مقالاتمقالات مختارة

ضربة قاضية للإلحاد.. كيف بدأت الحياة؟

ضربة قاضية للإلحاد.. كيف بدأت الحياة؟

بقلم مجاهد ديرانية

(1)

هذا السؤال هو أكثر ما يزعج ويحرج الملحدين منذ وقت طويل، وقد دأبوا دائماً على تبسيط الجواب بالاعتماد على فَرَضية “المصادفة” التي عملت عملها خلال الدهر الطويل الذي انقضى من عمر الكون كما يتصورون. فمنذ عدة بلايين من السنين تعرضت “مركّبات كيميائية” لا حياة فيها لتفاعل في جو الأرض البدائي، وتوفرت أحوال مناسبة: الضغط الجوي الكافي مع الصواعق التي قدّمت الطاقة الكهربائية الضرورية لإتمام العملية، فنشأت الخلية الحية الأولى.

هذا هو الحل “العلمي” الذي تقدمه نظرية “النشوء والارتقاء” لتفسير بدء الحياة، وهو الحل الذي حاول آلاف العلماء إثباته في معاملهم خلال القرن الماضي بطوله، ثم لم يستطع أحدٌ قَطّ أن يُنتج حياة من لاحياة، رغم كل تلك الجهود الهائلة التي بُذلت في معامل توفرت فيها أرقى الآلات والمعدات العلمية، حتى استقر عند المنصفين منهم هذا القانون العلمي الصارم: “إن الحياة لا تنشأ إلا من حياة”.

* * *

من أيام شبابي المبكر وأنا أقرأ عن التطور ومشكلة الحياة، وكان النقاش محصوراً دائماً في “معجزة كيميائية” تسببت في بثّ الحياة في مادة غير حية، فهذه هي الطريقة الوحيدة لتفسير بدء الحياة، وكل ما بعدها سهل: الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي.

لقد استطاعت “نظرية التطور” أن تحتل مكاناً مرموقاً في المجتمع العلمي المعاصر مع أنها ما تزال نظرية مثيرة للجدل، فقَبِلها علماء كثيرون ورفضها علماء كثيرون. وعلى الرغم من أنها استنفدت نصيبها الوافر من الدعم الأكاديمي والإعلامي والسياسي إلا أنها ما تزال تعاني من مشكلة جوهرية لم تستطع تجاوزها بعد مرور مئة وستين عاماً على ولادتها، وما يزال التحدي الأكبر قائماً في وجهها كما كان في يومها الأول.

لم تكن مشكلة نظرية التطور الأساسية هي تفسير تطور أشكال الحياة، سواء ضمن النوع الواحد أو بين الأنواع المختلفة. المشكلة الحقيقية التي واجهتها النظرية علمياً ولم تستطع حلها إلى اليوم هي مشكلة أصل الحياة، بدء الخلق، وهي العُقدة التي يتشبث بها الملاحدة ويدافعون عنها بشراسة، لأنها تدعم افتراضاً بدؤوا به ويريدون أن يقيموا الحجة عليه بأي سبيل: إن الحياة يمكن أن توجد بلا موجد، أي بلا خالق، وهي الطريقة الوحيدة التي يستطيعون أن ينفوا بها وجود الله.

* * *

الخلاصة: لوقت طويل كانت مشكلة بدء الحياة مشكلة كيميائية بيولوجية بحتة، وهي مشكلة سهلة نسبياً -كما تصوروا- ويمكن حلها مع تقدم العلم وابتكار أدوات وأجهزة أكثر دقة واحترافية. أنا نفسي بقيت محصوراً في هذا “الإطار النظري” للمشكلة، مع يقيني بأن البشر لن ينجحوا في إنتاج حياة من لاحياة ولو اشتغلوا دأَباً ألفَ ألفِ عام. لكن الصورة تغيرت أخيراً عندما ظهر أن المشكلة أعقد من الكيمياء بكثير، إنها مشكلة لا يمكن للعلم أن يحلها أبداً، ولو أن أي ملحد مُنْصف فكّر فيها على حقيقتها فسوف ينقلب إلى الإيمان الكامل بالله في طرفة عين.

إنها ليست مشكلة كيمياء، إنها مشكلة “معلومات”.

(2)

حتى منتصف القرن الماضي كانت الفكرة الشائعة في الأوساط العلمية أن “الخلية الحية” تركيبٌ بدائي يمكن أن ينشأ مصادَفةً عندما تتوفر ظروف موضوعية مناسبة، لكن الكشوف العلمية التي تدفقت كالمطر في النصف الثاني من القرن أثبتت أن الخلية الحية تبلغ من التعقيد درجة لم يبلغها أي منتَج بشري على ظهر الأرض، فهي تحتوي على “محطات توليد” تنتج الطاقة التي تحتاج الخلية إليها، و”مصانع” تصنع الإنزيمات والهرمونات اللازمة للحياة، و”بنك معلومات” تسجَّل فيه المعلومات الخاصة بكل “المنتجَات” التي تُصنَع في الخلية، و”أنظمة نقل” و”خطوط اتصالات” معقدة لنقل المواد الخام والمنتجَات النهائية عبر الخلية، و”محطات تكرير” لتحليل المواد الخام إلى أجزاء قابلة للاستخدام… هذا كله ليس سوى جزء صغير من نظام الخلية المعقد بدرجة خيالية.

زادت تلك الاكتشافاتُ صعوبةَ الدفاع عن فَرَضية البداية العشوائية للحياة على الأرض، سواء بالمصادفة البحتة أم بالانتخاب الطبيعي المتراكم لبلايين التفاعلات الكيميائية والبيولوجية عبر بلايين السنين. نعم، صار الدفاع عن تلك الفرضية أصعبَ في ضوء الاكتشافات الحديثة التي أظهرت درجة التعقيد الخيالية في الخلية الحية، لكنها بقيت فرضية ممكنة مهما تكن احتمالاتُها ضئيلة، إلى أن ظهر أخيراً أن المشكلة أكبر من ذلك بكثير، وأن تفسيرها يقع خارج مجال علوم الكيمياء الحيوية والبيولوجيا والجيولوجيا بالكامل، فهي ليست مشكلة تركيب معقد فحسب، مهما بلغ هذا التعقيد، بل هي مشكلة معلومات كما قلت قبل قليل.

* * *

في عام 2009 نُشر كتاب عنوانه “توقيع الخالق في الخلية”، وسرعان ما أثار اهتماماً كبيراً في الأوساط العلمية والشعبية، حتى إن صحيفة “التايمز” الإنكليزية أدرجته ضمن “كتب العام” في ملحقها الثقافي السنوي. مؤلف الكتاب هو ستيفن ماير، وهو فيزيائي وجيولوجي أمريكي يحمل شهادة دكتوراة في فلسفة العلوم من جامعة كامبريدج البريطانية ومن أشد أنصار نظرية “التصميم الذكي” التي تخوض مع الداروينيين حرباً شرسة في الأوساط العلمية منذ ثلاثة عقود.

كما هو متوقع أثار الكتاب جدلاً كبيراً لأنه نقض أصول نظرية التطور السائدة في الأوساط العلمية في الغرب. وقد رأيت من الإنصاف أن أقرأ وأسمع ما قيل وكُتب في نقد الكتاب قبل أن أجازف بالنقل عنه، فوجدت أن خصومه انشغلوا بشَخْصَنة الخلاف وحوّلوا النقاش من أفكار الكتاب ذاتها إلى الجدلية الطويلة التي لم تُحسَم حتى الآن: هل تنتمي نظرية “التصميم الذكي” (التي تتبناها شريحة كبيرة من علماء الطبيعة والبيولوجيا بديلاً عن نظرية التطور) هل تنتمي إلى عالم العلوم أم إلى عالم الفلسفة؟

بالنتيجة وجدت -بإنصاف- أن خصوم الكتاب أنفقوا وقتاً طويلاً في الدوران في حلقات مفرغة وأنهم فشلوا في تفنيد أفكاره بأسلوب علمي رصين، ولا سيما الفكرة الكبرى التي حوّلَت لغزَ بدء الحياة من مشكلة كيميائية بيولوجية إلى مشكلة معلومات.

(3)

لنعد قليلاً إلى الوراء. ربما كان أعظم مشروع ختمَت به البشريةُ القرنَ الميلادي الماضي هو مشروع “الجينوم البشري”، الذي بدأ العمل به عام 1990 بهدف فكّ لغز المورِّثات (الجينات) التي تحمل شيفرة الوراثة، وأُعلنت نتائجه النهائية بعد ثلاثة عشر عاماً، وقد عمل فيه أكثر من ألف عالم من سبع عشرة دولة، بموازنة خيالية بلغت ثلاثة مليارات دولار.

الجينوم البشري هو سجل المعلومات الوراثية المحفوظ في “المادة الوراثية” التي تسكن في نواة الخلية البشرية. هذه المادة العجيبة اسمها “الحمض الرّيبي النووي” (المعروف اختصاراً باسم “دنا”) وهي لا توجد في النواة سائبةً حرّةً بلا نظام، بل تتكتّل في كيانات دقيقة جداً تسمى “جِينات” (مُوَرِّثات) توجد عشراتُ الآلاف منها في نواة الخلية البشرية. هذه الجينات تتجمع وتندمج معاً فتصنع قطعاً خيطية تسمى “كروموسومات” (صبغيّات)، يبلغ عددها في الخلية البشرية ستاً وأربعين صبغية تنتظم في أزواج (ومن هنا جاء الرقم الشهير: ثلاثة وعشرون زوجاً من الكروموسومات).

* * *

إذن فإن الحمض النووي (الدنا) هو مادة الحياة الأساسية التي اهتدى إليها العلم أخيراً، وقد صارت صورة سلسلة “الدنا” الحلزونية من أشهر الصور العلمية في العصر الحاضر، ولا بد أن كل قارئ لهذه المقالة قد شاهدها ذات يوم: خَيطان لولبيان يلتفّ كل منهما على الآخر وكأنهما ثعبانان متعانقان، يرتبطان معاً بمئات الوصلات الأفقية التي جعلت جُزَيء الدنا أشبه بالسلّم الملتوي. هذه الوصلات الأفقية تتكون من أربعة أنواع من “القواعد النيتروجينية” التي ترتبط معاً بروابط محددة، وهي كثيرة جداً، يوجد منها في نواة الخلية الواحدة أكثر من ثلاثة مليارات زوج، فلو أننا عبّرنا عن كل منها بحرف أبجدي لملأت ثلاثة آلاف مجلد من الحجم الكبير، ولو رصفنا تلك المجلدات بعضَها فوق بعض لتجاوز ارتفاعها عمارةً من ثلاثين طابقاً على الأقل!

من أراد أن يقرأ القصة المثيرة لاكتشاف بنية “الدنا” الفريدة فسوف يجدها في الكتاب الممتع “اللولب المزدوج” الذي كتبه جيمس واطسون، وقد حصل هو وزميله فرانسِسْ كرِكْ على جائزة نوبل عام 1962 مكافأة لهما على هذا الاكتشاف المثير. وقد تُرجم الكتاب ونشر بالعربية قبل بضع سنوات.

لم يكن اكتشاف المادة الوراثية وتركيبها الفريد اكتشافاً عادياً، فسرعان ما اتضح أن الدنا هو “حجر رشيد” الحياة، فكما كشف الحجر الأصلي الذي عثر عليه شامبليون سرّ الأبجدية الهيروغليفية القديمة فقد كشف الدنا سر أبجدية الحياة، فهو يحتوي على “المعلومات” التي تحدد كل صفات الكائن الحي: لون البشرة والشعر والعينين والطول وقوة جهاز المناعة والعلل الموروثة والطباع الأصلية والاستعدادات النفسية… باختصار: كل واحد من الناس يولد ومعه “كتاب تعليمات” (كاتالوغ) خاص به كُتب بهذه اللغة العجيبة، وهو يميّزه عن سائر الناس.

(4)

يقول ستيفن ماير، مؤلف كتاب “توقيع الخالق في الخلية”: إن المشكلة الحقيقية في الخلية الحيّة هي تفسير أصل (أو مصدر) المعلومات في جُزَيء الحمض النووي (الدنا)، فالمعلومات التي يحملها الجزيء تنشأ عن ترتيب “القواعد” الموجودة فيه، فكأن هذه القواعد هي الأحرف التي تُكتَب بها المعلومات. المدهش أن ترتيب القواعد ليست له أي علاقة بالقوى الكيميائية التي تربطها مع بقية مكونات الجزيء، لأنها متساوية في التأثير ولا تستطيع انتقاء طريقة الربط، كما أنها هي نفسها غير مرتبطة معاً بأي قوة كيميائية. إذن فإن الكيمياء غير قادرة على تفسير الترتيب الدقيق (الفريد) للقواعد التي تحمل شيفرة المعلومات داخل الجزيء. إنها تشبه الأحرف التي تتكون منها الكلمات، تلك الأحرف يمكن أن تترتب بأي صورة عشوائية، ولكن عندما نكتب كلمات ذات معنى فما مصدر المعلومات التي رتّبَت الأحرف معاً لتدل على كلمات مفيدة؟

ثم يقول: لقد قدم اكتشاف خاصية حمل المعلومات في “الدنا” تحدياً جوهرياً لكل النظريات المادية التي حاولت تفسير أصل الحياة على أساس مادي. لن تستطيع الداروينية الجديدة الصمودَ أمام “بيولوجيا المعلوماتية”، وهي بيولوجيا القرن الحادي والعشرين.

ثم ينقل ماير عن بيل غيتس (مؤسس مايكروسوفت) قوله: “إن جُزَيء الدنا يشبه برنامجاً حاسوبياً، ولكنه أكثر تطوراً بدرجة هائلة من أي برنامج استطاع الإنسان إنتاجه”. ثم يقول: إن هذه الملاحظة مثيرة تماماً، لأننا نعلم أن البرامج تأتي دائماً من مُبرمِجين، كما نعلم أن المعلومات لا تأتي إلا من مصدر ذكي عاقل. مهما تكن طبيعة المعلومات (لغة مكتوبة أو برمجة حاسوبية) عندما نتقصى مصدرها النهائي الأصلي نصل إلى “عقل” وليس إلى “مادة”. إذن عندما نجد معلومات مضمَّنة (أو مزروعة) في “الدنا” فإن الاستنتاج الأكثر منطقية هو أنها جاءت من مصدر ذكي عليم.

* * *

“إن المعلومات هي إنتاج العقل الواعي”. هذا ما يقوله الطبيب النمساوي الشهير هنري كوازتْلر، الذي صار -بعد هجرته إلى الولايات المتحدة- رائداً في “نظرية المعلومات” وتطبيقاتها في العلوم البيولوجية، يقول: “إن ابتكار معلومات جديدة يرتبط ارتباطاً حتمياً بعمل من أعمال الوعي”.

عند الفراغ من قراءة الجينوم البشري كان ما نجح العلماء في اكتشافه من حقائق ومعلومات قد ملأ ربع مليون صفحة من صفحات كتاب متوسط الحجم. عندها قال البروفسور فرانسس كولِنْز، مدير مشروع الجينوم، كلمته الشهيرة: “الآن علّمنا الله اللغة التي خلق بها الحياة”. ثم قال: إنني أشعر بالإثارة والذهول عندما أفكر بالأمر؛ لقد ألقينا للتوّ النظرة الأولى على “كتاب التعليمات البشري” (كتالوغ الإنسان) الذي كتبه الله ولم يطّلع عليه من قبلُ سواه.

هذه الاكتشافات التي تدفقت في العقد الأول من القرن الجديد كانت صادمة للكثيرين، وقد وصلت موجاتها الارتدادية إلى الشاطئ الآمن الذي أمضى فيه أكبرُ ملحدي القرن العشرين شيخوختَه طامعاً في نهاية هادئة لحياته الصاخبة، فلم يسعه أن ينجو من آثارها، فما لبثت الأوساط العلمية أن فوجئت في عام 2004 بخبر مثير نشرته وكالة أنباء أسوشيتدبرس: “ملحد شهير يؤمن بالإله اعتماداً على الأدلة العلمية”. وجاء في التفاصيل: بعدما أمضى معظمَ حياته مصرّاً على نفي وجود الخالق يقول أنتوني فلو، وهو في الحادية والثمانين من العمر اليوم: لا بد أن “قوة ذكية ما” هي التي خلقت الكون. إن “الذكاء الخارق” هو التفسير الجيّد الوحيد لنشأة الحياة وتعقيد الطبيعة.

-خاتمة-

النتيجة التي سنصل إليها -بعد قراءة كل ما سبق- هي ذاتها التي وصل إليها الكيميائي الشهير مايكل بولاني ذات يوم: إن المعلومات في جُزَيء الدنا ليست أبداً نتيجة لكيمياء الروابط التي تربط مكونات الجزيء معاً، فعلاقة الكيمياء بترتيب القواعد التي تنشأ عنها المعلومات الوراثية لا تزيد على علاقة الحبر بكلمات الكتاب أو الجريدة. إن الحبر يُظهِر الحروفَ على الورقة فقط، أما المعلومات (ترتيب الأحرف والكلمات) فإن تفسيرها يأتي من مصدر خارجي، شيء من خارج عالمَي الفيزياء والكيمياء. إنه يأتي -حسب الكلمات التي استخدمها بولاني نفسه- من “كائن فوق الوجود المادي”.

بعد معرفة هذه المعلومات المثيرة لا مناص من الاعتراف بوجود إله “خالق قدير عليم”، ليس لأن القرآن عرّفنا بهذه الأسماء الحسنى لله، بل لأنها -بموضوعية وإنصاف- هي الصفات الحتمية لمن أنشأ الحياة من عدم وخلق شيفرة الحياة.

عندها سوف ندرك سرَّ التعبير القرآني المدهش في قوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول} وقوله تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق}، وفي الآيتين يلفت القرآنُ انتباهَ الإنسان إلى خلقه الأول، إنه يرشد الإنسان هنا إلى دليل الألوهية الأكبر: أصل الحياة.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى