صور من عناية الدولة الإسلامية بأصحاب الاحتياجات الخاصة والأمراض المزمنة
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
نرى عتاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في آيات تتلى إلى يوم القيامة، وكان هذا العتاب في شأن رجل فقير أعمى من الصحابة عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه، أعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، ولما يجبه عن سؤاله لانشغاله بدعوة بعض أشراف مكة. (السيرة النبوية للصلابي، 1/ 239)
فنزل قول الله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى* فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى* وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ (عبس، آية : 1 ـ 11).
لقد باشر المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد ما تلقى العتاب من ربه في سورة عبس إلى توجيه أنظار الأمة لأهمية رعاية هذه الشريحة من المجتمع فكان على سبيل المثال، يعهد لعبد الله بن أم مكتوم الذي عاتبه فيه ربه ليصلي بالناس أثناء غيابه عن المدينة المنورة في بعض غزواته. (البداية والنهاية لابن كثير، 3/ 260)
وكان ابن عباس يؤم الناس بعدما فقد بصره وروى البخاري والنسائي أيضاً أن عتبة بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى. (نيل الأوطار، 3/ 160)
وبعد تعددت صور توجيهات المصطفى صلى الله عليه وسلم لهذه الشريحة “العميان” وللأمة، فكان دوماً يعرض على رفع معنوياتها ويحثها على العمل من خلال تعظيم الأجر لها إذا صبرت واحتسبت ومارست دورها في الحياة دون أن تجعل من هذه العاهة عائقاً وعقبة أمام أخذها لدورها المناسب في المجتمع، فقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم من فقد إحدى عينيه أو كلاهما بالجنة، فقال: «إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبته فصبر عوضته عنهما الجنة». (البخاري، الحديث رقم: 5221)
وكعادة الصحابة الكرام ما إن رأوا سلوك النبي صلى الله عليه وسلم تجاه هذه الفئة الاجتماعية حتى بدأوا يتسابقون في مد يد العون لها، فقد روى الإمام الأوزاعي رحمه الله عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج في سواد الليل فرآه الصحابي طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فذهب عمر فدخل بيتاً ثم دخل آخر، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟، قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى، قال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرت عمر تتبّع، وكان عمر رضي الله عنه شديد البر لأصحاب العاهات، خاصة العميان، وسار على هذا النهج حكام المسلمين وأهل الخير في الأمة فها هو الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك “86 ـ 96هـ /705 ـ 715م” يصدر مرسوماً حضارياً راقياً يعبّر عن احترامه لهذه الفئات، فقد أعلن بأن رعاية الفئات الخاصة في المجتمع هي من واجبات الدولة، لذا نجده يأمر بتخصيص قائد لكل أعمى يسهر على راحته، فضلاً عن راتب شهري يغطي نفقاته، كما ثبت عن الخليفة عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أمصار الشام: أن ارفعوا إلى كل أعمى في الديوان أو مقعد أو من به فالج، أو من به زمانة “داء مزمن” يحول بينه وبين القيام إلى الصلاة فرفعوا إليه، فأمر لكل أعمى بقائد، وأمر لكل اثنين من الزمن بخادم. (سيرة عمر ابن عبد العزيز، ابن الجوزي، ص: 154 ـ 155)
ويروي الرحالة المسلم الشهير ابن بطوطة في رحلته أنه شاهد في بغداد جماعة من العميان يؤمر لكل واحد منهم بكسوة وغلام يقوده ونفقة تجري عليه. (رحلة ابن بطوطة، ص: 107)
ولعل تسابق أهل الخير حكاماً ومحكومين على وقف الأوقاف لصالح هذه الفئات الاجتماعية خير شاهد على نضج الحس الاجتماعي للأمة الإسلامية وسمو حضارتها إذ يندر أن نرى بقعة معمورة كانت تفيء بظلال الحضارة الإسلامية لا يوجد فيها وقف لأصحاب العاهات. (رعاية الفئات الخاصة، ص: 61)
وقد خصصت الدولة الإسلامية مستشفيات لرعاية المحتاجين، وأفردت غرفاً خاصة في المستشفيات العامة لمداواتهم سريرياً ونفسياً، كما ذكر المؤرخون أنه جاء في نفقات الخليفة العباسي المعتضد بالله أنه خصص لمستشفى الصاعدي الذي كان قد أسسه القائد صاعد بن مخلد أموالاً للنفقة عليه، لأثمان الأدوية والأطعمة والأشربة لخدمة المغلوبين على عقولهم. (الوقف ودوره في التنمية عبد الستار الهيتي، رعاية الفئات، ص: 70)
وجاء في وقف أحد المستشفيات المخصصة للأمراض العقلية أن: كل مجنون خصص له خادمان يخدمانه فينزعان عنه ثيابه كل صباح، ويحممانه بالماء البارد ثم يلبسانه ثياباً نظيفة ثم يفسحانه في الهواء الطلق ويسمع في الآخر الأصوات الجميلة. (خطط الشام/ محمد كرد علي (6/ 165، 166)
وقد انتشرت مستشفيات المجانين في كل المدن الإسلامية في بغداد والقاهرة ودمشق وفاس وغيرها، وفي العصر المريني اهتم أبو يوسف يعقوب عبد الحق “656 ـ 685هـ / 1258 ـ 1286م” برعاية المجانين، فقد كان ـ حسب ما ورد عن ابن أبي زرع ـ كثير الخير، والرأفة على الضعفاء والمساكين، صنع المارستان للمرضى والمجانين، وأجرى عليهم النفقات، وجميع ما يحتاجون إليه من الأغذية والأشربة، وأمر بتفقد أحوالهم في الصباح والمساء.
واستمرت عناية الدولة الإسلامية المتعاقبة بالمجانين حتى فترة متأخرة من الدولة العثمانية، فنرى على سبيل المثال بمارستان السلطان العثماني سليمان بن السلطان سليم عاشر سلاطين آل عثمان “ت هـ 22 صفر 974 هـ / 1566م” في القسطنطنية، قد خصص لمداواة المرضى وتربية المجانين بأنواع الأشربة والأطعمة والمعاجين، (من روائع حضارتنا، مصطفى السباعي، ص: 112) علماً بأنه كان يخصص لكل مجنون في معظم المستشفيات مرافقاً خاصاً يأخذه باللين والرفق ويصحبه بين الزهور والرياض الخضراء، ويسمعه ترتيلاً هادئاً من آيات الذكر الحكيم.
وتؤكد المصادر أن المسلمين أدركو ما للترويح والتسلية من أثر في إدخال البهجة على المرضى والمصابين بالأمراض النفسية، فكان في بعض المستشفيات على سبيل المثال فرقاً للإنشاد تقوم بإنشاد الأناشيد الجميلة للترفيه عن المرضى الذين لا يستطيعون النوم.
وفي بعض الأحيان كان يعزل المؤرقين في قاعات منفردة عن بقية المرضى حيث تشنف آذانهم بالأصوات الندية فضلاً عن تسليتهم بالأقاصيص التي يلقيها عليهم القصاص، إلى جانب مشاهدة بعض التمثيليات المضحكة، وكان أيضاً المؤذنون في المسجد الملاصق للمستشفى يؤذنون في السحر قبل ميعاد الفجر بساعتين، وينشدون الأذكار بأصوات ندية من أجل تخفيف الألم عن المرضى الذين يضجرهم السهر وطول الوقت.
وكان المسلمون يهتمون بأثر العوامل النفسية في معالجة المرضى، وخاصة المصابين بالأمراض النفسية، لذا نجد أهل الخير والإحسان يبادرون إلى وقف الأوقاف لخدمة هذا الهدف الإنساني السامي، فقد أوقف أحد المحسنين في مدينة طرابلس اللبنانية وقفاً يخصص ريعه لتوظيف اثنين يمران بالمستشفيات يومياً فيتحدثان بجانب المرضى حديثاً خافتاً ليسمعه المريض بما يوحي له بتحسن حالته واحمرار وجهه وبريق عينيه. (من روائع حضارتنا، ص: 112)
وكما هو معلوم فقد ثبت علمياً اليوم بأن روح المعنوية لها أثر كبير على حالة المريض، فالمريض الذي يتمتع بروح معنوية عالية يتعافى أسرع من المريض الذي يتصف بضعف المعنوية. (رعاية الفئات الخاصة، ص: 73)
وأما أصحاب الأمراض المزمنة والخطيرة، ممن ليس لهم أقارب يقومون بأمرهم، فقد وجدت الكثير من الأوقاف في مختلف المدن الإسلامية لخدمة هذه الشريحة الاجتماعية فقد خصص الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك على سبيل المثال مصحات لمرض الجذام لرعايتهم والإنفاق عليهم ومنعهم من الاحتكاك بالناس.
وأوقف في تونس أبو فارس عبد العزيز بن السلطان أبي العباس الحفصي ” 796هـ / 1393م” بيمارستان للضعفاء والغرباء وذوي العاهات من المسلمين وأوقف على ذلك أوقافاً كثيرة. (تاريخ البيمارستانات، أحمد عيسى بك، ص: 278)
____________________________________________________________
المصادر:
- الخطط والآثار، تقي الدين المقريزي.
- الدولة الحديثة المسلمة، علي محمد الصلابي، دار المعرفة- بيروت، ص 418- 422.
- رعاية الفئات الخاصة، محمد البلوي.
- من روائع حضارتنا، مصطفى السباعي، دار الوراق للنشر والتوزيع.
- الوقف ودوره في التنمية، عبد الستار الهيتي.