مقالاتمقالات مختارة

صناعة الرأي العام المضلل

صناعة الرأي العام المضلل

بقلم د. ياسر عبد التواب

من المشكلات الحقيقية أن دولا وجماعات متنفذة تتخذ من تضليل الرأي العام صنعة …تسخر لها الإمكانات الهائلة للدول وتجرد لها خبراء نفسين وإعلاميين ويفرغ لها منابر ويطلق لها جيوشا إلكترونية وتبدأ بإشاعة ثم يتم ترويجها والحوار حولها وكأنها حقيقة ويتم خلطها ببعض المعلومات الصادقة وتدفع لقادة رأي مضللين ويفسح لهم المنابر والأوقات والإمكانات ويتم التخديم على ذلك فهناك مفسر وهناك مروج وهناك ناقل الخ من أجل صناعة ذلك الرأي العام المضلل بدأ بادعاء مرض شخصيات مشهورة أو وفاتها أو تورطها ومرورا بتغييرات وزارية أو تغيرات أسعار أو نفاذ سلع أو قصور الاحتياطات النقدية أو انقسامات أو تصدعات وانتهاء بأزمات كبرى تلوح بالأفق ( اقتصادية عسكرية سياسية الخ )

ولقد اتخذت حكومات كثيرة تدابير تجاه ما يشاع ضدها بتخصيص مراصد للإشاعات تابعة لمراكز دعم القرار وقد تقوم بعض منظمات المجتمع المدني بأدوار مشابهة

وللدقة فإن نفس المرض قد يصيب الجهات المعارضة أو راغبي الشهرة ومروجي الأخبار وحطاب الليل ومتتبعي الفضائح في الإعلام الجديد وغيره

وهذه الصناعة تعتمد على الإشاعات وترويجها بشكل أساس سواء بإشاعات كاذبة من الأساس أو يكون أصلها حقيقي وتفصيلها مبالغ فيه أو كاذب وربما

ومشكلة هذا التدخل هو أن الرأي العام ومن ثم بناء الفكر الجمعي وترسيخ القواعد الاجتماعية والثقافية؛ يصاب بمقتل بعدما يفقد الجمهور الثقة في كل ما يقال له وكذا بأن يتم تبرير القوانين المجحفة والأفعال المشينة والأخطاء الكبرى والعوارات القانونية فتحل محل الرعاية الصحيحة للفكر والشفافية في الحكم وصحة الإجراءات وقانونية التصرفات ووضع الخلافات في حجمها الطبيعي

وقد يكون الحدث أو المعلومة مجرد اختراع كتبه كاذب ونقله مروّج وقع ضحية لحسن نواياه. بل وقد يقوم مروّج الإشاعة بوضع أسماء وشخصيات وهمية لتأكيد صحة الأخبار التي يذكرها، فيقتنع بها القارئ ليقوم بنشرها دون التثبت من وجود هذه الأسماء في كرتنا الأرضية. فالخبر الموثوق هو الذي يحوي مصدرا واضحا وصريحا يمكن الرجوع له، فتوضع الروابط للمصدر، أو سبل للتواصل، ووقتها من مسؤولية المفكرين وأصحاب الثقافة أن يتصلوا بالمصادر والهواتف أو يراجعوا الروابط للتأكد من صحة الخبر ومن قبل ترويجه والدعاية له إن كان في ذلك مصلحة عامة

وتبرر الدول والجماعات ذلك التدخل بأنها تواجه حروبا شرسة ولابد لها من استخدام كافة السبل لمكافحة ما يحاك ضدها. والغريب أن تخلط الحكومات بين مصلحة الدولة وبين الترويج للحكومة فيصير كل معارض للحكومة ومخالف لها مناوئا للدولة وربما عدوا لها. وبكل حال فهناك إشاعات ذات أهداف سياسية كالإشاعات الهجومية أو الاتهامية التي تطلقها قوى سياسية معينة ضد قوى سياسية أخرى، وكالإشاعات الانصرافية والتي تطلقها الحكومات بهدف صرف أنظار الناس عن قرارات وأحداث معينه، تفترض أنها قد تلقى معارضه منهم، غير أنها في التحليل النهائي تأتي بنتيجة معاكسة، إذ هي بذلك تساهم في إيجاد بيئة مواتيه للإشاعات ومنها الإشاعات المضادة لهذه الحكومات.

وهناك إشاعات ذات أهداف اقتصاديه كالتأثير على أسعار مواد السوق لتحقيق مزيد من الأرباح، وهناك إشاعات ذات أهداف عسكرية، فالإشاعة من أخطر أساليب الحرب النفسية، وقد تستخدم بهدف رفع الروح المعنوية للجيش (الدعاية البيضاء)، وإضعاف الروح المعنوية للعدو (الدعاية السوداء)

ويقول الكاتب ياسين الحاج صالح متحدثا عن خبراته الشخصية ورصده-أثناء اعتقاله في سجون سورية-لهذا الموضوع من جوانبه المتعددة كمصدر الإشاعة وتلقيها لدى أجزاء من الجمهور: كلمة إشاعة تحيل إلى فاعل قام بنشر المعلومة غير الصحيحة أو “إشاعتها”، وإن يكن الفاعل غير معروف، فيما تبدو الشائعة ذاتية التولد، معلومة غير صحيحة تنتشر بجناحيها الخاصين في أوساط بعينها. لكن في واقع الأمر، الشائعات لا تتولد ذاتيا، وليس هناك شائعات لا يعمل على إشاعتها مُشيع ما لغرض ما. كل الشائعات إشاعات أصلا. وفي الوقت نفسه، لا تعيش الإشاعة حياتها الاجتماعية، أعني لا تروج في وسط اجتماعي، في بيئة شيوع أو في “مَشاعٍ” ما، إلا إذا انفصلت عن مشيعيها، وتعذرت نسبتها إلى مصدر بعينه. بهذا المعنى كل الإشاعات شائعات.

وهذا يثير سؤالا عن فاعل الإشاعة/ الشائعة: هل هو المُشيع الغامض الذي أطلقها؟ أم هو بيئات الشيوع التي تتداولها وتشيع في أوساطها؟ نميل إلى أنه بعد شيوع الإشاعة واستقلالها بحياة خاصة بها يتحول الفاعل من مشيعها الأول إلى بيئة الشيوع التي تضيف إليها وتعدل فيها وتحذف منها، بحيث تنفصل الإشاعة كثيرا في مضمونها وفي وظيفتها عن صيغتها الأولى.

وفي حالتنا كسجناء سياسيين في زمن سبق، من المحتمل أنه كان هناك مصدر ثالث للشائعات عن قرب خروجنا من السجن، غير نقص المعلومات وغير التضليل المتعمد، هو قنوط الأهالي وآمالهم، وقنط السجناء وآمالهم أيضا. يحول الناس أشواقهم إلى وقائع، أو يعبرون عنها بصورة تصلح للتعبير عن وقائع. إنهم هم فاعلو الشائعة، ليس بمعنى أنهم هم من أطلقوها، ولكن بمعنى أنهم يوظفون فيها عواطف وأحلاما، تساعدهم على تحمل العيش في أوضاع قاسية. لقد صارت ملكهم. في إحدى الزيارات بعد سنوات من اعتقالي، قال والدي: أيام السجن معدودات! وهذا قول مأثور، فحواه أن زمن السجن مهما طال يبقى متناهيا. نقلت لرفاقي ما قال والدي، فبدا أشبه بمعلومة، وصِرت أسأل عن مصدرها! الحاجة إلى الأمل تنتج معلومات مواتية وعالم أقل إحباطا.

ويضيف: وكان من مألوف الإيديولوجية البعثية السورية أن تحول “تحليلاتها الموضوعية” إلى وقائع فعلية. فإذا كنتَ “معاديا للوطن” ومنخرطا في “المؤامرات الخارجية” عليه، يستوي أن تكون لديك فعلا “عصابات مسلحة” أو لا تكون، أن تقيم فعلا في السفارة الأميركية أو لا تقيم؟ المهم هو “الشراكة الموضوعية” وخدمة الهدف نفسه. فإذا كنا شركاء، فلماذا لا تكون “العصابات المسلحة” عصاباتي فعلا؟ ولم لا أكون مقيما في “السفارة الأميركية”؟

وما أهمية الوقائع الفعلية، إن كان المخطط العام معروفا؟ المقصد العميق المنبث في الأحداث والوقائع؟ من شأن الإلحاح على الوقائع الفعلية أن تشوش وضوح المخطط، “المؤامرة”، التي هي الواقع الحقيقي. هنا تكون الشائعة هي الواقع الأصح من الوقائع القابلة للمعاينة…)

إذن لا بد أن يتعلم المجتمع كيف يميز الأخبار والمعلومات التي تصل إليه ويدرك أهمية التعرف على مصدرها وفهمها بوعي وتمحيص لها بعد ذلك لئلا يقع فريسة لتلك الشبهات ويكون مروجا لها دون أن يدري.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى