طالبان التي لم نعرفها
بقلم ياسين أقطاي
بينما كانت طالبان تتقدم لتسيطر على المدن الأفغانية واحدة تلو أخرى، كان معلوما للجميع أنها لا تزال منخرطة في مفاوضات بالدوحة مع الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية. لم تتوقف المفاوضات وكذلك تقدم طالبان الذي انتهى بدخولها العاصمة كابل بأسرع مما كان متوقعا، مما جعل المشهد متناقضًا للوهلة الأولى، وسرعان ما بدأت تظهر الصور النمطية المتوقعة من الولايات المتحدة.
لا بد أن تكون هناك خطة أمريكية ما وراء ما يحدث، فمن الواضح أن واشنطن تخلت عن أفغانستان لصالح طالبان، وهذا التخلي لا بدّ أن وراءه حسابات أعمق وأشد مكرًا.
هل تتعلق تلك الحسابات بالصورة النمطية الجاهزة عن حركة طالبان؟ وهل يمكن أن تشكل أي مشاهد مروعة منسوبة لحركة طالبان باسم الإسلام والشريعة سببًا لشن حروب جديدة من منطلق الإسلاموفوبيا؟
هل يستحق هذا السيناريو المفترض أن تخاطر الولايات المتحدة بتدمير سمعتها وهيبتها والثقة بها إلى هذا الحد؟
وبغض النظر عن طبيعة ما جرى، فإن ما شهدناه كان مشهدًا واضحًا للغاية لهزيمة الولايات المتحدة. هذا الحدث وما تضمنه من مشاهد فارقة بات محفورًا في أذهان العالم كدليل على انهيار الأسطورة الأمريكية تمامًا.
الصور التي شاهدها العالم لحشود تتدافع نحو مطار كابل أو عبر الحدود، تضم جنودا أمريكيين وإلى جانبهم أفغان تعاونوا مع الولايات المتحدة طيلة 20 عامًا، تلك الصور تدل بوضوح على أن من يثق بالولايات المتحدة ويتعاون معها ضد بلده سيدفع في النهاية ثمنًا باهظًا يفوق الحسبان.
من يجرؤ على التعاون مع الولايات المتحدة ضد بلده من جديد، بعد تلك المشاهد؟!
هذه زاوية شديدة الأهمية، لكن مع ذلك لا يزال البعض حتى اللحظة يدلي بتعليقات تغذّي “الأسطورة الأمريكية”، على الرغم من الانتصار الواضح لطالبان، وعلى الرغم من أن العبارات المنطقية والعقلانية التي وصف بها الرئيس الأمريكي نفسه انسحاب قواته ودخول طالبان إلى كابل، إذ قال بايدن “لقد منحت الولايات المتحدة حكومة أفغانستان كل ما تحتاجه. ساعدنا في تأسيس جيش نظامي قوامه 300 ألف مقاتل دربناهم. كان بإمكانهم محاربة قوات طالبان التي تبلغ 75 ألفًا. لم يكن من الواجب عليهم أن يستسلموا أو يفرّوا دون قتال. لقد استسلم القادة السياسيون وفروا خارج البلاد، كما أن الجيش الأفغاني رفض القتال. وعلى الجنود الأمريكيين أن لا يحاربوا أو يُقتلوا في حرب رفضت القوات الأفغانية خوضها”.
ماذا تريدون منه أن يقول أكثر من ذلك؟
إن عنصر القوة الذي وثقت به الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية، والذي مثَّل ورقة رابحة أمام حركة طالبان في مفاوضات الدوحة، هو وجود قوات حكومية أفغانية قوامها 300 ألف جندي. لم يتوقع أي طرف استسلام تلك القوات، لا سيّما وأنها كانت إلى حد ما تمنع تقدم حركة طالبان في بعض المناطق. ولم تتوقع الولايات المتحدة -ولا حركة طالبان ذاتها- أن تصاب تلك القوات بانهيار نفسي جعلها تفضّل الاستسلام على مواصلة القتال أمام تقدم طالبان الأخير.
ثمرة 20 عامًا
لقد تمكنت طالبان من السيطرة على 30 ولاية بما فيها قندهار وكذلك مدينة مزار شريف كبرى مدن الشمال، قبل أن تتمكن أخيرًا من دخول كابل. لم تضع طالبان في حسبانها دخول كابل، بل كانت ترى السيطرة على تلك الولايات ورقة رابحة خلال مفاوضاتها في الدوحة، لكن مع انتشار أخبار مغادرة الرئيس أشرف غني إلى جانب وزير الداخلية ومسؤولين آخرين، أصبح دخول طالبان إلى كابل تحصيل حاصل، لا سيّما وأن المتحدث باسم حركة طالبان صرّح بوضوح “نحن أيضًا لم نكن نتوقع دخولنا إلى كابل”.
لم يكن في حسبان الرئيس الأمريكي أن تؤول الأمور إلى هذه النتيجة، كان من المخطط تشكيل كيان سياسي تكون فيه طالبان شريكًا أساسيًّا، لا أن تسقط أفغانستان كلها بيد طالبان.
وأيا كانت زاوية مقاربتنا للمشهد، فإن ما حدث يمثل لطالبان ثمرة 20 عامًا من المقاومة والكفاح. لقد نجحت طالبان في استقطاب غالبية الشعب الأفغاني إلى صفها بهدوء، مستثمرة حالة انعدام الاستقرار التي يعيشها الشعب، وتداعيات الاحتلال، فضلًا عن الفساد وسوء الإدارة، غير مكترثة بالدعايات والتصوّرات التي تُنتج ضدها.
وهذا يفسر السهولة غير المتوقعة التي دخلت بها طالبان إلى المدن لتسيطر عليها، بما فيها العاصمة كابل، فقد كان غالبية السكان يرحبون بها في أي مكان تدخله. ولم لا؟ فهي لم ترتكب المجازر أو تسفك الدماء في الأماكن التي دخلتها، كما كان يتوقع البعض، ولم تُحدث تغييرًا خطيرًا في الجهاز الإداري للبلاد، بل طلبت من موظفي الدولة أن يواصلوا أعمالهم من حيث توقفوا.
أما فيما يخص المرأة التي تعد أبرز القضايا التي تُذكر بها طالبان بسوء، فقد قدّمت الحركة رسائل غير متوقعة إطلاقًا، منها التأكيد على إمكانية عمل المرأة في الحكومة، فضلا عن رسائل طمأنة فيما يتعلق بممارسات حبس المرأة أو تعنيفها.
وعلى عكس المتوقع عند حدوث إنجاز عسكري بهذا الحجم، لم تقع حوادث انفلات أمني في كابل، مثل حالات النهب أو الاغتصاب أو ما شابه. على العكس من ذلك تمامًا، ظهر قادة وأفراد طالبان داخل القصر الرئاسي، وهم يستمعون خاشعين لسورة النصر.
من الواضح أننا في مرحلة يتعين فيها على الجميع أن ينسى كل ما سمعه أو عرفه عن حركة طالبان.
أخيرًا، سنواصل متابعة الخطوات التالية لحركة طالبان التي فرضت نفسها من جديد على العالم. وخلال متابعتنا، سيتبين لنا أن حركة طالبان إما تغيّرت كثيرًا، أو سندرك كم كنا ضحايا للدعايات والصور النمطية التي أُنتجت عن حركة طالبان.