طالبان .. بين جهاد الاحتلال وبناء الاستقلال
بقلم د. أنور بن قاسم الخضري (خاص بالمنتدى)
تابع المسلمون والعالم أجمع انتصارات حركة طالبان الإسلامية التي تحققت مؤخرا بهيمنتها على معظم الأراضي الأفغانية بما فيها العاصمة كابول، بعد خروج الاحتلال الأنجلوأمريكي منها وانهيار بنية الدولة العميلة له.
لقد كان هذا الانتصار حصيلة جهاد دام ٢٠ عاما، حرصت فيه طالبان على الثبات والرباط والمقاومة والتضحية وضرب جنود الاحتلال وأذنابهم حتى أرغمت القوة العظمى (الولايات المتحدة الأمريكية) على التفاوض مم أجل الانسحاب.
من هي طالبان؟
و”طالبان” اسم يطلق على طلاب العلم، وهم مجموعة طلبة علم رأسهم الملا عمر في فترة التسعينيات من القرن الماضي، إذ قاموا في تلك الحقبة بمواجهات فرقاء العمل الجهادي ضد الاحتلال السوفيتي الذين حرروا كابول عام ١٩٨٩م ودخلوا في دوامة عنف وصراع دموي مدمر لأكثر من ست سنوات بحثا عن مكاسب ونفوذ، بدعم خارجي، ما أدخل أفغانستان في حرب أهلية طاحنة خلقت فوضى أمنية عارمة. فعملت طالبان على فرض الأمن وكنس القوى المتصارعة جميعا، ما دفع المجتمع الأفغاني لمؤازتها والوقوف معها. حتى تمكنوا من الاستيلاء على كافة أراضي افغانستان وأعلنوا قيام الإمارة الإسلامية.
ومعظم طالبان أحناف في الفروع وماتريدية في الأصول. وكثير منهم من قبائل البشتون. هذا هو الغالب عليهم. ولا يمنع وجود خلاف ذلك فيهم.
تشويه وتزييف:
واجهت طالبان من جميع فرقاء الجهاد حربا دعائية ضروسا واتهاما لها بارتكاب جرائم وقتل خارج القانون ونهب أموال وغير ذلك، لكنها جميعا لم تصمد أمام الواقع الذي لمسه الأفغان منهم. كانت هناك أخطاء واختلالات لكنها لم ترق لأن تسبغ على الحركة وصف العصابة الإجرامية أو الفرقة الضالة.
ونظرا لتمسك طالبان بالمبادئ الإسلامية فقد واجهت الغزو الأمريكي عام ٢٠٠١م لرفض الملا عمر تسليم الولايات المتحدة الأمريكية لرجل مسلم اتهم بأحداث (١١ سبتمبر) دون أدلة ومحاكمة. وبالفعل قام حلف دولي بقيادة واشنطن لغزو أفغانستان وإسقاط حكم طالبان والقضاء على الإمارة الإسلامية في حرب بشعة لم يشهد العالم لها مثيلا من قبل.
وتوجهت آلة الإعلام الغربية والتابعة لها في تشويه صورة طالبان لإعطاء مبرر وتسويغ أخلاقي لممارسة تلك الحرب البشعة عليها وعلى أبناء الشعب الأفغاني.
وبالرغم من ذلك، لم يعرف الشعب الأفغاني خلال العشرين سنة الماضية حركة ثبتت في الميدان وجاهدت وقاومت وتمسكت بتحرير الوطن وانتزاع السيادة كحركة طالبان. كل ذلك مع قيامها بمسئولياتها الاجتماعية والإنسانية وتحركها الديني.
٢٠ عاما لم تكل عزائم الرجال رغم القتل والاستهداف والتشريد والتنكيل والمعتقلات والتعذيب والحصار ليعودوا فاتحين يتطلع لهم الشعب بكل ود ودون أن يطلق عليهم رصاصة واحدة كتعبير عن كرهه لهم، بل استقبلهم استقبال الفاتحين.
كيف ينبغي أن نرى طالبان؟
طالبان سنة فقوتهم ستضيف للمحور السني الباكستاني والتركي والسنة عموما في المنطقة قوة. وسوف تعزز الوجود السني في أفغانستان وما حولها، وهذا فتح رباني عظيم.
وهم أصحاب مشروع إسلامي يناصر الشريعة والدين، وهذا أيضا مكسب للإسلام وأهله. ولهم حق تطبيق الوجه الفقهي المترجح لديهم، طالما وغالبية الشعب تؤيدهم. بغض النظر عن الصورة المثالية التي ينبغي أن يسعوا إلى تطبيقها إسلاميا لكن سباق الألف ميل يبدأ بخطوة.
كما أنهم حركة تحرر واستقلال وطني غير منحاز لمعسكرات أجنبية وإنما انحيازه لشعبه. وفي هذا خير عظيم على أفغانستان في المدى القريب والمتوسط والبعيد. لتنقطع قوى العمالة والارتهان للخارج. وهو مبشر لكل مشاريع التحرر الإسلامية في أن لا تستبطئ النصر ولا تستعظم التضحيات فالنتائج نفيسة وغالية ومؤكدة.
تحديات المرحلة:
لقد تمكنت طالبان بجهادها من إخراج المحتلين الأجانب لكنها اليوم أمام تحديات اجتماعية واقتصادية وسياسية لبناء دولة أفغانية حديثة آمنة ومستقرة وناهضة، وهذا يحتاج منهم لوقت طويل وأن يفيدوا من عقول إخوانهم الذين يشاركونهم الرسالة والوظيفة من أبناء الشعب الأفغاني.
البعض يظن أن بناء الدولة لا يتفق مع ظاهر شكل الطالبان من اللحى واللبس التقليدي وهؤلاء يتوهمون أن التطور والتقدم لا تصنعه العقول ابتداء وإنما الأشكال الظاهرة!!
فاللحية أو الشارب، والبدلة الأنيقة أو اللبس التقليدي،
لا يهم كثيرا بقدر ما يهم دور العقول والقدرات العملية والفعلية للشعب والوطن والهوية.
وعندما تسعى العقول والأيادي لقوة بلادها سياسيا وعسكريا واقتصاديا ولإخراج المحتلين الغزاة وحماية المجتمع من محاولات تغيير الهوية والدين فهذا هو محل الاهتمام والإشادة.
غربة الإسلام:
إن الإسلام في معناه البسيط يقوم على شهادة التوحيد الخالدة (لا إله إلا الله محمد رسول آلله).
فكل من حقق الأصلين وإن وقع منه نقص وقصور مسلم يجب الولاء له على قدر إسلامه.
وأولى معاني تحقيق الإسلام البراءة من نصرة وموالاة الكافرين، إذ لا تجتمع حقيقة الإسلام مع ولاء الكفار ونصرتهم، فأيهما حل ارتحل الآخر.
وما يبديه العقلاء من فرحة لانتصار الشعب الأفغاني المسلم على قوى العدوان والاحتلال الغربي ممثلا في حركته المقاومة “طالبان” هو ابداء لحق المسلم على أخيه المسلم.
ولا داعي لاستحضار أي خلافات عقدية وفقهية (فروعية)، بل ولا إلى الإشارة إلى مظاهر التشدد لدى طالبان، في الوقت الراهن.
الحكم سيعلم طالبان كيف تتراخى لتجد القبول وتقل المقاومة والممانعة ضدها.
لذا ينبغي أن نفرح لأجل أفغانستان ليس لأن الملتحين أو المعممين انتصروا كما يظن الجهلة والبسطاء بل لأن إرادة الشعب في الاستقلال والتحرر انتصرت، كما فرحنا بانتصار الأتراك على الانقلاب رغم أنهم لم يكونوا ذوي لحى ولا معممين.
نحن مع شعوبنا المسلمة أن ينصرها الله تعالى ويمكن لقواها الخيرة في الأرض، أيا كانت عقيدتها ومذهبها طالما وهي على أصل الإسلام وفي دائرته.
فولاءنا للمسلمين جميعهم، ونصرتنا لقضاياهم العادلة دون السؤال عن عقائدهم الخاصة ولا مذاهبهم الفقهية.
هذا هو الانتماء للأمة والولاء لها، لا تحده القوميات ولا الأوطان ولا الألوان ولا اللغات ولا المذاهب العقدية والفقهية الخاصة.
فتح مبين:
إن أي شرارة نصر تنطلق في بلد مسلم ما ستلهم الآخرين وتشعل شرارات أخرى في عالمنا الإسلامي.. فالريح التي تهب على منطقتنا الإسلامية ريح واحدة.
وإذا كانت جيوش الاحتلال القديم تقوم على فكرة الاستيطان، أي نقل عوائل وأسر الجنود وغيرهم من ذوي المصالح المختلفة إلى أرض العدو وإقامة مجتمعات استيطانية مرتبطة بالأرض المحتلة كي تتحول هذه المجتمعات مع الوقت إلى قوى مقاتلة عن وجودها ومصالحها التي تشكلت في الأرض الجديدة وبالتالي توجد دوافع عدة للقتال، كما كانت الحملات الصليبية تتحرك وتستوطن المناطق الإسلامية وهكذا كانت معظم دول الاستعمار تفعل، أسبانيا والبرتغال وفرنسا وبريطانيا وغيرهم، حتى تشكلت بؤر استيطانية كبيرة وأفرزت مجتمعات كاملة في الأراضي المحتلة، إلا أن الاحتلال الأمريكي يختلف عن غيره. فأمريكا العدوانية لا تحمل عقلية الاحتلال القديم ولكن عقلية عصابات النهب والسلب. كما أن دستورها وقوانينها لا يسمح بممارسة الاستعمار الاستيطاني، وشعبها أساسا يحمل ثقافة الرفض للاستعمار، لذلك فهي تقوم باحتلال عسكري مؤقت لتنصيب قوى محلية موالية ومن ثم تنسحب قواتها عائدة لأرض الوطن.
والجنود الأمريكان في القانون الأمريكي يتمتعون بكل الامتيازات والرتب والعناية التي يتمتعون بها على الأراضي الأمريكية وهذا يرفع كلفة الوجود العسكري للجنود الأمريكان خارج الوطن. فالأجواء المكيفة والخدمات والترفيه والتغذية والألبسة ووسائل الأمان والتنقل وغيرها.. تخضع لمعايير دقيقة. وأي إهمال أو تقصير يوجد نفورا لدى المجندين.
لذلك فالجندي الأمريكي يقاتل لعلة واضحة ولا يرى البقاء خارج وطنه لفترات طويلة ولا يعمل الجنود لنقل أسرهم خارج أوطانهم. فحلمه دائما العودة للوطن الأم. فالجندي الأمريكي المحتل لا يمتلك عقيدة استيطانية وإن أعطي المبرر القانوني لقتاله خارج وطنه.
هذا فارق جوهري في النظر للوجود الأمريكي بالعراق وأفغانستان وغيرها، وينبغي وضعه في الحسبان ونحن نقرأ قضايا الانسحاب الأمريكي من تلك الدول.
حتى دعاوى “دعم الديمقراطية” أو “مكافحة الإرهاب” لا تعطي الحكومة الأمريكية حق الاحتلال المباشر والاستعمار الدائم لأي بلد تفترضه هدفا لعمل عسكري مشروع وما يتم هو استدعاء عدوان “ما” -فعلي أو مفترض- للقيام بضربة استباقية وهجوم كاسح.
هذه السياسة تضعف الولايات المتحدة الأمريكية وتجعل من ثقافة الممانعة المجتمعية للمشاركة في القتال الخارجي ترتفع، إذ يرى الشعب أن التضحيات لا توازي النتائج المعلنة، فلا الديمقراطية تتحقق -كما هو حال العراق، ولا الإرهاب يقضى عليه -كما هو حال أفغانستان.
وخروج الولايات المتحدة الأمريكية وانسحابها من المنطقة سيفضي إلى ضعفها لأن بقاء جيوشها في الخارج للقتال فقط وليس للاستيطان والاستعمار مكلف جدا، مع بقاء تلك الجيوش هدفا ثابتا للمقاتلين والمقاومين. ولو اختارت القوى الأمريكية الاستيطان فإنها بذلك ستنهي النظام العالمي وتفتح الباب على مصراعيه لتغيير خرائط العالم.
لذا فإنه بعد هزيمة الجيش الأمريكي في العراق وفي أفغانستان لن تكون لديه جرأة للقتال في بلد جديد، وإذا فكرت الإدارة الأمريكية في ذلك فإن ذاكرة الجنود المقاتلين ستكون محملة بذكرى الهزيمة أمام جماعات مقاتلة بدائية فكيف سيكون الحال أمام جيوش نظامية.