ضد الاستبداد.. الجبرتي والباشا وجها لوجه
بقلم محمد الصياد
الشيخ عبدالرحمن الجبرتيّ هو شيخٌ أزهريّ، وأحد أهم المؤرخين في تاريخ مصر، وتاريخ المؤسسة الدينية، فتاريخه عمدة في بابه، وكان -رحمه الله- يتأوه من استبداد الباشا محمد عليّ، وفي الوقت نفسه لم تمنعه معارضة الباشا من الاعتراف له ببعض الفضائل في ثنايا تاريخه.
وكان الجبرتيّ ناقما على الصراع بين علماء الأزهر، ويتساءل أسئلة مشروعة في كثير من الأحايين عن ثروات بعضهم المتضخمة، وعن علاقات بعضهم مع الفرنسيس (الفرنسيين)، وعلاقات آخرين مع الباشا محمد عليّ، وعلى خيانة بعضهم بعضا، كالذي كان من بعضهم ضد الشيخ عمر مكرم تشويها لمكانته!
كل هذا يؤكد أن الشيخ الجبرتي كان ذا بعْد أخلاقيّ في رؤيته للأحداث، وهو الطابع المهمّ الذي انبنى عليه أفكاره. وهو كذلك، أي هذا الفكر، يدلّنا على ملمح مهمّ من ملامح البيئة الأزهرية والثقافة الدينية وقتئذ.
الجبرتي وانتقاد الجباية
انتقد الجبرتيّ اعتماد الباشا محمد عليّ، في بناء دولته على الضرائب، والجباية، حتى فرض رسوما على كل شيء، ووصل الأمر إلى فرض جباية على الفسيخ “السمك المملح”. واستنكر الجبرتي القبض على الناس بغير جرم، بسبب الجباية، فيقول: “وانقضت السنة وما حصل بها من الغلا.. والقبض على أفراد الناس بأدنى شبهة، وطلب الأموال منهم، وحبسهم واشتدّ الضنك في آخر السنة”. ويقول في موضع آخر: “وذلك أن ولي الأمر لم يكن له من الشغل إلا صرف همته وعقله وفكرته في تحصيل المال والمكاسب، وقطع أرزاق المسترزقين والحجر، والاحتكار لجميع الأسباب، ولا يتقرب إليه من يريد قربه إلا بمساعدته على مراداته ومقاصده”.
كانت هذه سياسة واضحة لمحمد عليّ، فكان يسعى لإفقار الناس، وبسط هيمنته على مفاصل الاقتصاد ومؤسساته، ففي موضع آخر من عجائب الآثار يقول الجبرتي: “وفيه (سبتمبر/أيلول 1806م/ رجب 1221هـ) شرع (الباشا) في تقريره (تجهيز العساكر لنشرهم بالوجهين القبلي والبحري) فرضة عظيمة، على البلاد والقرى والتجار، ونصارى الأروام والأقباط والشوام ومساتير الناس ونساء الأعيان، والملتزمين، وغيرهم، وقدرها ستة آلاف كيس.. وذكروا أنها سلفة لمدة ستة أيام ترد إلى أربابها، ولا صحّة لذلك”. والتفت إلى قول الجبرتي: “ولا صحّة لذلك”، فالجبرتيّ يدرك جيدا لجوء الباشا إلى الكذب على الناس بغية تمرير مشاريعه.
ومن ضمن طرائف الباشا أنّ الإنجليز عندما نزلوا في حملة على الإسكندرية وتمكنوا منها، وكادوا يستولون على الإقليم المصري كله، قال المشايخ للباشا: “إنا نخرج جميعا للجهاد مع الرعية والعسكر”، لكنّه رفض وقال لهم: “ليس على رعية البلد خروج، وإنما عليهم المساعدة بالمال لعلايف العسكر”.
وبعدما تصدى العامّة من الفلاحين والأهالي للإنجليز في رشيد والبحيرة والإسكندرية ونجحوا في هزيمة الإنجليز، يخبرنا الجبرتي أنّ ذلك الفضل كلّه نُسب زورا إلى الباشا محمد علي وليس إلى العامّة، فيقول: “وليت العامة شُكروا على ذلك، أو نُسب إليهم فعل!. بل نُسب كلّ ذلك للباشا وعساكره، وجوزيت العامة بضدّ الجزاء بعد ذلك”، يقصد جوزيت بالضرائب وتعديات العساكر.
وفي سنة (1807م/ 1222هـ) يخبرنا الجبرتي أنّ الباشا: “طلب من التجار نحو الألفي كيس، على سبيل السلفة، فوُزعت على الأعيان والتجار، وأهل وكالة الصابون، ووكالة التفاح، وحجزوا البضايع وأجلسوا العساكر على الحواصل، والوكايل يمنعون من يُخْرج من حاصله أو مخزنه شيئا إلا بقصد الدفع من أصل المطلوب منهم”.
ولم ينحصر الأمر في التجار، بل امتد بحسب الجبرتي إلى الناس المساتير (الطبقة الوسطى)، وبعبارته: “فيكون الإنسان جالسا في بيته فما يشعر إلا والمعينون واصلون إليه وبيدهم بصلة الطلب، إما خمسة أكياس أو عشرة، فإما أن يدفعها وإلا قبضوا عليه وسحبوه إلى السجن”.
هذا التعنت من الباشا أغضب شيخ الأزهر الشيخ الشرقاوي، الذي دخل في مناقشة حادّة مع الباشا، قائلا له: “ينبغي أن ترفقوا بالناس، وترفعوا الظلم، فقال الباشا: أنا لست بظالم وحدي، وأنتم أظلم مني”.
وتعدى ظلم الباشا ليشمل أموال الأوقاف، فيخبرنا الجبرتيّ أنّ الباشا كان لا يطيق الوقف، ويسخر منه، ويقول: “إيش يعني وقف!”. ذلك أنّ الباشا كان يأخذ الدور والأرض: “وكان يطلب رب المكان ليعطيه الثمن، فلا يجد بدا من الإجابة، فيدفع له ما سمحت به نفسه، إن شاء عُشر الثمن، أو أقل أو أزيد قليلا، وذلك لشفاعة، أو واسطة خير، وإذا قيل له: إنه وقف، ولا مسوغ لاستبداله لعدم تخريبه، أمر بتخريبه ليلا، وكان يثقل عليه لفظة وقف، ويقول إيش يعني وقف!”.
الجبرتي وحقوق العمال
يتعجب الجبرتي من عدم وجود أدنى حقوق للعمال في عهد الباشا، ففي حفر ترعة الأشرفية بناحية الإسكندرية، يقول الجبرتي: “وأمر الباشا حكام الجهات بالأرياف بجمع الفلاحين للعمل، فكانوا يربطونهم قطارات بالحبال، وينزلون بهم المراكب”.
ثمّ يتحسر الجبرتي على دفن بعضهم أحياء، فيقول: “ومات الكثير منهم من البرد والتعب، وكل من سقط أهالوا عليه من تراب الحفر ولو فيه الروح”.
ولم يكتف الباشا بذلك، بل أخذ منهم الضرائب رغم أنّ زرعهم لم يؤت حصاده.
ولما رجعوا إلى بلادهم للحصاد، طولبوا بالمال.
أي أنهم كانوا يحفرون الترع دون مقابل، وفي بيئة سخرة وإذلال، ولمّا رجعوا إلى قراهم وبلدانهم كافأهم الباشا بمطالبتهم بالضرائب.
ليس ذلك فقط، بل إنّ الفلاحين لم يكن باستطاعتهم بيع محاصيلهم، أو حتى أخذ شيء منها، فيقول الجبرتي: “واستمرّ التحجير على الأرز ومزارعه على مثل هذا النسق، بحيث إن الزارعين التعبانين فيه لا يمكنون من أخذ حبة منه، فيؤخذ بأجمعه لطرف الباشا بما قدره من ثمن”.
إنصاف الجبرتي.. محاسن الباشا
ومن إنصاف الجبرتي أنه لا يسلب الباشا بعض محاسنه، فيقول: “ومن محاسن الأفعال أن الباشا أعمل همته في إعادة السد الأعظم الممتد الموصل إلى إسكندرية، وقد كان اتسع أمره وتخرب من مدة سنين، وزحف منه ماء البحر المالح..”.
ويقول “فلما اعتنى الباشا بتعمير الإسكندرية وتشييد أركانها وأبراجها وتحصينها، ولم تزل بها العمارات، اعتنى أيضا بأمر الجسر، وأرسل إليه المباشرين والقومة، والرجال والفعَلَة، والنجارين والبنائين..”.
ثم يذكر الجبرتيّ قانونا مهما: “وكان له مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان، فلو وفقه الله لشيء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة، والتدبير، والمطاولة، لكان أعجوبة زمانه، وفريد أوانه”.
فالجبرتيّ يقرّ ببعض إنجازات الباشا في مصر، لكنّه يأخذ عليه الظلم والجور، فيتمنى لو جمع الباشا بين الهمة والعدل!
مواجهة كلب الجور
يصف الجبرتي محمد علي باشا بـ”كلب الجور”، فيقول “وفي ظن الناس وغفلتهم أنّ في الإناء بقية، أو أنهم يدفعون الرزية وما علموا أن البساط قد انطوى وكل قد ضل وأضل وغوى، ومال عن الصراط واتبع الهوى، وكلب الجور قد كشر عن أنيابه وعوى، ولم يجد له طاردا ولا معارضا ولا معاندا”.
فسببُ استفحال الظلم في رأي الجبرتيّ أنّ الباشا لم يجد له “معارضا ولا معاندا”، مما يبرهن على قوّة فهم الجبرتيّ للفقه السياسيّ، وفلسفة الشأن العام.
وذاق العلماء الظلم من محمد علي، حتى أولئك الذين أوصلوه إلى هرم السلطة، فقد فرض الإقامة الجبرية على الشيخ عبدالله الشرقاوي سنة (1806م/ 1221هـ)، ومنعه حتى من الخروج إلى صلاة الجمعة، وذلك بسبب وشاية من مشايخ آخرين منافسين للشيخ الشرقاوي، ويقول الجبرتي متحسرا على ما حلّ بالشرقاوي: “فامتثل الأمر، ولم يجد ناصرا، وأهمل أمره”.
وكأنّه يريد القول إن الشرقاوي طواه النسيان، ولم يجد من يذبّ عنه ويدفع مظلوميته!
وفي سنة (1809م/ 1224هـ) نفى الباشا عمر مكرم من القاهرة إلى دمياط، بسبب رفض مكرم لمظالم الباشا ضد الرعية. ولم يلجأ محمد علي إلى ذلك إلا بعد أن استيقن موقف العلماء والفقهاء من خصوم عمر مكرم، عندما دبّ دبيب الحقد بينهم، بمساهمة محمد عليّ ورعايته، ففرَّق بينهم، وألب بعضهم على بعض.
والغريب أنّ طائفة من العلماء وقّعوا على محضر بذم الشيخ عمر مكرم، وتبرير عزله من نقابة الأشراف، ونفيه إلى دمياط، ولم يكتفوا بذلك بل عزلوا أحد أصحابه من رئاسة الحنفية، وهو الشيخ أحمد الطهطاوي، رحمه الله.
ويقول الجبرتي معلقا على صنيع المشايخ ومفسّرا له: “والحامل لهم على ذلك كله، الحظوظ النفسانية والحسد، مع أنّ السيد عمر كان ظلا ظليلا عليهم، وعلى أهل البلدة، ويدافع ويرافع عنهم وعن غيرهم”.
ولم يقف ظلم الباشا عند الفقهاء والعلماء، بل امتدّ إلى الرعية، فجنوده عربدوا في أرض مصر، واستبدوا بها، حتى اعتدوا على الأطفال والنساء، فيقول الجبرتي عن واقعة من وقائع جنود الباشا: “ونهبوا كفر حكيم، وما جاوره من القرى، حتى أخذوا النساء والبنات، والصبيان، والمواشي، ودخلوا بهم إلى بولاق (القاهرة)، ويبيعونهم فيما بينهم، من غير تحاش كأنهم سبايا كفار”.
ولم تكن هذه مواقف عابرة، بل كانت إستراتيجية لعسكر محمد عليّ، فيقول الجبرتي عن استغلال العسكر مجيء الإنجليز وتمكنهم من الإسكندرية وحدوث حالة فوضى في مصر: “وفجروا (أي العسكر) بالنساء وافتضوا الأبكار، ولاطوا بالغلمان وأخذوهم وباعوهم فيما بينهم..”، ثمّ يقول ساخرا مستنكرا “وهكذا يفعل المجاهدون”!!
(المصدر: مدونات الجزيرة)