ضرورة رعاية الفئات الخاصة في الدولة الحديثة المسلمة: نحو بلورة التوجيهات النبوية إلى عمل مؤسساتي
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
إن تعاليم الإسلام أحدثت انقلاباً في المفاهيم الجاهلية التي كانت لا تحترم إلا الأقوياء، وبالتالي نظرت إلى أصحاب العاهات نظرة ازدراء واحتقار فعاشت تلك الفئات مهمشة بائسة حزينة تشعر بالإحباط، فجاء الإسلام وأعاد إليها اعتبارها وإنسانيتها وأخذ بيدها لتواصل مشوارها في الحياة في جو مفعم بالحب والرحمة، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (يونس، آية : 128).
لقد نظر الإسلام للفئات الخاصة أصحاب العاهات واللقطاء، وكبار السن والزمن، نظرة تقدير واحترام تنبع من الأساس وهو تكريم الإنسان : ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء، آية : 70). وهذا التكريم اقتضى عدم إهمال أي شريحة من شرائح المجتمع مهما كان وضعها لذا نجدها تقدم برامجها الإنسانية للأخذ بأيدي هذه الفئات، لإعادة تأهيلها لمواصلة مسيرتها في الحياة، خاصة أن قطاعاً كبيراً من هذه الفئات الخاصة لديه طاقات مذخورة لا ينبغي الاستهانة بها في دفع المسيرة الحضارية للإسلام.
إن الدستور الحضاري الإسلامي الخالد “القرآن والسنة” لم يترك أمر الفئات الخاصة للاجتهادات الفردية، بل نص بكل وضوح على ضرورة العناية بها ديانة وإنسانية، واعتبر الاحتفاء بها ورعايتها من الطرق الموصلة إلى مرضاة الله ورسوله، ودخول الجنة، فنصت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على واجب رعاية هذه الفئات رعاية شمولية.
إن الحضارة الغربية المعاصرة لم تلتفت لرعاية هذه الشريحة الاجتماعية إلا في فترة متأخرة جداً، ورغم صدور العديد من القوانين والتشريعات في العديد من الدول المتقدمة لصالح الفئات الخاصة إلا أنها مازالت دون المستوى الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية، والسبب في ذلك أن الحضارة الإسلامية ربطت بين هذه الرعاية وبين الدين، فغدا حب هذه الفئات وخدمتها ينطلق من دافع إيماني، جعل أفراد المجتمع من حكام ومحكومين يتسابقون في تقديم المساعدات لهذه الفئات ليس من باب الشفقة والمنة بل من باب الواجب المقدس المفروض على المسلم، بينما نجد هذه الخدمات في الغرب تقدم مجردة خالية من الروح، وبالتالي نجد الابن لا يجد بأساً حين يدفع والديه إلى أحد الملاجئ للتخلص من عبء النفقة والعناية بهما، على العكس تماماً مما هو كائن في تعاليم الإسلام التي جعلت من عقوق الوالدين والتخلص من رعايتهما كبيرة من الكبائر، لا بل إن هذه النظرة الإنسانية الرفيعة للوالدين حرّمت على الابن أن يجرح شعورهما ولو بكلمة أف، قال جلّ من قائل: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ (الإسراء، آية : 23 ـ 24).( الهرفي، رعاية الفئات الخاصة، ص: 11)
وإليك الحديث عن بعض هذه الفئات:
أ ـ رعاية الأرامل:
جعلت الشريعة الإسلامية من ضمن أولوياتها المحافظة على كرامة هذه الشريحة الاجتماعية “الأرامل” فتكفلت بتغير نظرة المجتمع إليها فضلاً عن توفير العيش الكريم لها، وإحاطتها بالعطف والحنان للتخفيف من مصيبتها بفقد زوجها، بل ذهبت إلى أبعد من هذا، حين جعلت من خدمة هذه الشريحة قربة من القربات العظيمة تتساوى مع أجر المجاهد في سبيل الله، وأجر من واظب على قيام الليل وصيام النهار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل».
ولم يكتف المصطفى صلى الله عليه وسلم بالتوجيه القولي، بل قام بكفالة بعض أبناء وأرامل المسلمين الذين استشهدوا في حركة الجهاد، فقد جاء في البخاري ومسند الإمام أحمد أنه بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة جاءت زوجته أسماء بنت عميس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بولديهما عبد الله ومحمد ابني جعفر، وجعلت تذكر ترملها ويتم ابنيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «العيلة تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة».
وانطلاقاً من هذا التوجيه النبوي الشريف أخذت الأمة تعمل على إيجاد آليات لتجسيد رعاية الأرامل في الواقع الملموس من خلال حركة اجتماعية مؤسسية تقوم على مبدأ التكافل الاجتماعي، لمساعدة هذه الشريحة في المجتمع، وقد كان حكام الدولة الإسلامية على رأس الرواد في مباشرة هذا العمل الاجتماعي السامي، فهذا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يخطط قبل اغتياله لتقديم إعانة دائمة للأرامل، إلا أن استشهاده حال دون تحقيقه لهذا الهدف في حياته، فعن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة يقول: لئن سلمني الله، لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً.
ويعد الصحابي الجليل الزبير بن العوام رضي الله عنه أول من أوقف وقفاً لصالح الأرامل والمطلقات من بناته، فقد جاء في صيغة وقفه لبعض دوره: وللمردودة من بناته أن تسكن غير مُضِرَّةٍ، ولا مُضَرٍّ بها.(البيهقي، السنن الكبرى (6/ 165).
وكان القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي يدرك بأن توفير الأمن الاجتماعي لهذه الشريحة “الأرامل” من العوامل المهمة لتحصين الجبهة الداخلية، وبالتالي تحقيق النصر في الجبهات الخارجية، فعندما يعلم الجندي أن زوجه وأطفاله بعد استشهاده سوف يعيشون حياة كريمة، يزداد حماساً في جهاده، وتقل توتراته النفسية ـ التي هي من طبيعة النفس البشرية ـ حين يتوجه لجبهات القتال، لذا نجد صلاح الدين يوقف الأوقاف الكثيرة لخدمة الأرامل والأيتام، والتي منها على سبيل المثال: قرية نسترو بين دمياط والإسكندرية والتي كانت قيمة ضمانها خمسون ألف دينار.(عاشور، رعاية الفئات الخاصة، ص: 20.)
وقد تطور العمل الجماعي في الحضارة الإسلامية لخدمة هذه الشريحة الاجتماعية إلى درجة إنشاء مؤسسات اجتماعية متخصصة لرعاية الأرامل والنساء المطلقات، أو اللواتي هجرن من قبل أزواجهن، أو اللواتي تقدم بهن السن وليس لهن من ينفق عليهن وكانت رائدة هذه اللمسات الإنسانية السيدة تذكار خاتون ابنة الظاهر بيبرس، التي شيدت في عام 684هـ /1258م رباط البغدادية للشيخة الفاضلة زينب ابنة أبي البركات المعروفة ببنت البغدادية، وأنزلت فيها مجموعة من النساء، وظل هذا الرباط قائماً إلى زمن المؤرخ المقريزي 766هـ ـ 845هـ /1441م الذي أوضح بأن لهذا الرباط شيخة تعظ النساء وتفقههن، على أن أهم من هذا قوله: وأدركنا هذا الرباط، وتودع فيه النساء اللاتي طلقن أو هجرن، حتى يتزوجن أو يرجعن إلى أزواجهن صيانة لهن، كما كان فيه من شدة الضبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات.. حتى أن خادمة الفقيرات.. تؤدب من خرج على الطريق بما تراه.(المقريزي، الخطط (2/ 428).
ويبدو أن فكرة إنشاء مؤسسة خاصة لرعاية النساء من الفئات الخاصة بمصطلح اليوم انتشرت من مختلف أرجاء الدولة الإسلامية على مر فترات التاريخ الإسلامي، فكان هناك على سبيل المثال رباطاً مخصصاً للنساء والعجائز في بغداد ومثله في مصر للأرامل والعجائز، فضلاً عن النساء المطلقات وفي القرافة بمصر عدة دور يقال للدار منها رباط لإقامة العجائز والأرامل والمنقطعات، وكانت لها مرتبات للصرف على المقيمات بها، وكان لهن مجالس وعظ مشهورة، وكان يختار لهذه الربط سيدات مثقفات لتهذيب وتعليم المقيمات فيه، منهن الشيخة زينب بنت عباس البغدادية والتي كانت تحضر مجالس ابن تيمية وكان يستعد لها لكثرة مسائلها.
ويذكر أنه كان في مدينة فاس ملجأ خاصاً بالنساء الشريفات الفقيرات، ويتكون هذا الملجأ من دارين تقع إحداهما من الماشطين قرب ساحة الصفارين، والأخرى في وادي الرشاشة جوار دار عديل.
وقد استمرت العناية بهذه الفئة من المجتمع في أحلك الفترات التي كانت تمر بها الحضارة الإسلامية، فها هو آخر خلفاء الدولة العباسية المستعصم والذي قتل على يد التتار سنة 656هـ / 1258م يوقف داراً لرعاية النساء المسنات رغم ما كان يتهدد الدولة من مخاطر التتار.
ب ـ تزويج وتجهيز البنات الفقيرات:
من طبيعة الإسلام وتعاليمه الاهتمام بالجانب الإنساني وتوفير الاحتياجات لأفراد المجتمع، سواء بواسطة الدولة أو من الأفراد القادرين على فعل الخير والتقرب به إلى الله.
ولذلك نجد أن الدولة الإسلامية تصدر المراسيم التي تلزم الدولة بنفقات زواج الفقراء ولعل الأوامر التي صدرها الخليفة الأموي الزاهد عمر بن عبد العزيز” 99 ـ 101/ 717 ـ 719″ إلى واليه على العراق عبد الحميد بن عبد الرحمن بهذا الشأن خير دليل وشاهد على حرص حكام المسلمين على رعاية الشباب الفقراء في الدولة الإسلامية لما يترتب على عجزهم عن الزواج من مفاسد اجتماعية تهدد الأمن الاجتماعي للأمة، فقد جاء توجيهه لواليه: أن أنظر كل بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدق عنه، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت.
ولم يكتف هذا الخليفة العادل بذلك، بل طلب أن ينادي في كل مصر في كل يوم: أين المساكين، أين الغارمون، أين الناكحون.(ابن كثير، البداية والنهاية (9/ 220).
وقد قرر الفقهاء منذ فترة مبكرة على أن الالتزامات الإنسانية على الأمة التكفل بتزويج الفقراء في المجتمع، ويحدثنا الرحالة الشهير ابن بطوطة: أنه كان في مدينة دمشق أوقاف خاصة لتجهيز البنات إلى أزواجهن مما لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن. كما وجد في فلسطين أوقاف مخصصة لتوفير مهور للفتيات اليتيمات كي يتسنى لهن الزواج.
ووجد في أكثر بلدان العالم الإسلامي وقفاً لإعارة الحلي والزينة في الأعراس والمناسبات السعيدة، بحيث أن العامة والفقراء ينتفعون بهذا الوقف الخيري، فيستعيرون منه ما يلزم من الحلي لأجل التزيين في المناسبات العامة، ومن ثم يعيدونه إلى مكانه بعد انتهائها، فقد وجد على سبيل المثال في مدينة تطوان المغربية وقف لأسرة بلحاج خاص بزينة العروس ولباسها.( بن عبد الله معطيات الحضارة المغربية، (2/ 33 ـ 34).
وكانت ملكة الهند المسلمة نورجهان تساعد المحتاجين وتزوج الأيتام، وتدفع المهور عنهم، وكانت أول من أنشأت سوقاً خيرية أطلقت عليها اسم “سوق الشفقة” يذهب ريعه لخدمة الفقراء وتزويج الأيتام، فكانت تجتمع بالأميرات وزوجات الأعيان في قصرها، ثم يذهبن إلى السوق، توزع وارداته على فقراء المملكة، والتي كان يصرف بعضها في تزويج الأيتام ومساعدة المحتاجين، وقد بقيت هذه الملكة تمارس هذه الخدمة الجليلة حتى انتقل زوجها عام 1056هـ /1646م إلى الرفيق الأعلى، حيث اعتزلت الحكم ثم توفيت بعد قليل ودفنت في جانبه في حديقة سليمان.(صقر، نساء فاضلات، ص: 117 ـ 118.)
وكانت الأميرة عزيزة بنت أحمد بن محمد بن عثمان ت 1080هـ / 1669م محبة للضعفاء والمساكين، فأوقفت الأوقاف الخيرية الكثيرة في تونس، منها ما هو مخصص لتجهيز الأبكار اللاتي يثقلهن الفقر ويحول دون زواجهن صيانة لهن عن الابتذال وترغيباً في الزواج بهن.
ج ـ رعاية اللقطاء:
نص الفقهاء على أن رعاية اللقيط واجب مقدس على الأمة، فإن لم تقم به وقعت في الإثم، ولذا قالوا: إن من وجد صغيراً منبوذاً، ففرض على من بحضرته أن يقوم به.. ولا إثم أعظم من إثم من أضاع نسمة ولا ذنب لها حتى تموت جوعاً أو برداً أو تأكلها الكلاب وهو قاتل نفس عمداً لا شك، وإن امتنع أهل القرية أو البلدة على أن ينفقوا على اللقيط وجب على الإمام قتالهم. لأنهم تقاعصوا عن القيام بواجبهم الاجتماعي المقدس الذي كلفهم به الشارع، فالقاعدة تقول: إنه من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، يقول الله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة، آية : 32).
إن إهمال هذه الفئة الاجتماعية “اللقطاء” يعني فتح باب مفسدة عظيمة على المجتمع ومخالفة صريح لروح الإسلام التي جاءت رحمة للعالمين ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء، آية : 107). وصح عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قوله : «من لا يَرحم لا يُرحم».
وحفظت الشريعة الإسلامية حقوق هذه الشريحة في الحرية والكرامة، والرعاية والتربية وحق النفقة، بل إن الدول الإسلامية كالعباسية، والأيوبية، والمماليك والعثمانية، كانت تشتري هؤلاء الأطفال من أسواق الرقيق من مختلف العالم، ومن ثم تربيتهم تربية عسكرية إسلامية، حولتهم إلى حراس للحضارة الإسلامية بعدما أصبحوا جنوداً مدربين يؤمنون بالإسلام ديناً وعقيدة، ومنهج حياة.(الهرفي، رعاية الفئات الخاصة، ص: 50.)