بقلم الشيخ أحمد البان
ليس هناك أشأم على الحياة البشرية من طاغية لا يرى في الناس سوى مواعين لترضية غروره وإشباع غرائزه النفسية والبدنية، إنه أخطر من القحط وسني الجدب وكساد التجارة، وأشأم منه البطانة التي صنعته، حيث إن الطاغية لا يصنع نفسه، لكن يصنعه أذلاء النفوس المتملقون الذين يحيطون به ويملؤون رأسه بأوهام كاذبة عن نفسه، ولولا بطانات السوء التي تشرِّع وتهون للحكام طغيانهم لما ذاقت البشرية ويلات الاستبداد.
إن كل طاغية هو صناعة بطانة سيئة تتشكل عادة من عالم دين وتاجر ربا وصاحب بيان، فعالم الدين يشرع الظلم بفتاويه والتاجر يشري الذمم بأمواله وصاحب البيان يقلب الحقائق ببلاغته، والثلاثة يشكلون بؤرة جذب استبدادي تأرز إليها النفوس الضعيفة من ناشئة الفقهاء الباحثين عن الشهرة وصغار التجار الساعين للربح وهواة الكتاب والشعراء اللاهثين خلف الشهرة والمكانة، فيتشكل من تحالف الثلاثة مجتمع مريض تسري عدواه في بقية المجتمع، فتنشأ فيه كل الرذائل الخلقية وهي بضع وكذا شعبة أعلاها التزمير للحاكم وأدناها اليأس من الإصلاح والصمت عن منكرات التدبير السياسي شعبة من النفاق.
والطغيان مرض نفسي –في الحقيقة- يفقد صاحبه كثيرا من خصاله النفسية الإيجابية التي أوصلته في تدافع شاق إلى سدة الحكم، فيصبح دمية في يد البطانة التي تحيط به حاجبة عنه كل شيء إلا ما يرضي غروره وكبرياءه، مسكين هو والله، ينظر إلى نفسه حاكما له الأمر كله، وتنظر إليه البطانة صبيا في سنوات الحجر يعطى ما يطلبه دون أن يعرف عن الحياة من حوله إلا ما يمنحه أبواه من نزهة في حديقة أو سير في شارع آمن ساعة من نهار، لذلك كثيرا ما يكون المستبدون أجهل الناس بالواقع الاقتصادي والاجتماعي لشعوبهم.
يروي عالم الاجتماع الإيراني إحسان نراعي في كتابه “من بلاط الشاه إلى سجون الثورة” قصة تثير الشفقة، وذلك في حديثه مع الشاه بعد اندلاع الثورة وقبل سقوطه النهائي، كان إحسان يحدث الشاه عن الدوافع الاقتصادية للمحتجين، وأن المجتمع الإيراني أصبح بفعل سياسات النظام الجائرة مقسما إلى طبقتين؛ إحداهما ثرية ثراء فاحشا والأخرى فقيرة فقرا مدقعا، واستظهر على ذلك برسالة بعثها معه سائقه إلى جلالة الملك: “سأعطيك مثلا: سائقي، وهو موظف في وزارة التعليم العالي، قال لي حين كنا في الطريق إلى هذا القصر: “أتعتقد أن جلالته يعلم أني لا أتقاضى بعد عشرين سنة من الخدمة أكثر من 1500تومان، وتوسل إلي كي أريك بطاقة الراتب، نهضت عن مقعدي وناولته بطاقة الراتب التي نحن بصددها، لكن لم يبد عليه أنه كان راغبا في إمساكها بيده، أرغمته عمليا على أخذها ثم جلست أراقب بانتباه الطريقة التي كان يتفحصها بها،ـ بدا لي في هذه اللحظة مثيرا للشفقة بشكل خاص، كان واضحا أنه لم ير في حياته بطاقة راتب من قبل، بالإضافة إلى ذلك لم يكن قادرا على تصور ما يعنيه مبلغ 1500تومان، قلت له لأنقذه من حرجه: بهذا المبلغ يعجز المرء عن استئجار شقة بغرفتين في الحي الجنوبي”.
والتغييب عن الواقع أول طرق بطانات السوء لصناعة الطاغية الذي يجد نفسه بعد فترة غير قادر على إصلاح الواقع الذي يكتشف سوءه فجأة، والنفوس المريضة حين تعجز عن تحقيق السمو تتمنى السقوط للجميع، حيث يصبح تحقيق أي شخص للسمو الذي عجزت عنه قصيدة هجاء مقذعة في حقها، وكذلك الطاغية حين يعجز عن الإصلاح يتحول تلقائيا إلى معاداته وكراهية الحديث عنه وتنشأ لديه عزيمة على مقاومته، ذلك بأن كلمة الإصلاح بالنسبة له تصبح مرادفة لـ(العزل والثورة)، فيسمي المنادين بها خارجين على الحكم، والساكتين على منكراته مواطنين صالحين.
الطريقة الثانية التي تصنع بها البطانة السيئة طاغيتها صنعا هو المدح الجزافي والثناء الكاذب، ولأن الطاغية –كما أسلفت- مريض نفسي، فإنه يستمرئ ذلك الثناء مع يقينه بأنه كاذب، وتلك إحدى صفات النفوس المريضة التي تحدث عنها القرآن “يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا”، ومع تكرار أوصاف المدح والثناء يخيل للطاغية أن ما يسمعه حقيقة فيتضخم (أناه)، و”تضخم الأنا” رذيلة خلقية تنبت فوقها كل خصال السوء في النفس البشرية، ذلك أن صاحبها يهب لنفسه من خصال الخير ما هو متخلق بضده، بل ويحسب نفسه خلق من معدن غير الطين الذي عجنت منه خميرة كل بني آدم.
وفي التاريخ العربي قصة دالة على هذه الحالة التي تقع للطاغية فتصيب قوى التوازن النفسي لديه، فيتحول إلى بالون يمكن نفخه وتفجيره لمن يملك شدقا وحفنة هواء، وقد استطاع أحد دهاة الخوارج أن يستغل هذه الحالة النفسية للطغاة وينجو بها من بطش المختار بن أبي عبيد الثقفي الذي كان يدعي الألوهية.
كَانَ سراقَة الْبَارِقي شَاعِرًا ظريفا زوارا للملوك حُلْوَ الحَدِيث فَخرج فِي جملةٍ من خرج لقِتَال الْمُخْتَار بن أبي عبيد الثقفي فَوَقع أَسِيرًا فَأتي بِهِ الْمُخْتَار، فَلَمَّا وقف بَين يَدَيْهِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِير آل مُحَمَّد إِنَّه لم يأسرني أحد مِمَّن بَين يَديك، فَقَالَ وَيحك فَمن أسرك: قَالَ رَأَيْت رجَالًا على خيل بلق يقاتلوننا مَا أَرَاهُم السَّاعَة هم الَّذين أسروني. فَقَالَ الْمُخْتَار لأَصْحَابه إن عَدُوَكُمْ يرى من هَذَا الْأَمر مَا لَا ترَوْنَ. ثمَّ أَمر بقتْله، فَقَالَ: يَا أَمِير آل مُحَمَّد، إِنَّك لتعلم أَنه مَا هَذَا وَأَن تقتلني فِيهِ، فَقَالَ فَمَتَى أَقْتلك؟ قَالَ إِذا فتحت دمشق ونقضتها حجرا حجرا ثمَّ جَلَست على كرْسِي فِي أحد أَبْوَابهَا فهناك تَدعُونِي فتقتلني ثمَّ تصلبني. قَالَ الْمُخْتَار: صدقت، ثمَّ الْتفت إِلَى صَاحب شرطته فَقَالَ وَيحك من يخرج سري إِلَى النَّاس ثمَّ أَمر بتخلية سَبيله. فَلَمَّا أفلت أنشأ يَقُول وَكَانَ المختار يكنى أَبَا إِسْحَاق:
أَلا أبلغ أَبَا إِسْحَاق أَنِّي***رَأَيْت البلق دهما مصمتات
أُري عَيْنيَ مَا لم ترأياه***كِلَانَا عالمٌ بالترهات
كفرت بوحيكم وَرَأَيْت نذرا***عَلَيَّ قتالكم حَتَّى الْمَمَات
إن سراقة استطاع أن يعزف للمختار على وتره الحساسK وأن يسول له ما لم تسوله له نفسه من أمل في ملك عريض ومقام رفيع، فنجا سراقة بدهائه حين عرف المدخل النفسي ونقطة الضعف لدى المختار بن أبي عبيد الذي كان يخلق لأتباعه أوهاما يراها ضرورية لاستمرار إيمانهم به، فنجا سراقة وترك للمختار أوهامه وترهاته، وهذا ما تفعله بطانة السوء بالحاكم أو الوزير أو المدير فتكسب منه لدنياها وتتركه في أوهامه يخبط بلا دليل.
تلك مكونات معامل صناعة الطغاة والمستبدين، بطانة سيئة هي في الحقيقة شريك في الجرم، بل هي أحق بالمقاومة والفضح من الطاغية نفسه، لأنها باستمرارها ستنجح في الإحاطة بكل حاكم وتحويله إلى طاغية تستفيد هي منه لقاء تدمير وطن وشعب وأمة، وقد صدق الشاعر حين ساوى بين الاثنين في تحمل تبعات الفساد السياسي والديني:
وهل أفسد الدين إلا الملوك***وأحبار سوء ورهبانها
(المصدر: إسلام أونلاين)