صناعة المستبد في المجتمعات الواهنة.. بحث عن الوعي المَوْؤُودَ
بقلم حرزالله محمد لخضر
إن من المعضلات الفكرية في فقه السياسة لدى المجتمعات الواهنة هو اعتقادها بأن الدولة والنظام هما مختصران في شخصية “الرئيس أو الحاكم” فلا تكاد تميز في أحكامها بين الرئيس كموظف مستأجر للقيام بمسؤولياته تجاه المجتمع والدولة لفترة محددة دستوريا، وبين الدولة ككيان طبيعي ومادي وبشري ومعنوي له عمقه التاريخي وامتداده الحضاري، وبين النظام الذي ينقسم إلى:
أ- نظام الحكم: والذي يرتبط أساسا بالعلاقة بين مؤسسات الحكم الثلاث: القضائية والتنفيذية والتشريعية، وعلى أساس طبيعة وفعالية هذه العلاقة (انفصال، اندماج، تعاون، انفصال مرن) يصنف نظام الحكم إلى: ملكي، رئاسي، شبه رئاسي، برلماني، جمهوري، فديرالي، النظام المجلسي كحكومة الجمعية بسويسرا… الخ.
ب- النظام السياسي: والذي يشير إلى طريقة تسيير الشأن العام في المجتمع في الاقتصاد والصحة والتعليم والثقافة والسياسة والإجتماع، وهو أوسع من نظام الحكم وعلى أساس الأسلوب المتبع في إدارة الشأن العام يوصف بأنه ديمقراطي، تسلطي، شمولي، تسلطي ذو واجهة ديمقراطية..الخ.
ففي مجتمعاتنا العربية لا نفرق جيدا بين هذه المصطلحات المركزية ولهذا ترسخ في شعورنا أن بقاء الدول مرهون ببقاء حكامها وتخليدهم في الحكم، لأن أمن الدولة معلق بالرئيس وجودا وعدما، وهذا ما يحفّز الرؤساء بهذه الدول على تعديل الدساتير بما يتيح لهم التأبيد في الحكم، وهذا ما حرصت السلطة الحاكمة في الجزائر على ترسيخه في المخيال الشعبي طيلة 20 سنة من حكم الرئيس بوتفليقة وكادت أن تواصل هذا التنويم السياسي والفكري لخمس سنوات إضافية.
إن من صور اعتلال الحياة السياسية في المجتمعات الواهنة أنها تختصر كيان الدولة في شخص الرئيس المخلّص، وتتفانى في تكريس وتمجيد صورة الزعيم وتعليقها في الشوارع والمباني وعلى الشرفات وفي الطرقات وطبعها في الكتب المدرسية، وإضفاء هالة قدسية على حياته ومساره وأحيانا تُنسج الأساطير من حوله، حتى تُحْفَر فكرة المنقذ الذي لا بديل عنه في المخيال المجتمعي العام، بل كلما سقط صنم بشري استُبدِل بآخر بصفة لا شعورية وعفوية، لتَرَسُّخِ طبع القابلية للاستعباد والوهن النفسي والعجز الذاتي في نفوس الشعوب التي لا تطمئن إلا لكاريزما المنقذ الذي تُعَلِّقُ عليه آمالها وطموحاتها، فتَشْرَئِبُّ له الأعناق، وتنقاد له بكل وفاق، وهذه الحالة المرضية نجدها في أحوال بعض شعوبنا العربية بعامّة، وقد تكونت عبر تجاربها التاريخية وتحولاتها الاجتماعية والسياسية ونوعية الموروث الثقافي الحاكم على نظم التفكير لديها، والعادات السلوكية لهذه الشعوب خصوصا الموروثة من عهد الإحتلال، التي طبعت فيها نزعة “الإعتمادية” و”الاتكالية” و”القدرية” و”التبريرية” وهو ما يفسر شيوع بعض الاستخدامات اللغوية كعبارة “الله غالب” كنوع من الإقناع الذاتي لأنفسنا للرضا بالواقع الرديء وتبرير منطق الخنوع والتهرب من مسؤولية الإصلاح والتغيير.
رغم أن نبي الإسلام قد حرص على تطهير المجتمع العربي الأول من هذه التشوهات الفكرية والعاهات السياسية التي تعتبر الحافز الرئيس للإستبداد السياسي والتسلط الحكمي، ونمو نبتة العظمة والغطرسة لدى الحاكم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) رواه البخاري. وقال: (لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا) رواه البخاري. وقال: (إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ) رواه مسلم. وقال في السجود للأمراء والحكام: (لا تفعلوا كما تفعل أهل فارس بعظمائها) صحيح الجامع. وإِخَالُ أن ارتداد المجتمعات العربية عن هذه الفطرة السوية راجع إلى سببين رئيسين:
1-غياب الوعي السياسي العميق لدى فئات كبيرة من الشعوب العربية وانخفاض نسب التعليم والقراءة ومستوى البحث العلمي الذي يسهم في تنوير العقول وتغيير طبيعة الأفكار والنفوس من المنحى السلبي العدمي إلى المنحى الإيجابي العملي، وهو عامل ساهم في تكلس العقول واستعداؤها للفكرة والمنطق والانكفاء على الذات وعجز الإرادة وإصابتها بالوهن النفسي.
2-غياب مؤسسات دستورية فاعلة تقوم بمهام الحسبة والمراقبة الأمر الذي تسبب في تعطل حركية النظام السياسي وغياب فعاليته وتجدده عن طريق التداول السلمي على السلطة وشفافية الحياة السياسية، مما أدى إلى حالة النكوص والإنتكاس التي باتت تشهدها ساحات الفكر والحرية السياسية في البلدان العربية، حيث ما فتأت تغتال كل عقل مستنير ورأي ناقد وتَئِدُ الأفكار التي تحيي مَوَات النفوس وتبعث في الجثامين الحأنّطَةِ روح الوعي والإرادة الخلاقة المتوثبة والتوّاقَةِ للإنعتاق والإنبثاق.
وها نحن نرى في المقابل كيف أن الشعوب الواعية تراقب مسؤوليها وتنتقد سياساتهم وتقوّمها، وتحاسب الرئيس على الكبيرة والصغيرة، والقطمير والفتيل والنقير، وتؤلف الكتب والمقالات الناقدة لسياساته بل لسلوكياته الشخصية غير المنسجمة مع مقام الحكم والرياسة، وهو لا يزال على رأس الحكم ولَمّا يخرجْ بعدُ، وقد يسجن حال الإدانة المحققة، وتتحرك آلة المحاسبة والإعلام عقب أي تصريح يقوم به أو قرار يتخذه أو تصرف نشاز يصدر منه أو من عائلته، لتَعْرِضه على محكّ النقد والتمحيص والتقويم. في الوقت الذي تُكال فيه كل آيات المديح والتزلف للحاكم العربي الفاشل ولعائلته ونسله وتاريخه وخطاباته وصورته وكفاحه حتى يخيّل للشعب بأنه الحصن الأوحد، والمتفرد الذي لا يتعدد، والكل الذي لا شيء بعده، والأفق الذي لا مستقبل دونه، وعلى الرغم من فشله المتكدس في كافة المجالات، إلا أنه يحظى بالتعظيم والتضخيم لذاته وإنجازاته وسياساته؟
فكيف لا يتحول هذا الزعيم إلى إلاه مغرور ومستبد مَوْتُورٍ؟ عندما يجد جحافل من الرقيق والعبيد تزدحم على أعتابه لتقدم له فروض التملق والولاء، وتُنمّي في طبعه خسيسة الكبرياء، بكل آيات السجع والغلو والثناء. “فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ“، سورة الحج. إن معضلة مجتمعاتنا العربية المعاصرة في صناعة الأصنام والأوثان البشرية والتأسيس للاستبداد، هي أصعب وأعقد مما نتوقع…هي معضلة ضاربة في آباد التاريخ، وجذورها مخبوءة في ثنايا العقول والأفكار ودخائل النفوس، هي ركام هائل من الأفكار الميتة والمميتة والقاتلة والمخذولة والمرذولة التي تكلست حول مجاري الوعي حتى سدّت منافذ الفكرة إليه، وتكدست في النفوس واللاشعور حتى أصبحت ترتاح للاستعباد والدنيّة، وتضيق ذرعا بالانعتاق والحرية، إنه الجهل المؤسس والمقدس، الذي يجعل صاحبه عدوا لنور الفكرة وهائما في الشخصنة وتقديس المادة والأشياء، مُزْدَريًا لقيمة العلم والعلماء، وصدق مالك بن نبي رحمه الله حين قال: عندما تغيب الفكرة يبزغ الصنم. ورحم الله الشيخ البشير الابراهيمي حين قال:”محالٌ أن يتحرر بدنٌ يحمل عقلا عبدا!
(المصدر: مدونات الجزيرة)