صمتٌ مخجلٌ.. أين غضب العالم من إرسال الروهينجا إلى الموت؟
بقلم أحمد مصطفى الغر
قد يكون الحدث مقيتًا، لكنه يظل تذكيرًا مفيدًا وضروريًا بالحقائق القائمة التي قد ننساها في ظل زحام الأحداث اليومية، إنها المأساة الجديدة التي يواجهها المسلمون الروهينجا، فبعدما نجا بعضهم من الموت في ديارهم في ميانمار، بات على الآلاف منهم الآن أن يواجهوا خطر الترحيل من بنجلادش التي لجأوا إليها سابقًا، حيث سيُنقلون إلى جزيرة نائية ظهرت إلى الوجود وسط خليج البنجال قبل 20 عامًا، وهى جزيرة معرضة على الدوام للفيضانات وظروف الطقس السئ. هنا تتبادر الأسئلة إلى الذهن.. كيف يمكن للإنسان المستضعف الهارب من مواجهة عنف البشر أن يُدفَع به لمواجهة عنف الطبيعة وثورتها؟، متى نرى الهيئات الدولية تهبّ إلى العمل لوضع حد لأعمال القتل وتجلب الجناة إلى العدالة بغض النظر عن هوية الجاني أو الضحية؟، لماذا لا تجد أصوات الروهينجا سوى آذان صماء في الخارج؟، وهل كانت هذه المأساة لتُقَابل بهذا الصمت لو كان الضحايا يهودًا أو مسيحيين أو حتى بوذيين؟!
بحسب بنجلادش فإن نقل اللاجئين إلى الجزيرة التي تسمى بهاسان شار، يتم فقط لأولئك الذين وافقوا على الذهاب طواعيةً، وهو من شأنه أن يخفف من التكدس الشديد في مخيماتها التي تضم أكثر من مليون لاجئ من الروهينجا، الفارين من جحيم ميانمار، لكن طبقًا لتقارير أخرى فإن المُرحّلين إلى الجزيرة قد تمّ إجبارهم على الترحيل، كما أن تلك الجزيرة لا تصلح لمعيشة عدد كبير من الأشخاص، وإلا ستنتج كارثة إنسانية جديدة هناك، خاصةً وأنه خلال النصف عقد الماضي، قتلت العواصف والأعاصير مئات الآلاف في منطقة نهر ميجنا التي تقع فيها تلك الجزيرة النائية، الأمم المتحدة نأت بنفسها عما يحدث وقالت إنها لن تشارك في عملية النقل، بحجة أنها لم تتلقى معلومات كافية بشأنها، وادعت أنها لم يُسمح لها بإجراء تقييم مستقل لأمن وجدوى واستمرارية الحياة على تلك الجزيرة، لكن بماذا استفاد اللاجئ الروهينجي المرّحل قسريًا إلى تلك الجزيرة من هذا التهرب من المسؤولية الذي تمارسه الأمم المتحدة؟!
في أغسطس 2017، بدأت ميانمار (بورما) حملة عسكرية واسعة في ولاية راخين ضد مسلمي أقلية الروهينجا، وهو ما تسبب في هروب الآلاف منهم إلى بنجلادش، في إطار ذلك وقعت انتهاكات شنيعة على نطاق واسع، كان الإعلام غائبًا ـ أو مغيّبًا ـ عن الأحداث، لكن بحسب لجنة من المحققين المستقلين التابعين للأمم المتحدة فإن العديد من النساء والفتيات الروهينجا تعرضن للاغتصاب، 80% من تلك الحالات صنفتها اللجنة على أنها عمليات اغتصاب جماعي، هذا إلى جانب الاعتداء على الحوامل والرضع، وحرق المباني المتعمد والإخفاء القسري والابتزاز والقيود الشديدة على الحركة ونقص الغذاء والرعاية الصحية، كما كشف المحققون في تقريرهم عما أسموها مؤشرات على الإبادة الجماعية لدى جيش ميانمار، وأن الساسة والزعماء البوذيين وقادة الجيش كانوا يباشرون بأنفسهم أعمال العنف طبقًا لخطة ممنهجة للتدمير والوحشية الصارخة التي اتسمت بها الحملة الأمنية، ولم يتم محاسبة أي شخص من حكومة ميانمار على تلك الجرائم حتى الآن، سواء جرائم القتل والتعذيب أو الجرائم المرتبطة بنظام الفصل والتمييز، والذي يشبه إلى حد كبير “الأبارتايد” أو نظام الفصل العنصري الذي كان مطبقًا في جنوب إفريقيا.
في المتحف الوطني في يانجون، قامت حكومة ميانمار بوضع صور مبتسمة لـ135 وجه يمثلون الأقليات الإثنية الرسمية هناك، للأسف لا يوجد وجه يمثل الروهينجا بينها، وهذا أقل دليل يمكن من خلاله رؤية حجم التمييز وطمث الهوية حيث يشكل الزيف أساس الديكتاتورية البوذية التي تعيش فيها ميانمار، بنظرة سريعة لم يعد هناك تاريخ في بورما بعد الآن يحكي عن الروهينجا، حيث تخلو الكتب المدرسية والمكتبات عن أيّ شئ يخصهم، هناك يُنظر إلى الروهينجا إلى أنهم بشر بلا هوية، أو أقل من بشر، محرمون من الحصول على مواطنة ميانمار منذ عام 1982، حيث لا يدرجهم الدستور ضمن جماعات السكان الأصليين الذين من حقهم الحصول على المواطنة، ولا أبلغ من ذلك سوى حين وقفت الزعيمة السياسية لميانمار “أونج سان سوتشي”، أمام محكمة العدل الدولية مدافعة عن بلادها وجيشها، ومنتقدة الإدانة الدولية لها في موضوع الإبادة الجماعية للروهينجا، حيث لم تستخدم كلمة “روهينجا” أبدًا طوال مرافعتها، واستعاضت عنها بكلمات مثل مدنيين أو سكان أراكان.
تشكل مأساة الروهينجا مأزقًا بالغًا للضمير الإنساني، واختبارًا صعبًا لفعالية ومصداقية النظام الدولي الحالي، فالآلاف يُقتَلون ويُشرَدون ويُحرَمون من حقوقهم منذ سنوات، ولكن لا بواكي لهم، من المخزي أننا ونحن في القرن الحادي والعشرين، وفي ظل ثورة وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، تصرّ حكومة ميانمار على رفض الأدلة المصورة على وحشية جنودهم والمتطرفين البوذيين ويصفونها بأنها مزورة، للخداع الذي تمارسه ميانمار تاريخ طويل، ففي عام 1982 تم تشريع قانون المواطنة في ميانمار، الذي لم يجرد الروهينجا من الجنسية فحسب، بل حرمهم من حقوق العيش في الدولة من دون دليل دامغ على أن أجدادهم قد عاشوا في هذا البلد قبل الاستقلال، وهو مطلب يستحيل تنفيذه من الناحية العملية، وقد ترتب عليه حرمانهم من كافة حقوقهم، فهم محرمون من تملك العقارات وممارسة الأنشطة التجارية، وتُفرَض عليهم ضرائب باهظة بشكل تعسفي، ولا يجوز لهم مواصلة التعليم العالي أو تولي أيّ وظائف في مختلف الهيئات الحكومية، أما سياسيًا فهم محرمون من حق التصويت أو ممارسة أيّ نشاط سياسي، كما أنهم ممنوعون من التنقل أو السفر أو حتى الزواج بوثائق رسمية إلا وفقًا لاشتراطات معقدة، هذا بخلاف تشجيع البوذيين على الاستيطان في مناطق الروهينجا قبل ـ وإبان ـ الإبادة الجماعية، فالكراهية الموجودة تعكس بوضوح حجم الرفض للمسلمين على أرض ميانمار، إنه إنكار لحق الوجود بالنسبة لجماعة إنسانية بأسرها.
تعد أقلية الروهينجا المسلمة هى أكثر الأقليات التي تتعرض للظلم في العالم اليوم، ورغم اعتراف الأمم المتحدة بالانتهاكات التي تتعرض لها، إلا أن المواقف التي تتخذها في هذا الصدد لم تتطور إلى إجراءات تسهم في وقف تلك الانتهاكات، فالروهينجا لا يريدون من العالم سوى العدالة والعودة الآمنة إلى ديارهم ومزارعهم، التحقيقات الدولية ستستمر لبعض الوقت قبل الكشف عن الحقيقة الكاملة لما حدث، وقد تستغرق القضية أعوام طوال قبل أن تصدر محكمة العدل الدولية حكمها، لكن مهما كانت الأحكام فلن يكون بمقدورها أن تقدم الكثير للروهينجا الذين فقدوا كل شئ، ولن تعيد تلك الأحكام مهما كانت صارمة الآباء والأبناء والأحباء الذين تم فقدانهم، كما أنها لن تؤثر بشكل مباشر على طبيعة العيش البائس للأحياء منهم في المخيمات، يمكننا الحديث إلى ما لا نهاية حول الجرائم المرتكبة بحق الروهينجا، حيث تكمن مأساتهم الحقيقية في أنه طوال السنوات الماضية لم يتوقف العالم طويلًا على حجم الكارثة، وفيما يضطرون إلى الهروب المتكرر من الموت على أمل التمسك بأمل جديد في الحياة، يدفعهم من ظنّوا فيهم الأمن والآمان نحو الموت، فيما يقف العالم مثقلًا بالتعبُ والعجز، يشاهد المأساة في صمت ولا يحرك ساكنًا، باستثناء بيانات الشجب والتنديد.
(المصدر: مجلة البيان)