل الأمس، وأصبح الصراع على أفغانستان بأيدى دول عالمية وإقليمية، بينما أمراء الحرب أولئك، ينفذون مخططات تلك الدول الأجنبية التي لا تريد للإسلام والمسلمين خيرا. أما الشعب الأفغاني الحزين والمنكوب، فلم يعد مهتما بمن سيحكمه، وصار كل الذي يهمه هو الأمن والسلم، والبحث عن لقمة العيش.
وكانت تلك التطورات السلبية الخطيرة، مثار إزعاج كبير لعدد من طلبة العلم الأفغان، فجعلوا يفكرون في تأسيس جماعة إسلامية بالتعاون مع المخلصين والغيورين، تحرر البلد من أمراء الحرب، الذين جعلوا من الحروب وسفك الدماء مهنة لهم، وتخلصها من اللصوص وقطاع الطرق، الذين انتشروا في كل مكان، وتعيد الأمن النظام إليها.
ولم يكن إنشاء تلك الجماعة بالأمر السهل، لأن الكثيرين من مشايخ العلم وطلابه ممن يعول عليهم التحرك في مثل هذه الظروف، قد فقدوا الأمل في إمكانية إصلاح الأمور، وتعللوا بعدم وجود الإمكانيات، فضلا عن انشغالهم بالدراسة والتحصيل العلمي، وعدم رغبتهم في ترك مدارسهم. لكن أحد أولئك الطلاب وهو الملا محمد عمر، رأى في ذلك هروبا من القيام بالواجب، وعدم الشعور بالمسئولية، ولذا فقد صاح في زملائه: “.. لا يمكن أن يستمر الوضع هكذا ونسكت ونكمل دراستنا، ولا أعدكم بأن نوفر لكم الطعام سنطلب الطعام والمساندة من الشعب”. ولكن أحدا لم يتحمس للفكرة. ومع ذلك، فإن الملا محمد عمر لم ييئسن، وبدأ في محاولة التجميع مرة أخرى، فوافق 53 شخصا على الاشتراك، “وأخبرتهم – والكلام للملا عمر – بموعد في الصباح، لكنهم جاءوا الواحدة ليلا، ولما صلينا الفجر أخبرنا أحد المأمومين أنه رأى أن الملائكة تدخل سنج سار- المنطقة التي هم فيها- بأياد ناعمة.. فاستبشرنا، وكان ما كان من استعارة الأسلحة من الأهالي وكذلك السيارات”..
وقال: ” طويت الكتب في المدرسة، واستعرنا دراجة نارية، ثم انطلقنا نعرض الأمر على الطلاب في حلقات الدرس.. هذه بداية الحركة، وهذا كل شيء، وأخرجوا من أذهانكم كل ما عدا ذلك”….
وقال الملا عمر يصف تلك المرحلة الحرجة والقاتمة من تاريخ أفغانستان:” كنت أدرس في مدرسة مع حوالي 20 من زملائي الطلاب، فسيطر الفساد على وجه الأرض، واستشرى القتل والنهب والسلب، وكان الأمر بيد الفسقة والفجرة، ولم يكن أحد يتصور أنه من الممكن تغيير هذا الوضع وإصلاح الحال، ولو فكرت أنا أيضاً وقلت في نفسي (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) لكفتني هذه الآية ولتركت الأمر لأنه لم يكن في وسعي شيء، لكنني توكلت على الله التوكل المحض، ومن يتوكل على الله هذا النوع من التوكل لا يخيب أمله أبداً…”.
وفعلا تشكلت الجماعة، التي اشتهرت فيما بعد باسم “طالبان” الذي يعني وفقا للغة الأفغانية، طلاب العلم الشرعي، تشكلت بإمكاناتها الذاتية البسيطة جدا، بحيث أن الملا عمر زعيم الحركة، كان في بداية الأمر، يستخدم دراجة نارية للتواصل مع العلماء والشباب. كما أنه في بداية أمر الحركة لم يكن يحمل السلاح سوى حوالي عشرين من أتباعها، ولذا فقد دشنوا جهادهم بمهاجمة أوكار بعض القادة الميدانيين السابقين الذين كانوا قد غرقوا في الفساد إلى يوافيخ رؤوسهم، واستولوا على كمية كبيرة من السلاح والعتاد.
ويرى أحد الكتاب أن الحادثة التي فجرت الغضب “الطالبي”، وعجلت بظهور طالبان، تمثلت في قيام عناصر مسلحة تابعة لأحد أمراء الحرب، بخطف فتاتين من إحدى قرى قندهار في ربيع 1994 واغتصابهما، والاحتفاظ بهما لعدة أيام على علم سكان القرية، الذين لم يكونوا قادرين على تحريرهما وبهذه العملية الاستفزازية المشينة تكون جرأة أمراء الحرب على المحارم والأعراض قد بلغت ذروتها. لقد كانت جريمة فريدة من نوعها، في مجتمع أفغانستان القبلي المحافظ، ولم يكن يمكن السكوت عليها، وكان لا بد من تجاوز فترات العجز والتخاذل والوهن، والتحرك للانتصار للفتاتين، بل الانتصار للعرض والدين. وهنا قاد الملا محمد عمر ثلاثين من الطلبة، وهاجم بهم موقع تلك العناصر، وتم تحرير الفتاتين وشنق قائد المجموعة والذين كانوا معه. وهكذا جاءت هذه الحادثة لتؤذن بميلاد حركة طالبان ولتخرج إلى ساحة العمل الجهادي في أفغانستان، ولتصبح حقيقة على أرض الواقع.
وهكذا تكللت جهود أولئك الطلاب المخلصين وبعون الله لهما، بتأسيس حركة طالبان التي اختير الملا محمد عمر زعيما لها في أغسطس 1994. وقد تكونت من العلماء وطلاب العلم في المدارس الشرعية، المنتشرة في مختلف مناطق أفغانستان وباكستان، وتمول عن طريق جمع التبرعات، وكانت تلك المدارس هي المحاضن التي تربوا فيها وتشكلت شخصياتهم وثقافاتهم وبناؤهم الفكري. وهي المدارس التي باتت، فيما بعد، أي منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، هدفا رئيسيا في الحملة الأمريكية على ما أطلقت عليه (الإرهاب)، والشغل الشاغل للإعلام الدولي، واعتبرت عدوا ينبغي محوه من الخارطة. وتولت الحركة حفظ الأمن في قندهار وفي غيرها من المناطق.
“وبعد أن رأى الشعب الأفغاني المظلوم أداءهم وحماستهم ضد المرتشين والظلمة وأخذهم على أيد السراق وسيطرتهم على أسعار الحاجات الأساسية للناس وفرضهم للعدالة وإقامة الحدود، دعاهم الناس في المناطق الأخرى لتخليصهم من ظلم الأحزاب، وتسلط القادة الميدانيين، إنهم أصبحوا ككرة الثلج كلما تدحرجت كبرت، لقد أثبتوا جدارة فائقة في بسط الأمن وإقامة الشريعة ومنع الفساد، وتجربتهم في هذا المضمار تبهر الصديق والعدو”.
ونتيجة للغموض الذي أحاط بالصعود المفاجئ والسريع للحركة، فقد قيل أن الجيش الباكستاني دعمهم، وقيل أن مولوي فضل الرحمن رئيس جمعية العلماء في باكستان، والذي شغل منصب رئيس لجنة الشئون الخارجية في البرلمان الباكستاني خلال فترة حكم بينازير بوتو، هو الراعي لحركة طالبان وأنه هو الذي أقنع الحكومة الباكستانية بدعمها وتأييدها، بل وقيل أن المخابرات الأمريكية تقف وراءهم. لكن الملا محمد عمر نفي تماما أن تكون جهة ما قد ساعدت حركته على السيطرة السريعة على أفغانستان، وينسب الأمر كله لله قائلا: “.. وهذا الكلام لا يفهمه إلا أصحاب العقيدة.. أما غيرهم فلا يصدقونه، بل يقولون بأننا كنّا منظمة سياسية، وكان وراءنا من يوجّهنا، وإلا فكيف يمكن لنا أن ننجز مثل هذه الأعمال في فترة زمنية قصيرة، وذلك بإمكانات قليلة، وأن نخلص دولة كاملة من الشر والفتنة، وأن ننجح في هذه المحنة العظيمة، وذلك ليس ببعيد ولا عسير على قدرة الله تعالى. فإن الله يعين وينصر من ينذر نفسه لخدمة دين الله تعالى، وكل ما فعلناه ونفعله هو من واجبنا الديني..”.
وفي مارس 1996، أعلن عن بيعة الملا محمد عمر أميرا للمؤمنين، في اجتماع عام شارك فيه أكثر من ألف وخمسمائة عالم أفغاني. وقد أدى ذلك إلى زيادة التفاف الناس حولها، فترك بعضهم أحزابهم وانضموا إليها، وتوجت الحركة انتصاراتها بفتح كابول العاصمة، في سبتمبر 1996، وفرضت الأمن والنظام فيها بعد أن عانت الأمرين من الحرب الأهلية بين قوات الحزب الإسلامي بزعامة حكمتيار، وقوات الجمعية الإسلامية بقيادة أحمد شاه مسعود.
وهكذا تشكلت حكومة طالبان في كابول التي جاءت بالأمن والاستقرار إلى المدن الأفغانية، بعد القضاء على الحرب الأهلية بين زعماء الجــــهاد المتناحرين على السلطة، والتي أيضا قامت بحملة ضد المخدرات، نتيجة للفتاوى القاطعة، التي حرمت زراعتها وبيعها، حتى توقف إنتاج الأفيون تقريباً في هذا البلد العام 2001م، كما شهدت بذلك تقارير برنامج الأمم المتحدة لمراقبة المخدرات. كما قضت الحركة على مظاهر السفور والفساد ومنعت صناعة الخمور أو بيعها أو شربها، وطبقت أحكام الجلد والتعزير الواردة في الشريعة الإسلامية بشأنها.
ولكن حكم طالبان لأفغانستان لم يطل، ففي غضون ذلك حدثت أحدات سبتمبر 2001، وكان ما كان من غزو أمريكا لأفغانستان واحتلالها ولجوء طالبان إلى الجبال وتبنيهم لحرب العصابات ضد القوات الأمريكية، حتى صعود طالبان الثاني في عام 2020، والذي توج بدخول كابول في منتصف هذا الشهر (آب) 2021.
المصدر: مجلة البيان