بقلم زدروني سومية (مدونة جزائرية)
على أَرْصِفَةِ الخِزْيِ أجلسُ أنا والآلاف بل الملايين، بِعيونٍ جَاحِدَةٍ وأفواه مفتوحةٍ، بقلوب معلقة وعقول مشوشة، ننتظر القطرة التي تطفئ هذا اللَّهِيب الذي استعمر بيوتنا منذ ليلة الأربعاء، خبر نَسفَ بِكُلٍّ ما نحمله من آمال عربية وإسلامية وقومية، نَقْضِمُ أصابع التصريحات السياسية التي أصبحت أسرع من الضَّوْءِ و الصَّوْتِ مَعًا، نَنْتَظِرُ و يطول انتظارنا، ونَصْمُتُ و يؤلمنا الضَّجِيجُ الذي بصدورنا، ولا أَحَدًا يود أن يُرَتِّبَ هذه الأوطان التي أضحت مُعَرَّضَة للزلازل السياسية، ولا دخل لِسِلْمِ ريشتر في اِرْتِفَاع صدمتها، نركل تحت الأنقاض نصارع رُكَامَ الخيبات.
عند كل أَزْمَةٍ عربية يَسْقُطُ البعض من حسابات البشر، تَنْكَشِفُ الوجوه الحقيقة، وتَطْفُو المصالح والمقاعد فوق سطح الحدث، بين الصَّمْتِ والتَّخَاذُلِ، هنالك علاقة متجددة بين المُفْتِي والحَاكِم، تُرْبُطُ في القصور والغُرَفِ المغلقة، لتخرج للعلن في شكل عباءة مزينة بِالتَّرْغِيب، أو عمامة مدنسة بِالتَّرْهِيب، مَخَافَةُ الخروج عن أوامر الحاكم.
لا حياة لمن تُنَاجِي، أنت المبحوح من النَّحيب، وَالمَشْلُولُ من كثرة الوقوف أمام التلفاز، تُقَلِّبُ القنوات بَحثًا عن شَيْءٍ وحيد، تُغَيَّرُ في الثانية ما لا يُعِدُّ من القنوات، تَتَحَرَّى الوجوه والتصريحات، كطفل يبحث عن الباب في غُرْفَةٍ مُغلقةٍ بإحكام، تُضيرك سلسلة الأخبار المتلاحقة، فترمي بك التكنولوجية للهواتف الذكية، بين مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات الرسمية، يَشِيبُ رأسك ،وتَنمو التَّجَاعِيدُ بوجهك، وأنت تَعْبَثُ بسبابتك كالتائه ببوصلة معطلة، لا شيء يقفز في الأزرقين يُبَدِّدُ هذا الأسود الذي اِلْتَحف صمتنا.
الدَّاعِيَةُ الذي كُنَّا نَتَوَسَّمُ في شخصه إصلاح من وَظَّفُوه، تُحَوِّل إلى ضارب دَفِّ على ايقاعات الأوامر الفَوْقِيَّةِ والتعليمات العليا
مَا إِنْ تبدأُ في السؤال عنهم، والتَّفْتِيش عن تعاطفهم، حتى يخرج لك غِلْمَانُهُمْ من كل مكان، يحفظون جملة واحدة، بعد أن لِقُنِّهَا لهم شيوخهم، لُحُومُ العلماء مسمومة، فماذا عن لُحُومُ المسلمين الَّتِي تنهش كل يوم؟ تحت مجهر فتواهم، وماذا عن التاريخ الذي مُزِّقَ منذ أيام، وعن قُدْسٍ تُغتصب في هذه الأثناء، عن حَقٍّ يُعطى لغير أهله، وعن وَطَنٍ يُسلم لغير شعبه، كل هذه اللُّحُومُ مباحة، ما دَامَتْ لا تُخَدِّشُ لحية سوداء مخضبة بالدولار، وَمُعَطَّرَة بالتجاهل المَسموم.
ذَهب أحدهم إلى الجَوَارِب مَسْحًا أم نَزْعًا لِصحَّةِ الوضوء، والآخر صَنع من العقوق خطبة فوق المنبر، وشرح بِرِّ الوالدين بِالتَّفْصِيلِ الممل، ليظهر ثالثهم ويحاضر في التَّسامح والتَّصالح والتَّعايش بين المسلمين واليهود، والرَّابِعُ معتكف يُخَيِّطُ للأمة الإسلامية لباسًا حسب مَقَاسٍ أَمْرِيكِيٍّ عَرَبِيٍّ مُتَوَاطِئٍ، ولا أحد منهم اِنْتَبَهَ لظهورنا العارية ولا لوجوهنا المُسْوَدَّةُ، التي تكاد تصل الأرض من شِدَّةِ الخجل.
قال الشَّيْخ العثيمين رَحِمَهُ الله “العلماء ثلاثة أقسام: عالم المِلَّة وعالم الدَّوْلَة وعالم الأُمَّة”، فَغَابَتْ الأولى عن البعض، وحضرت الثَّانية والثَّالثة عند كُلِّ هَزَّة عربية، وكأن الله يود أن يُسْقِطَ الأقنعة عن المحتالين والسارقين والفاسدين، يود أن يُعِيدَ توجيهنا من جديد، فلا العباءة تصنع العَالِمَ، ولا العقال يصنع الورع، وحتى الكلام المعسول، والفتاوى التي تواكب موضة الانحلال، ما عادت تصلح لهذا الجيل الذي أصبح يخاف الدُّعَاة، ويَتَحَسَّرُ على صمتهم المدان قبل كلامهم المُهِين.
مُصِيبَتُنَا اليوم مصيبتان بَلْ عَشَرَاتُ المصائب، فالحاكم الَّذِي يَحْمي العروبة والإسلام، بَاعَ القُدس وخَان، تَخَلَّف بالأمس عن القِمَّة الإِسْلامِيَّة، تَارِكًا شعبه في ذهول، والدَّاعِيَةُ الذي كُنَّا نَتَوَسَّمُ في شخصه إصلاح من وَظَّفُوه، تُحَوِّل إلى ضارب دَفِّ على ايقاعات الأوامر الفَوْقِيَّةِ والتعليمات العليا، وما على التَّائِهِينَ في بقاع التَّخَاذُل سوى الموت في الأكفان بصمت، أو النَّحِيبُ في العلن وهضم اللُّحُوم المسمومة بعد أن تحولت إلى سَمٍ نَتَجَرَّعَهُ، ونحن ننتحر مع كُلِّ قرار من راعية السَّلَامِ نَهَشَا في لُحُومِ المُسْلِمِينَ في كُلِّ مَكَانٍ.
(المصدر: مدونات الجزيرة)